الموحدون أو الدروز

18-10-2006

الموحدون أو الدروز

سمى الموحدون الدروز الشيخ نعيم حسن شيخ عقل يوم السبت الماضي باجماع مجلس الطائفة. وقد وقع ذلك، مصادفة او عمداً في العشر الاواخر من رمضان الذي هو عند المسلمين والدروز شهر الاكتمال . ويبدو ان غيوماً سياسية تتلبد في آفاق المعروفيين. ولا شأن لسواهم بها سوى شأن اللبناني الذي يتمنى ان تكون وحدة لبنان الكبرى من وحدة مكوناته المتعددة. والموحدون جذر في هذه المكونات التاريخية. لكن سبل العبادة عندهم وكون التعبد يمارس في الخلوة الروحية وليس في الجامع او الكنيسة، يجعل المعتقد الدرزي بعيداً من متناول معرفة العامة وغير الباحثين. ومن المصادفات الجميلة والمتعة المعرفية ان يصدر في هذا الوقت بالذات كتاب الدكتور سامي مكارم "العرفان في مسلك التوحيد" الذي يشرح في نص ارتقائي مفاهيم الدعوة التوحيدية المنبثقة من الرسالة القرآنية، مفسراً الآية بالقول "هو الاحد الذي لا حد له ولا نهاية، ولا غاية له ولا بداية، ولا ذاتية له ولا غيرية، هو الصمد غاية الغايات ومعنى المعاني، المحيط بكل شيء والموجود الاحد، لا وجود مستقلا عنه. لا قبل له ولا بعد، موجد الزمان منه وله وفيه وموجد المكان والامكان والفعل، لا كيفية له ولا ماهية. فهذا الوجود انما هو ابداع الله الواحد الاحد الذي لا غيرية له، ولا خارج ولا داخل يحدانه". ويمضي مكارم الى القول "فالله اذ يحيط بهذا الكون ويحويه، منزه عنه والله اكبر".
يريد على الارجح تأكيد قول ابن عربي: "وان العالم ليس الا تجليه". واذ يتأمل الموحد في صفاء النفس المطلق والخلوة المفعمة بالايمان، في ذاته وفي عالمه وفي صيرورته، يكرر مع التوحيد "انه يشهد الكون في الحق لا الحق من خلال الكون". وما الحب الذي هو ارقى المشاعر الانسانية، او الناسوتية "سوى طهارة الموحد". لقد وضعت عن الدروز كتب كثيرة، على الاقل منذ بداية القرن السادس عشر. فقد اثارت الغيرة التي يحيطون بها طقوسهم ومعتقدهم فضول بعض الغربيين من رحالة ومستشرقين، كما اثارت اعجاب العدد الاكبر منهم وانبهاره. واذا سلمنا بأن الفرنسي غيوم بوستيل كان اول المستشرقين المعترف بهم في النصف الاول من القرن السادس عشر، فقد كان هو ايضاً اول المنبهرين بالايمان الموحدي. وبلغ به الامر في حماسة غير علمية ان قال "ان الدروز اصحاب اصول فرنسية وان اسمهم يتحدر من كلمة Druid". على اننا نعرف جميعاً ان الموحدين سموا بالدروز نسبة الى محمد الدرزي الذي حمل الدعوة من مصر الى وادي التيم.
تعلق بوستيل بالفكر الموحدي كما تعلق بالرسالة المحمدية بحيث طالب باختلاط الاسلام والمسيحية معاً. وكان بوستيل قد رافق (1535 – 1537) السفير الفرنسي الذي ارسله فرنسوا الاول الى سليمان القانوني، او سليمان الكبير في اسطنبول، وانصرف هناك الى دراسة اللغة العربية. وكان يتعلم بسرعة مذهلة جعلت مدرّسه يقول ان شيطانا يسكنه ويساعده على الاستيعاب. ومن ثم وضع اول قاموس فرنسي – عربي، واعطيت له كرسي في الكوليج دو فرنس التي اسسها ايضاً فرنسوا الاول عام 1551. وقد اتهم بوستيل في ما بعد بالهرطقة والزندقة والجنون بسبب انبهاراته الشرقية.
ظل الدروز كأقلية عربية تغلق ابواب الانتساب اليها، يعطون الانطباع للآخرين كأنهم فريق سياسي اكثر مما هم مذهب ديني انبثق في الاساس من الطائفة الاسماعيلية. وزاد ملامح "الغموض" الدرزي انصراف الاكثرية منهم وخصوصاً العقلاء عن رذائل الدنيا ومتعها، حتى بدوا يعيشون كالمتصوفين ولو في قلب الجماعات الاخرى. وقد حاولوا في مرحلة من المراحل ان يكون لبنان هو الدولة التي تضم من تفرق منهم في فلسطين وجبل العرب. وكان ذلك احد اسباب حربي 1840 و1860. غير ان اقلية اخرى هي الموارنة كانت تطمح في الوقت نفسه والمرحلة نفسها الى ان يكون لها ذلك الاستقلال الذاتي في الشرق. وفي النهاية عندما قام لبنان المستقل شعر الدروز، بسبب نسبتهم العددية، انهم فقدوا زوايا ذلك الحلم الذي كان ممكنا اواسط القرن التاسع عشر.
