المقدس وغير المقدس في محاضرة قداسة البابا

27-11-2006

المقدس وغير المقدس في محاضرة قداسة البابا

يبدأ البابا محاضرته الجامعية بالتعبير عن حنين الى خصوصية الجامعة التي قوضتها الاختصاصات الجامعية، أي الى العقلانية الواحدة التي تجمع بينها وتشكل اساساً للحوار بين الاختصاصات. إنه يدافع في الواقع عن الفلسفة واللاهوت كخاضعين للعقل العلمي نفسه الذي يحكم عمل الاختصاصات. وهو يعتبر الحياة الجامعية تجربة حياتية للاستخدام الصحيح للعقل بغض النظر عن الاختصاص. ويشكل قسم اللاهوت برأيه جزءاً من هذا التكوين لأنه يعنى ببحث "عقلانية الايمان"، حتى لو لم يتشارك في هذا الايمان جميع المعنيين في البحث. كل ذلك في مقدمة تذكّر فيها حياته الجامعية كمدرس في جامعة بون عام 1959. إنه يؤكد "استخدام العقل في إطار التقاليد المسيحية في طرح مسألة وجود الله نفسه في وجه الريبية التشكيكية". ولا شك في أنه كأستاذ جامعي منذ الستينات ما زال واقعاً تحت تأثير النقاشات التي ترفض اللاهوت كعلم جامعي.
هنا بالتحديد وهو يبدأ بالاشارة الى عقلانية الدين التي تبرر اللاهوت كعلم، يتذكر البابا حواراً قرأه اخيراً في كتاب حرره البروفسور ثيودور خوري من جامعة مونستر. وقد دار الحوار المفترض بين ملك بيزنطي ومثقف فارسي. ويقول البابا إنه من الواضح أن الملك كتب هذا الحوار كله عن حقيقة الاسلام والمسيحية بين الأعوام 1394 و1402 أثناء حصار القسطنطينية، ولا وجود في الواقع لهذا الفارسي. ولا يرغب البابا بتناول النص كله حول ثلاثة أنظمة او "قوانين الحياة" كما تسمى في هذا النص الكتب الثلاثة: العهد القديم والجديد والقرآن، وانما يؤكد انه يريد التطرق الى نقطة هامشية في النص ذاته. ويستدرك البابا قبل ان يقتبس انه لا بد من أن الملك كان على علم بالسورة القرآنية (لا إكراه في الدين).
البابا وليس الملك يقول ذلك. وهو، أي البابا، يقتبس عن الخبراء الذين يقولون إن هذه السورة من فترة مبكرة كان فيها محمد ضعيفاً وعاجزاً (يقصد مكية وهي في الواقع سورة مدنية متأخرة... إنه لأمر مؤسف ان يخطىء البابا هكذا في الاعتماد على المصادر). وطبيعي، يقول الحبر الأعظم، إن الملك كان على علم بالـ "فرائض التي صدرت لاحقاً وسجلها القرآن والخاصة بالجهاد المقدس". ليس هكذا يقدم المحاضر نصاً لا يوافق عليه. ثم ينتقل الى اقتباسه الذي اثار الناس: يخاطب الملك محاوره "بفجاجة مذهلة" (مقتبس من محاضرة البابا) حول القضية المركزية التي تخص العلاقة بين الدين والعقل والعنف بشكل عام: "ارني فقط ما الجديد الذي جلبه محمد. سوف تجد فقط أموراً شريرة وغير انسانية، مثل فريضة نشر الإيمان بالسيف". ثم يقول الملك: "لا يتم إرضاء الله بالدم. والسلوك غير العقلاني يناقض طبيعة الله... والعنف يناقض طبيعة الله وطبيعة الروح. يولد الايمان من الروح وليس من الجسم، وكل من يرغب بقيادة أحدهم الى الايمان يلزمه قدرة على الكلام والمحاججة العقلية دون عنف وتهديد... من اجل إقناع روح عاقلة لا يحتاج المرء الى ذراع قوية أو اسلحة من أي نوع، ولا الى أي أداة لتهديد شخص بالموت". ولا شك في أن ما قاله الملك عن الإسلام ينطبق عليه في لحظة ضعفه. فليس هكذا تكلم الأباطرة الرومان عن المسيحية في مرحلة قوتهم، ولم تتحول المسيحية مصادفة الى ديانة رسمية في الإمبراطورية الشرقية، ثم في دول أوروبا... لقد تحالفت المسيحية في حينه مع القوة.
