المختبر السياسي الأمريكي في العراق وتجربة (التغذية العكسية)

15-04-2007

المختبر السياسي الأمريكي في العراق وتجربة (التغذية العكسية)

الجمل:    يقوم التوازن المدني- العسكري في منطقة الشرق الأوسط على أساس الازدواج الثنائي القيمي لاعتبارات الأمن والتنمية، وعلى هذا النحو تشكلت في منطقة الشرق الأوسط النخب الحاكمة التي تصدت لقيادة الدولة في مرحلة ما بعد الاستقلال التي امتدت طوال فترة الستين عاماً الماضية.
• العلاقات المدنية- العسكرية:
بدأت فكرة العلاقات المدنية العسكرية تظهر أكثر فأكثر خلال فترة الامبراطورية البروسية، وذلك عندما برزت للوجود ظاهرة العسكري المحترف، والفصل بينه وبين المدني المحترف، وأعقب ذلك تطور هذه الاحترافية ضمن النظم السياسية الأوروبية الغربية، وصعود أنظمة الحكم الليبرالية القائمة على الأحزاب والانتخابات وحرية التعبير الليبرالي.
أما في البلدان العربية، فقد كانت معطيات خبرة التطور التاريخي مختلفة عن التجربة الأوروبية، وذلك بسبب ارتباط نمط القيادة العسكرية بالقيادة السياسية والدينية في المراحل المختلفة التي تشكلت وتبلورت عبرها القيم السياسية العربية، فقد كان على سبيل المثال: خالد بن الوليد قائداً عسكرياً وسياسياً ودينياً في وقت واحد.
• واقع العلاقات المدنية- العسكرية قبل غزو العراق:
شهدت الفترة الممتدة من لحظة نيل الاستقلال وحتى عشية غزو العراق الكثير من التطورات في مجالات التنمية السياسية والاقتصادية، وتنوعت خبرة النخب العربية في هذه الفترة، منقسمة إلى:
- بلدان انتهجت بشكل غالب النمط الشمولي، مثل: مصر، ليبيا، الجزائر، المغرب، الأردن، العراق، سورية.
- بلدان انتهجت بشكل غالب النمط التعددي، مثل: لبنان، وبدرجة أقل المغرب واليمن.
وتؤكد الشواهد الماثلة بأن البلدان التي انتهجت النمط الشمولي كانت الأوفر حظاً في تحقيق النمو الاقتصادي وذلك على عكس البلدان التي انتهجت النمط التعددي الليبرالي، مثل: لبنان الذي أدت فيه التعددية الليبرالية إلى الحرب الأهلية والدمار الذي عصف بمعظم المنجزات الاقتصادية، على النحو الذي أسفر حتى عن تراجع التنمية السياسية.
• بناء النماذج الاستراتيجية: معطيات وتداعيات ما بعد غزو العراق
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الاشتراكية، شهد النظام الدولي حالة من السيولة أدت إلى الكثير من الاضطراب في الأنساق الدولية الرئيسية والفرعية، وحاولت الولايات المتحدة الانفراد بقيادة النظام الدولي بما يؤسس نمط القطبية الواحدة في تسيير وتوجيه العلاقات والتفاعلات الدولية.
الغزو والاحتلال الذي تعرض له العراق، هدف من الناحية المعلنة إلى إسقاط النظام وبناء نظام سياسي تعددي ليبرالي حليف للغرب، يقوم على فصل المدني عن العسكري.. أما من الناحية غير المعلنة، فلعملية غزو العراق جانب أكثر عمقاً يتمثل في (زراعة) نموذج استراتيجي سياسي تنتقل عدواه العابرة للحدود بما يؤدي إلى تغيير منظومة القيم الاجتماعية- الاقتصادية التي تأسست عليها كامل التجربة السياسية في منطقة الشرق الأوسط.
• تداعيات النموذج:
لم يكن التغيير من النموذج القائم في العراق إلى النموذج الأنجلوساكسوني الجديد سهلاً، وسلساً كما توقعت الإدارة الأمريكية، وذلك لأنه عندما قامت قوات الجيش الأمريكي بغزو واحتلال العراق، والقضاء على (عسكره)، اصطدمت بالمدنيين العراقيين والذين تحولوا إلى (عسكر) عراقي جديد ألحق خسائراً بالقوات الأمريكية تفوق ما ألحقه (عسكر) النظام السابق، الأمر الذي أدى إلى إفشال مشروع المختبر الأمريكي لبناء النظام الليبرالي الأنجلوساكسوني في المنطقة العربية.
حاولت مراكز الدراسات الأمريكية الترويج لأطروحة إمكانية التسويق للتجارب السابقة التي تمخضت عن احتلال القوات الأمريكية لليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وما أعقب ذلك من تنمية اقتصادية سياسية أدت إلى نشوء أنظمة رأسمالية ليبرالية في كل من اليابان وألمانيا.
وتحت ضغوط ومرارة تجربة الـ(مختبر) السياسي الأمريكي في العراق، اصطدمت الإدارة الأمريكية بـ(التغذية العكسية) والتي أدت إلى نشوء المزيد من الضغوط داخل أمريكا، على النحو الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى محاولة ردع هذه الضغوط عن طريق إصدار القوانين الصارمة والحد من الحرية الليبرالية الموجودة داخل أمريكا، وبالفعل أصدرت الإدارة الأمريكية قانون الأمن الوطني، وتحاول حالياً تمرير قانون التنصت على المكالمات والبريد داخل أمريكا بدون إذن قضائي، أي –على حد تعبير البروفيسور خوسودو فيسكي- تحويل أمريكا إلى دولة شمولية، وهذا معناه بكلمات أخرى التراجع عن النمط الأنجلوساكسوني القائم على الفصل بين الاعتبارات العسكرية والاعتبارات المدنية.
وعموماً نقول: تهدف المثالية السياسية إلى تخطيط وإعداد النماذج الاستراتيجية، وفرضها على الواقع، وتهدف الواقعية السياسية إلى استخدام المعطيات القائمة في عملية بناء النماذج الاستراتيجية، وتأسيساً على ذلك نقول: إن خطأ الإدارة الأمريكية وحلفائها يتمثل في عدم إدراك أنصار المثالية السياسية لطبيعة مدخلات النموذج الذي يحاولون فرضه على منطقة الشرق الأوسط.
التراجع والتدهور في تجربة النموذج السياسي المثالي الأمريكي في العراق سوف يلقي بظلاله وتداعياته، لا على العراق والمنطقة فحسب، بل وسوف يتردد صداه بقوة داخل الولايات المتحدة الأمريكية.. ويمكن أن نستعرض ذلك على النحو الآتي:
- التداعيات داخل العراق: سوف يستمر العنف والخراب والدمار والقتل طوال فترة بقاء القوات الأمريكية، ولن يتوقف دفعة واحدة برحيلها، بل سوف يستمر بشكل متقطع إلى حين استقرار العلاقات المدنية- العسكرية داخل القطر العربي العراقي، ويصل إلى درجة التوازن الكامل عندما تصل العلاقات المدنية- العسكرية إلى نقطة التوازن، والتي تتمثل حصراً عندما يتم القضاء على ظاهرة فراغ القوة والسلطة التي أدت إلى ظاهرة فراغ الأمن الوطني القومي العربي العراقي.
- التداعيات داخل منطقة الشرق الأوسط: تحت تأثير تداعيات التجربة الأمريكية في العراق، سوف تتفاعل وتتأثر الكثير من القيم السياسية السائدة في المنطقة، أبرزها فكرة التعددية السياسية، وتقليد النموذج السياسية الغربي الأنجلوساكسوني.. فالنظم السياسية الشرق أوسطية القائمة حالياً سوف تستمر لفترة أطول باستثناء النظم التي ارتبطت بتحالفات مع الولايات المتحدة، مثل: باكستان، والأردن، ومصر، والسلطة الفلسطينية، وحكومة السنيورة، والمغرب، وهي جميعها سوف تعاني الاختلاطات والاضطرابات وذلك لأنها دخلت في تحالف مع الإدارة الأمريكية يشوبه الاختلال والاضطراب واللايقين.

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...