وظلت العلاقة الدرزية – المارونية عبر العقود خاضعة لقانون التلاقي والافتراق وطبيعة التنافس بين الاقليات الصغيرة على رقع الارض المحدودة والمحاصرة.
يقول الدكتور سامي مكارم، استاذ التصوف والاسلاميات في الجامعة الاميركية، انه يقدم كتابه لغير الدروز ولشبان الموحدين ايضاً، ذلك ان اكثرهم غير عارف بدينه، الا من حيث ممارسة سلوكه الاجتماعي. ولذلك يشكل الكتاب، في اعتقادي، تحولاً على صعيد الموحدين انفسهم. اذ ثمة اتجاه واضح ضمن الطائفة، والارجح بموافقة علمائها، الى التعريف بالفكر الموحدي ولو بقيت بعض فصوله في الحرص المخبوء، كما اوصى السلف الصالح.
وقد بدأت في لندن قبل سنوات، على شكل دار معارف صغيرة، مؤسسة يرعاها في لندن الشيخ سليم خير الدين، هدفها التعريف بالتراث الدرزي، رجالاً وآثاراً، بعيداً من الصراع السياسي الذي اشتد حيناً وتراخى احياناً. وشعر الموحدون ربما دائماً ان حجم الطائفة يضيق بمداها الفكري والقيم الاخلاقية التي تنظم حياتها. وكان كمال جنبلاط النموذج الدرامي للشخصية الدرزية التي يضايقها الشعور بمحدودية المكان وتسارع الزمان. فهي في الامد الفكري خلاصة الايمان الاسلامي والفكر التأملي، اما في الحياة العملية فهي اسيرة الحصة العددية وسلسلة الجبال التي نشأت فيها. ولذلك حاول كمال جنبلاط، منذ اللحظة الاولى لوعي الشباب، ان يأخذ طائفته من الرقعة الجغرافية المحدودة الى الانتماء العقلي القادر على تخطي المساحات المحاصرة.
وفيما دخل السياسة من باب النيابة، اسس حزباً اشتراكياً يتعدى من خلاله اسوار الجبل وحدود لبنان. وتعاطى مع السياسة اللبنانية بأطراف اصابعه فيما انغمس كلياً في حياة الفكر والتأمل. وكان يرهق نفسه كل عام في الذهاب الى الهند يمضي الاسابيع مع كبار الفلاسفة والمتأملين. وبدا للعاديين في لبنان، وخصوصاً السياسيين منهم، انه يعيش حياة مزدوجة. لكن الواضح ان الحياة الحقيقية لكمال جنبلاط، او الاولى، كانت الفكر الانساني بأشمل معانيه، اما السياسة اللبنانية فكانت حياته الاضافية، الجانبية، على ما فيها من ادراك لمستوى الرق الذي كان يسيطر على معظم السياسيين.
لم تنجح تجربة كمال جنبلاط الاولى، في اقامة حزب غير طائفي على الاسس الاشتراكية. فهو، على رغم اتجاهاته واقتناعاته ونهجه الاشتراكي المتأثر بغاندي ونهرو، ظل يشعر ان مسؤوليته المولودة معه هي حماية الدروز في مرحلة متحولة، عاصفة، وحادة المتغيرات. كان كتاب المساء، سواء يقرأه او يكتبه، هو راحة فؤاده، لكنه كان يقرأ على كل جدران المختارة، مسؤولية الارث. وبهذا المعنى كان القصر كاريكاتورياً الى حد ما: صاحبه يعيش على اللوبياء بالزيت واللبنة والتين المطبوخ، ولا يأبه لمظهر، ولا يخرج الى حفلة، واذا اقتضته الرسميات ان يضع ربطة عنق، وضعها ثم فكها اعتراضاً.
زال الكثير من معالم الشخصية الدرزية في غياب كمال جنبلاط. فقد كان الرجل، في تقدم علومه، امتداداً لفريضة المعرفة، في العقل الموحدي، وقد غرق في السياسة حتى الموت، بعكس التعاليم والنهي، لكنه حاول ان يعوض ذلك بأن يعيش حياة اخرى، تترفع على اقتضاءات الحياة. وعندما غاب كان يشعر بالتأكيد انه لم يبلغ ما يريد ولا بعض ما تمنى. لا في طموحه السياسي ولا في سعيه الفكري الملحمي. ومن خلال تلك الدراميات المتقاطعة، يمكن ان نقرأ شيئاً من طبيعة الصراع النفسي والروحاني والانساني في الدروز. احياناً يبدون مقاتلين اشداء في سبيل طائفة لا تحتمل فكرة الخسارة، وتفضل عليها فكرة الانتحار، واحياناً يبدون كأنهم ينصرفون ابداً الى كتابة نصوص لا تلامس الارض لشدة ما هي روحانية وشفافة. كمثل شعر كمال جنبلاط او مرتقيات سامي مكارم.

سمير عطا الله

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...