وبرأي البابا فإن الجملة الاساسية في النص البيزنطي المحرر هي: "إن السلوك غير العقلاني مناقض لطبيعة الله". ويضيف المحرر ثيودور خوري ملاحظة يوافق عليها البابا، أن هذه الفكرة مفروغ منها بالنسبة الى الملك بصفته بيزنطياً متأثراً بالفلسفة اليونانية، أما بالنسبة الى المسلم فالله "ترانسندنتالي"، أي ينتمي الى العالم الآخر بشكل مطلق، إنه منفصل كلياً عن عالمنا، ولا يخضع لأي من مفاهيمنا بما فيها تلك العقلانية. لماذا قرر المحرر والمحاضر ان مثقفاً اسلامياً من القرن الرابع عشر لم يتأثر ولم يتفاعل مع الفلسفة اليونانية؟ هذا لغز لا استطيع له حلا، بخاصة أننا نعرف دور الفلسفة اليونانية في تشكيل الحضارة الاسلامية، ودور الترجمات الفلسفية العربية عنها في فلسفة القرون الوسطى والأديرة الاوروبية. وهنا يستشهد المحرر بابن حزم بواسطة المستشرق الفرنسي ارنالديز. وتصل آخرية الله عند إبن حزم حسب ارنالديز حد القول: إن الله لا يخضع حتى لكلامه ذاته، ولا شيء يجبره على كشف الحقيقة لنا... ولا شيء يجبر البابا على أن يكشف لنا لماذا أصبح إبن حزم الظاهري المرجع الأول والأخير عن عقلانية الله في الإسلام.
يدعي البابا أن لقاء المسيحية مع الفلسفة اليونانية لم يأت مصادفة إذ إن الانجيل يصل قمته في: "في البدء كان الكلمة – لوغوس، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله" في يوحنا الانجيلي. و"لوغوس" تعني عقلاً وكلمة في الوقت ذاته. ومن الرمزية بمكان في نظر البابا ان يجد بولس الرسول طرق آسيا مغلقة في وجهه ويرى مناماً يدعوه فيه رجل مقدوني الى القدوم إلى مقدونيا لمساعدة أهلها.
أما من أين للمحرر والبابا هذا الجزم بأن طبيعة الله قد تكون غير عقلانية في الإسلام؟ من إبن حزم وحده؟ هذا لغز حقيقي آخر بالنسبة الى باحث يريد أن يفهم محاضرة البابا. "اللاعقلانية" التي تميز سلوك الآلهة اليونانية هي اقتداؤها بالبشر، في تنظيرات الفلسفة اليونانية عند سقراط تحديداً في نقدها والتقديم للتوحيد عند أفلوطين والرواقيين. فكيف أصبح الاقتداء بعقل البشر هو عقلانية الله عند من يريد توظيف الفلسفة اليونانية؟ لن أجيب عن هذا السؤال البسيط. كما افترض ان البابا يلاحظ من دون جهد لاعقلانية في كلام وسلوك "يهوا" التوراتي، إله ابرهيم وإسحق وموسى وداود وسليمان، حتى مقارنة بسلوك وعقلانية البشر... وسلوكه غالباً ما يحير أنبياءه في التوراة ذاتها، فهو يغضب ويفرح وينتقم ويحب ويكره ويأمر بالقتل الفردي والجماعي. ويصر بعض الفلاسفة على لاعقلانية جوهرية في الديانات التوحيدية، بخاصة إزاء فكرة حرية الاختيار وقدرة الله غير المتناهية، وفي خلق الله الناس ليعبدوه في كل الديانات، وفي فكرة العقاب في الجحيم، وفكرة ان الله خلق الناس ليعبدوه وخلق حرية الا يعبدوه ثم خلق عذابهم في الجحيم. وفكرة التعذيب بذاتها مخيفة أن تنسب الى الله، ومتناقضة مع الرحمة... ولكنها لم تكن افكاراً عذبت وحيرت فقهاء المسلمين والمتكلمين والأشاعرة والمعتزلة في محاولة عقلنتها فحسب، بل عذبت الفلسفة المسيحية القرسطوية برمتها وعذبت قراءها.
ليست هنالك صعوبة في إثبات إرث فلسفي كامل من الفلسفة اليونانية يتناقش مع المسيحية واليهودية بما في ذلك صفات الخالق فيها باعتبارها غير عقلانية. ونحن لا نجد ذلك بالطبع في الفلسفة القرسطوية ولا حتى في بدايات الفلسفة الحديثة، فبدايات الفلسفة الحديثة تحاول عقلنة المسيحية، كما يحاول البابا حاليا بتأخر خمسة قرون. وليس مصادفة ان يبدأ ديكارت التحول الفلسفي الشكي العقلاني بإثبات وجود الله عقلياً من دون الحاجة الى إيمان، وعند كانط وضع الدين في حدود العقل لكي يفهم من منطلق وظيفته، وعند هيغل، المسيحية هي تمظهر عقلي تطوره الفلسفة الغربية. ونقد الفلسفة الاوروبية الحديثة للدين يقف عند قاعدة الدين المسيحي نفسها، وبخاصة في وضع نظريات وفلسفة التاريخ كتقدم نحو خلاص. بهذا المعنى، منظومات الفلسفات الغربية كلها أنصاف ثيولوجيا مسيحية كما يقول نيتشه. ونحن نؤكد ان هذا لا ينطبق على النقد التنويري للدين ولا على نقد نيتشه ذاته، كما لا ينطبق على المناهج الفلسفية التي لم تشكل منظومات فلسفية مغلقة كما سوف نرى.
ويوفر كارل لوفيث علينا جهداً كبيراً إذ يستشهد في مقالته الرائعة: "المسيحية والتاريخ والفلسفة" بحوار فلسفي يوناني مبكر ينسف مقولة البابا المتأخرة لأن الحوار الذي يورده هو ابن العصر الذي تم فيه بحسب البابا التزاوج بين التوراة والفلسفة "التنويرية" اليونانية، والنقاش بين رجل دين مسيحي يوناني، أوريغينس، وفيلسوف يوناني كيلسوس. ويؤكد فيه الثاني التناقض الأصلي الواضح، اي الذي لم تجسره الفلسفات الغربية اللاحقة المذكورة، بين الفلسفة اليونانية والمسيحية. يفند فيه الفيلسوف عقلانية المسيحية واليهودية، ويؤكد غرابتها عن سوية التفكير الهيليني، ويؤكد تناقض تصوراتها لله والإنسان والعالم مع العقل "لوغوس". وهي الادعاءات نفسها التي يأتي نيتشه عليها لاحقاً في كتابه "أنتي كريست" أو اللامسيح (The Antichrist). فهو يعتبر افكاراً من نوع أن الله خلق العالم في خدمة البشر، والبشر لعبادة الله أفكاراً غير مفهومة ولا معنى لها. وهو يستفظع فكرة أن الشمس والقمر والنجوم والأرض خلقت لخدمة الانسان. وفكرة خلق الله العالم اعتباطياً تجنب المؤمنين بها ضرورة فهم منطق الطبيعة الداخلي. كما يستغرب معنى تغير طبيعة البشر عبر الثواب والعقاب والاعتراف والتكفير عن الذنوب، فهذا يناقض كونها طبيعة. ولا يفهم معنى أن يبدأ الله بعد تجسده بعدد قليل من المؤمنين وأن يعاني ويصلب ويتعذب... هذا عدا نقده اخلاقيات تقديس التعاسة المسيحية وعدم البحث عن الأصحاء عقلاً وجسداً كنموذج، وهي أخلاقيات وجماليات مناقضة لجماليات الثقافة الهيلينية والفلسفة اليونانية.
وواضح ان فلسفة النهضة شكلت في ما بعد فعلا مسيحيا في اتجاه استعادة الفكر والاخلاق والجماليات اليونانية الى المسيحية... ولم يكن هذا الجهد خلوا من المواجهات مع المؤسسة الكنسية، كما لم يجر بمعزل عن احتضان المؤسسة الكنسية والاديرة لها خلافا لما ينتشر من آراء مسبقة عن الكنيسة كمعارضة للعلم.
ولا شك في ان الاسلام يعرض الله كذات منطقية عقلانية، ولكنه يعود ويتجنب تحديد الله بحدود العقل البشري، ما يميز الايمان الديني عن الفلسفة. الايمان هو باللغات السامية وغير السامية تصديق. وما زال الفعل ذاته "هئمين" يعني بالعبرية صدّق كما يعني آمن، تماما مثل Glauben وbelieve بالانكليزية والالمانية. ويستخدم للدلالة على المعنيين. على المؤمن ان يصدق اولا ما هو فوق العقل – او تحته، حسب وجهة النظر – لكي يؤمن، او ان يؤمن لكي يصدق. ليس عليه ان يقتنع علميا، ولا عقلانيا. لا دور هنا للعقل بتاتا، لا في الاسلام ولا في المسيحية ولا في اليهودية. ولو كان قرار الايمان قرارا عقليا بناء على منطق ما، لما كان قرارا حرا. وحرية الايمان هي جوهره الديني والاخلاقي التي تفصله وتفضله في نظر الدين، على عدم الايمان.
لا يخلو دين من مسلمات ايمانية، ومنها تنطلق المحاكمات العقلية المنطقية. وحتى لو اشتقت الاستنتاجات عقليا بالاستدلال، فان هذه الاستنتاجات لا تعني الكثير لغير المؤمن الذي لا يقبل المسلمات التي اشتقت منها. اما بالنسبة الى سلوك الله ذاته فلا ادري عن حالة نبوة ابتعدت عن صنمية الله وتعددية الآلهة الا ووصفت هذا السلوك بلغة مفهومة عقليا، وحاولت شرحه اما بأمر اخلاقي او بمنطق عقلي، اما برحمة او بعقل. وفي بداية كل الديانات التوحيدية اله غاضب على ما كان قبله من عبادات، وفي بداية كل الديانات اله داع وناه بفرائض ومحرمات تميزه عن دين آخر، ولا معنى عقليا لها الا في تفسيرها من قبل المؤمنين اما كرموز ومؤشرات لارادة الله لا يفهمها المؤمنون بل يفهمون غايتها، او كطقوس لاعادة تمثيل وتمثل تجربة من الولادة والعشاء السري حتى الموت.
في كل دين اله يحرم ويحلل وينتج اخلاقا، او يضفي طابع قدسية على الاخلاق باعتبارها فرائض. وقد يحرم عادات بات العقل لا يقبلها في مرحلة تاريخية محددة. ولكن لن ينجح العقل بشرح تحريم الله لحوما بعينها واختيار الصيام في شهر بعينه، وأوقات بعينها للصلاة، واذ يحاول البعض شرح ذلك فانهم يجدون انفسهم يحولون الله الى خبير تغذية او "رجيم" او طب، ويجهدون لاثبات ذلك. كل دين يتواصل مع ديانات جاءت قبله عبر تقديس اماكن وتكرار طقوس ومنحها تفسيراً آخر، وتحليل وتحريم للتواصل مع ما كان والتميز عنه كدين منفصل بالحفاظ على بعض العادات التعبدية مثلا، ولكن تحريم بعض ما كان حلالا، وتحليل بعض ما كان حراما. لا بد من تحريم وتحليل يميز الدين، وفرائض تميزه، لا تفسير منطقيا لها. ربما يؤدي الفرائض من يفهمها بهذا الشكل، ولكن سوف يصعب عليه ان يؤديها بخشوع.
تجد الكنيسة ما تثبت به ضرورة ان يمر الطقس الكنسي بهذا الشكل او بذاك، وان يرتدي الكاهن هذا الزي بالتحديد، وأن ما يبدو مثل شعوذة يحمل معاني عميقة او له تفسير تاريخي على الاقل، او يريح الباحث المؤمن نفسه فيدعي ان هذه تقاليد، لم يُعمِل العقل في اثبات فائدة احترام التقاليد للحفاظ على سلامة المجتمع ومنعا للفوضى وحفاظا على المؤسسات الاجتماعية والمؤسسة الكنسية. ولكن هذا النوع من الاثباتات والادلة هو محاولة لاثبات وظيفة الطقس الكنسي وليس لاثبات صحته او خطئه.
ونحن نفترض ان هنالك من يقتنع بشرح كهذا لوظيفة المحرمات والمحللات والفرائض والوصايا وضرورتها اذا وافق على الهدف. ولكن لا بد من التأكيد ان وظيفة العقل ذاته في هذه الحالة هي ادائية تماما. لا هو جوهر ولا هو مصدر، ولا هو هدف او معنى... ليس لوغوس بالمعنى اليوناني او Vernunft بلغة الفلسفة الالمانية التي يستخدمها البابا. ويمكن ان يكون دافع شخص الى تأدية الفرائض الدينية هو حساب عقلي لوظيفتها الاجتماعية حتى من دون ايمان. وحتى في هذه الحالة لا يصح عبر هذا الشرح ان نقول اننا حسمنا بالعقل مسألة الايمان، بل مسألة ضرورة تأدية الفرائض او عدم ضرورتها. ولكن الدين بما فيه المؤسسة الكنسية يقوم على مؤمنين ورعين يؤدون كل هذه الفرائض والطقوس بخشوع، او يؤدونها كعادة وتقليد مسلم به، او كنمط حياة متوارث، او كهوية وانتماء، ولا يعملون فيها الفكر كثيرا، حتى اذا كانوا يعيدون انتاج الجماعة البشرية العينية من خلال هذا التعبد من دون ان يدروا.

-   ويعود المحاضر الى معاصرة التوراة للحضارة الهيلينية ولقائهما، والى ترجمة التوراة الى اليونانية كعمل يتجاوز مجرد الترجمة الى التمازج بين الله خالق السموات والارض من التوراة اليهودية وبين التنوير اليوناني، كما يسميه، هذا التمازج هو بنظر البابا نشوء المسيحية. ولو اكمل البابا الى فيلون الاسكندري الذي عاش في الاسكندرية قبل المسيح بعقود لادّعى مثل اي باحث، ليس بالضرورة ان يكون مؤمنا بأن المسيحية هي نتاج تثاقف يهودي يوناني مصري قديم في الاسكندرية، انه لا حاجة للمسيح ذاته الا كرواية، كقصة تقص اربع مرات على الاقل في العهد الجديد نفسه عن نشوء هذا الدين. هذا النوع من التحليل للمسيحية هو ما جعل فيلسوفا مسيحيا ورعا ووجوديا متدينا مثل سيرن كركجور يتمرد على هيغل حفاظا على الايمان من العقل الفلسفي والتأريخي. وعلى فكرة، لا توجد فكرة هيلينية واحدة يدلي بها المسيح عدا بعض اخلاقيات الرواقية... وفكرة المسيح عن وقوف الانسان الفرد امام الله اعمق من اي تصور يوناني فلسفي للفرد، الا اذا اعتبرنا التجسد، وهو جوهر المسيحية، فكرته. ولكنه لم يعظ بها، بل جسدها، فهي اذا اما فكرة الله، بالنسبة الى مسيحي متدين، او فكرة الفلاسفة الذين يتحدث عنهم البابا والذين بحثوا عن علاقة بين اله اليهودية الترانسندنتالي (كما يصف البابا اله الاسلام اعلاه) وبين هذا العالم، او الدنيا، في فكرة الثالوث والتجسد، وهو ما يؤسس ايضا لدور الكنيسة ووساطتها، ثم في فكرة افتداء الله لخطايا الناس في هذا العالم.
ولا شك في ان التوسط والتجسد والافتداء تتضمن رحمة وعناية الهية، ولكن ليس هذا شكل الوساطة ولا شكل الرحمة، ولا شكل العناية الالهية الوحيد الممكن تصوره لدى المؤمنين الباحثين عن اشارات اخرى من الله في الديانات التوحيدية التي يفصلها مجرى الطبيعة والحياة اليومي عن تفاصيل حياة البشر وحياتهم اليومية. فكل الديانات تتضرع اليه، وكل الديانات تجد وساطات مختلفة معه تختلف عن التدين الشعبي والتدين النمطي الارثوذكسي. كما ان الوساطة ليست ضمانة ضد العنف، فقد تحتكر هي تفسير ارادة الله عندما تكملها الكنيسة منذ بطرس الرسول كما تعتقد الكنيسة ذاتها، وكما حصل فعلا في محاولاتها المتكررة لفرض تفسيرها للحقيقة الالهية قبل ان تتجذر عملية العلمنة فتفصلها عن قوة الدولة والقسر وتخصخص القرار الديني حقوقيا.
لا توجد نبوة من دون توسط بين الله والناس، وفي الوحي المحمدي ايضا كسر للـ"ترانسندنتالية" المطلقة. ولكي يختلف التجسد، في المسيحية عن مجرد شكل خاص من محاولات جسر الهوة السحيقة بين المتناهي واللامتناهي، بين الهنا والعالم الآخر، بين الانسان والخالق، يجب ان يتحول الى فكرة "انطولوجية" فلسفية في تركيب العالم. كأن اللوغوس الالهي تجسد في الطبيعة ثم في التاريخ، ما يمكن البشر من فهم الطبيعة والتاريخ ومن التوق الى العقل المطلق في تعرف الفكرة على ذاتها... كما في فلسفة هيغل. وهذا تقليد فلسفي معاكس لما تطورت اليه فلسفة هيوم وكانط من تقاليد فلسفية وضعية ونسبية وتحليلية مشتقة من مفصل كانط – هيوم في تاريخ الفلسفة الحديثة.
لم يتناول البابا، ولا حتى من منطلقه هو، مسألة مادية اله التوراة وجسديته ومحسوسيته ثم دعوته للعنف والقتل مرات عديدة، وكرهه المعلن لآلهة الكنعانيين، وغيرته السافرة والمرة ورغبته في الانتقام منها، وحبه البواح، المعلن مرات عديدة لرائحة الشواء وتفضيله اجزاء معينة من الذبيحة تقدم له يصفها بدقة. كما لم يتناول البابا انفصال الله الكلي عن العالم في مراحل اخرى من تطور اليهودية... على الرغم من انه يعتبر كل ذلك اصلا من اصول المسيحية قبل لقائها مع الفلسفة اليونانية في فكرة التجسد او في اخلاقية الموعظة على الجبل، بل تناول بدلا من ذلك مادية الاسلام المدعاة وايمانه بالقوة. وليس هنالك ما يبرر سلوك البابا هذا سوى اعتبار وثنية الاجزاء الاولى من التوراة جزءا مما يفترض ان تخفيه وتتستر عليه مقولة "التقاليد اليهود – مسيحية" Judeo – Christian Tradition او نتيجة مصيبة كون البابا المانياً لا يجرؤ إلا على الاعتذار المستمر لاسرائيل ومشاركتها الموقف من الاسلام. ولا شك في ان علوم اليهودية الرسمية اكثر نقدية تجاه نصوص التوراة من البابا وهذا امر مفهوم. يعتبر البابا في محاضرته "التزاوج الحاصل بترجمة التوراة الى اليونانية مقاربة بين الايمان والعقل" بين فكرة الله الواحد والتنوير الحقيقي، ويصفها بـ"اكثر من مجرد ترجمة، بل هي شاهد نصي وخطوة متميزة منفردة في تاريخ البشارة والرؤيا". بذلك يضفي الحبر الاعظم طابعا قدسيا على حدث تاريخي. ولم تشهد الكنيسة على ما اعتقد مثل هذا التقديس للنزعة المركزية الاوروبية، ومثل هذا التأسيس الديني لها منذ الحرب العالمية الثانية. واقول منذ الحرب العالمية الثانية، لأن النازية في كرهها المعلن للكنيسة الكاثوليكية ككنيسة عالمية غير قومية وضعت منظري الكنيسة الالمان مرات عديدة في حالة دفاع عن النفس، دفعت بعضهم الى السجن من دون تغيير عقيدته، ودفعت بعضهم الآخر الى كتابات عنصرية مخجلة عن آرية قادة الكنيسة وقديسيها، وفي تبرير أوروبيتها في مواجهة هجوم ألفرد روزنبرغ عليها في كتاب أسطورة القرن العشرين الذي نظّر للثورة الفكرية والقيمية النازية. ولا يمكن الا أن نرى هذه المحاولة الجديدة في تثبيت اوروبية المسيحية والكنيسة في سياق مجاراة الفهم الاميركي شبه الرسمي لصراع الحضارات، وتثبيت الاسلام كآخر مطلق "للتقاليد اليهود – مسيحية" كما تبناه جورج بوش في خطبه.
في هذا الموقع بالذات يعود بينيديكتوس السادس عشر ويؤكد أنه على هذه الخلفية يستطيع مانويل الثاني أن يدعي ان السلوك اللاعقلاني مخالف لطبيعة الله. يؤسس البابا لهذا الادعاء ويستند اليه طوال المحاضرة.
يضع الحبر الأعظم نفسه في إطار التقاليد التي تقود من توما الاكويني (متجاهلاً ان تأثير الفلسفة اليونانية فيه جاء عبر مصفاة الحضارة الاسلامية) والقديس أوغسطين... ونحن نضيف من عندنا: مروراً بلايبنتز وهيغل الذي اعتبر الكاثوليكية تجسداً للعقل في الطريق نحو لقاء المسيحية مع جوهرها في البروتستانتية. منطق البابا، هو المنطق القروسطي نفسه الذي قاد الى البروتستانتية من دون شك كلقاء مجدد مع ما هو يهودي ونصي في المسيحية وعلى اساس النص، ولكن بعد أن تضمن في ذاته تاريخ المسيحية كله. اذا كان الله عاقلاً بهذا المعنى فلا بد أنه خلق أفضل العوالم الممكنة، كما ادعى لايبنتز، وكما سخر منه فولتير في "كانديد". واذا كانت الطبيعة والتاريخ، بما فيه تاريخ الدين، تمظهرات لعقل إلهي في التاريخ كما عند هيغل، فلا بد أن يترتب على ذلك ان الدين عقلي وعقلاني، بل ان يختزل الدين الى تاريخ الدين، ويتحول الى جزء من التاريخ البشري له مهمة ومرحلة من تمظهرات الروح تكتسب معناها من موقعها في هذا التسلسل التاريخي.
يخالف البابا في المحاضرة تقاليد اوروبية اخرى من دون سكوتس الى شيلينغ في فهم حرية الله وعدم تشابهه مع الانسان، مؤكداً ان الشبه في العقل المشترك على الرغم من الفرق بين الانساني والالهي، بين اللامتناهي والمتناهي، التشابه بين الله والانسان الذي خلقه على صورته ومثاله، هو اساس قدرتنا على الفهم. "لا يصبح الله أكثر ألوهية عندما ندفعه بعيداً عنا"، يقول البابا. ولكنه بالتأكيد لا يصبح اكثر ألوهية عندما نقربه منا نجيب نحن، والا اعتبر كل أصولي ذاته متلقياً للوحي مباشرة، وانه على معرفة، عقلية اذا شاء البابا، بإرادة الله فيحكم وينهي بموجبها. وما أكده الاسلام في هذه المسألة تحديداً ان محمداً هو آخر الانبياء والمرسلين قاطعاً الطريق على كل من يدعي في ما بعد معرفة ارادة الله كأنه يستوحيها من الله نفسه. ليست المسألة، اذن، القرب والبعد عن الله بقدر ما هي كيفية استخدام هذا القرب والتقرب، وسياقه التاريخي، ووظيفته السياسية وطبيعة القوى التي تقف وراءه. وهذه ليست مسالة ثيولوجية ولا حتى فلسفية بحتة.
تقوم الصوفية المسيحية والاسلامية على حد سواء على الايمان كمحبة الله وعلى التواصل بين "الهنا" و"الآن"، والما – ورائي المطلق بواسطة فيض الحب. والمحبة هنا أرقى من المعرفة. وهذا أقرب من جوهر المسيحية عند بولس الرسول على الاقل، الذي يعتبر الحب أكثر اقتراباً من جوهر الله من المعرفة. ولكن البابا يطوق هذا القرب بين جميع الصوفيات الاسلامية وبين رسالة المسيحية والنساك الشرقيين والرهبنات الشرقية العظيمة والفرانسيسكانية الغربية العظيمة، بالقول إنه صحيح أنه حب عند بولس الرسول، ولكنه حب الله، حب اللوغوس، العقل. واذا ترجمنا ما يقوله البابا الى اليونانية حب (Philos) وعقل (Logos) نبقى مع (Philologos) وهو مصطلح قريب من (Philosophia) وتعني محبة الحكمة.
ونحسب أن هيغل يتكلم عندما يؤكد البابا ان التقارب بين الايمان التوراتي والفلسفة اليونانية هو حدث مقرر ليس فقط في تاريخ الاديان بل في التاريخ العالمي، ولذلك يقول البابا إنه ليس مفاجئاً أنه عدا الاصول الشرقية للمسيحية وبعض التطورات المهمة في الشرق اتخذت المسيحية شكلها التاريخي الذي يميزها عن غيرها في اوروبا. ويقول البابا إنه يمكن وضع هذا السياق التاريخي بالعكس، أو صياغته بشكل مقلوب: "هذا التحول، يضاف اليه الميراث الروماني، خلق اوروبا، وسوف يبقى اساس ما يمكن بحق تسميته اوروبا". (ونحن نقدّر أن عبارة "تسميته بحق" هنا جاءت لاخراج غير المسيحيين من تعريف "اوروبا الحقيقية" في مقابل اوروبا الجغرافية، فألبانيا وكوسوفو وتركيا ليست اوروبا في نظر البابا، وقد عبرت عنها معارضته العلنية لضم تركيا الى الاتحاد الاوروبي)، اما اسرائيل فهي على ما يبدو جزء لا يتجزأ من اوروبا.
على كل حال، سواء وافقنا على هذه الآراء أو خالفناها، فإن هذا كلام باحث، وليس كلام قائد روحي ورأس كنيسة لها أتباع في آسيا واميركا اللاتينية وافريقيا. وربما نسي الباحث في اللاهوت راتسنجر وظيفته الجديدة، كونه اصبح البابا بينيديكتوس السادس عشر. وحتى لو صح ما يقول، فإن هذا يقوله باحث لا قائد كنيسة لأتباعها غير الاوروبيين. كل هذا لو كان يفصل بين العلم والايمان، ولكن البابا لا يفصل. اذاً، فمركزية اوروبا عنده حقيقة ايمانية، وليست مجرد حدث تاريخي، أو صيرورة تاريخية. وتحويل اوروبية المسيحية الى ركن من اركان الايمان في محاضرة لا يعني الا ان البابا يقف ايديولوجياً في موقع معين في اطار الصراع في عالمنا.
ويتصدى البابا بالنقد لمحاولات نزع الهيلينية عن المسيحية (Dehellenization) ويلخصها بثلاث محاولات عبر التاريخ. أولها وأهمها محاولة الاصلاحيين بمن فيهم مارتن لوثر عبر محاولة تنقية العقيدة من ميتافيزيقا اللاهوت القروسطي المعتمدة في اساسها على تقاليد الفلسفة اليونانية الارسطية، والعودة الى النص المقدس (Sola scriptura) ووحدانية النص، لتنقية العقيدة من "الشوائب" التي علقت بها.
هنا يتورط البابا في نقاش فلسفي مع كانط معتبراً فلسفته التي تحدد تواضع ونسبية العقل في سلسلة نقد العقل، والتي تفرز مكاناً للدين في العقل العملي والاخلاق لا في مجالات المعرفة، مقدمة للفصل بين العلم والايمان واساساً فلسفياً للبروتستانتية لم يتوقعه الاصلاحيون أنفسهم. فبموجب نقد العقل ووضع حدوده وتنقيته عند كانط، لا الدين منظومة لفهم الواقع ولا العلم يصلح لاثبات وجود الله او البحث في المسائل الالهية. وليست هذه وسيلة لتنقية المسيحية من الهيلينية كما يدعي البابا، بل بالعكس تماما. والمزج والتوليف اللذان يتحدث عنهما البابا بالذات هما نموذج يصلح لتفسير نشوء المسيحية، وقد يكون مقبولا حتى على من يوافق كانط رأيه، ولكنه ليس احد اسس الايمان او العقيدة كما يحاجج الحبر الاعظم في محاضرته.
ما طرحه هيوم من تناقضات العقل المطلق ثم اجابات كانط القائمة على نقد العقل والاسئلة التي طرحها وفصلها بعضها عن بعض من نوع: "ماذا استطيع ان اعرف"؟ "ماذا علي ان افعل؟"، "كيف يمكن ممارسة الدين في حدود العقل؟"، الخ. كانت الاساس الوحيد الممكن لنظرية في الدين تؤسسه عقليا على ضرورات اخلاقية وجودية للمجتمع في "نقد العقل العملي". وهذا يفسر مجالا للعلمنة، كما يفسح مجالا للتدين الورع غير القائم على حسابات الى جانب التدين المحافظ المؤسسي المحسوب عقليا بحاجات اجتماعية واخلاقية، ربما من نوع تدين البابا ذاته، والله اعلم.
لا يعني القرار العقلي، في مسألة ممارسة الدين في حدود العقل، عقلانية الدين، ولا يعني عقلنة القرار الايماني الحر. وهذا النقد الكانطي للعقل ووضع حدوده هو الاساس لفصل القرار العلمي الذي يمكن تفنيده عن القرار الاخلاقي او الديني الذي لا يمكن تفنيده ولا اثباته كما يشرح كارل بوبر في كتاب منطق البحث. لقد اسس هذا التحول الفلسفي لتيارات فلسفية غير ثيولوجية، بمعنى انها تبتعد عن ان تكون مجرد منظومة فلسفية لنقد وتأكيد حقيقة المسيحية في الوقت ذاته.
ومكّن هذا الفصل من تطهير الدين من محاولات اثبات صحته وخطأ ديانات اخرى، ودافع عن الله من محاولات اثبات وجوده السخيفة، وجعل الايمان خيارا حرا يقترب من طبيعة الاخلاق. المؤمن ليس على صواب بايمانه بل على ايمان او على ثواب. وغير المؤمن ليس على خطأ. والبابا ليس على خطأ او صواب بايمانه بالمسيح والحلول والتجسد والقيامة، فلا يمكن اثبات صحة هذه او خطئها. ولا يمكن التأكد من انها تقود مثل تعليمات على خريطة بوثوق الى الجنة. ليست لدينا طريقة علمية للتأكد من ذلك او نفيه. ولكنه على خطأ في تعميماته عن الاسلام. وبالامكان تفنيد هذه التعميمات علميا، اي اثبات خطئها.
ومن ناحية اخرى لا شك في ان فصل المقدس عن العلم والسياسة والدولة وغيرها من شؤون الطبيعة والمجتمع التي تحتاج الى احكام العقل النقدي، ووجدت تطويرا لها عند فيبر وآخرين، يدفع ثمن العلمنة ليس فقط في اصولية دينية خارج المؤسسة الكنسية بل ايضا في نزعة لتقديس الدنيوي في الحركات السياسية القومية وغيرها. ولا شك في ان الكنيسة الكاثوليكية حافظت على توازن ما في هذا السياق بين نتيجتي عملية العلمنة ككنيسة عالمية. ولكن الخطر يكمن حاليا في نزعة الحبر الاعظم لأن يضعها على مسار تنافسي مع اصوليات بروتستانتية وفي شق فجوة مطلقة بينها وبين ديانة عالمية اخرى.
المرحلة الثانية هي مرحلة اللاهوت الليبرالي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وممثلها الأبرز ادولف فون هارناك وقد حاول الاخير تنقية المسيحية مما اعتبره شوائب ميتافيزيقية لا اساس علميا او ايمانيا لها في الطريق الى اعتبار المسيحية، قمة الديانات الانسانية، هي حياة يسوع المسيح وتعاليمه ذاتها، منطلقا من تمييز باسكال بين اله الفلاسفة واله ابرهيم واسحق ويعقوب. ويعتبر المسيحية مسألة اخلاق لا مسألة عبادة. ويعلل البابا اقصاء الدين عن العلم والتحليل العلمي في هذه المرحلة بتطور العلم الحديث الذي يحصره بين افتراض تشابه بين عقلنا وتركيب المادة في لغة الرياضيات وبين التجربة ذاتها المستندة الى الاثبات والتفنيد الامبيريين، اي بين الاستقراء والاستدلال. ولا ادري لماذا يحتاج البابا الى هذه التعريفات المبسطة للعلم لكي يناقش الموضوع، فمثلا الدين ذاته كظاهرة اجتماعية، اي كتدين، يخضع للتقويم العلمي كظاهرة بحثية حتى من دون رياضيات وبمناهج اخرى، ولكن مشكلة البابا هي اعتباره التعليل العلمي جزءا من الايمان ذاته، وهذا نقيض العلم ونقيض الايمان، وهو يقضي على خصوصيتهما.
اما المحاولة الثالثة في عملية نزع الهيلينية عن المسيحية فتنتج عن التعددية الثقافية، عن محاولة جعل التركيبة التوراتية الهيلينية مسألة خصوصية ثقافية اوروبية محض لا تلزم المسيحيين في سياقات حضارية اخرى. وبموجب هذه المحاولة من حق هؤلاء ان يبحثوا عن روابط ثقافية اخرى تؤسس للمسيحية في سياق حضارتهم، وذلك بالعودة الى العهد الجديد البسيط، وسيرة يسوع المسيح ثم ربطه بحضارتهم. ولكن البابا لا يوافق على هذا الجهد، اذ يقول ان العهد الجديد كتب باليونانية ولا معنى لهذا الربط من دون رؤية "بصمات الروح اليونانية فيه" على حد تعبيره. ويقول البابا في محاضرته: "صحيح ان هنالك عناصر في تطور الكنيسة المبكرة لا يلزم ان تندمج في كل الثقافات، ومع ذلك فان الحسم الاساسي حول العلاقة بين الايمان واستخدام العقل البشري هو جزء من الايمان ذاته". يرتبك البابا بين حاجة العلم لأن يستفيد من الاصغاء لايقاع التجربة الدينية في عملية المعرفة وبين اعتبار الجهد العقلي اعلاه جزءا من عملية الايمان ذاتها. وفي نهاية محاضرته يعتبر البابا العقل الكوني الكلي "لوغوس" هو ايضا الاساس لحوار الثقافات، ولا نعرف هل يقصد هنا الحوار بين الثقافة الدينية والثقافة العلمانية في اوروبا ذاتها، ام حوار الثقافات بين اوروبا وغيرها، وفي الحالتين تأسيس الحوار على العقل كما يرغب البابا يختلف عن اعتبار الايمان مسألة قرار عقلاني.

عزمي بشارة

المصدر: وكالات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...