تراث الجن والعرّافين عند العرب

10-11-2007

تراث الجن والعرّافين عند العرب

ما أردت في الواقع التقديم لكتاب الاستاذ الكبير توفيق فهد «الكهانة العربية قبل الاسلام» (ترجمة حسن عودة ورندة بعث – منشورات قدمس – دمشق) عن الكهانة او العرافة العربية، بل للترجمة التي استمتعت بروعتها ودقتها بما يفوق ما اذكر انني استمتعت به عند قراءتي للكتاب بالفرنسية للمرة الاولى عام 1975، فقد كان من المصادفات ان قرأت هذا الكتاب الصادر عام 1966 بعد كتاب المؤلف الآخر الصادر عام 1968 عن الآلهة والأوثان في وسط الجزيرة العربية قبل الاسلام.

كان ذلك كله عام 1975 عندما كنا ندرس اللغات السامية لدى البروفسور فالتر ميللر بجامعة توبنغن. وقتها خصص أستاذنا في ذاك التخصص الفرعي فصلاً دراسياً للنقوش والكتابات السبئية عن الآلهة بجنوب الجزيرة قبل الاسلام. وما كان هو قد نشر شيئاً عن ذلك. لذلك احضر لنا للاستعانة على قراءة النصوص السبئية، كتاب استاذته ماريا هوفنر، وكتاب جاك ريكمانز، والأولى نمسوية كتبت بالألمانية عن الوثنية السامية والعربية، والثاني بلجيكي، وكتب بالفرنسية والانكليزية عن آلهة اليمن والتقاليد الدينية فيها قبل الاسلام. وقد سرني ان اكتشف بنفسي كتاب توفيق فهد في الموضوع نفسه، وقرأته، واستعنت به في الورقة التي كتبتها عن «اللات والعزّى ومناة». وقد وجدت وقتها الكتاب ساحراً، بعكس الفيلولوجيا الجافة، والتي لا تهتم كثيراً للعالمين الديني والثقافي لدى رودوكاناكس، وألتهايم، وفلهاوزن، وهوفنر، وريكمانز. وعندما حدثت استاذنا ميللر عن ذلك، ضحك وقال: كتاب فهد عن الكهانة اكثر روعة، لكنه اكثر شطحاً ايضاً! وكما سبق القول، فقد قرأت كتاب «الكهانة» هذا في شتاء العام 1975 بالمعهد الشرقي بتوبنغن خلال ثلاثة ايام، وأعجبني بالفعل، لكنني ظللت على تعلقي بكتابه الآخر عن آلهة وسط الجزيرة.وأعرف الآن لماذا نشأ لدي ذاك الانطباع، في ذلك الزمن البعيد. فأكثر المادة المجموعة والواردة في كتاب «الكهانة»، هي مادة مكتوبة في القرون الاسلامية الثلاثة الأولى، وأنا أعرف اكثرها من المصادر العربية، وما كنتُ وقتها اعتبرها اصيلة او كافية للتدليل على الرؤى العربية القديمة لعوالم الغيب والسحر والغموض والفتنة والتهيب. بينما المادة الواردة في كتاب «الوثنية العربية» مستندها النقوش والكتابات النبطية والعربية والسامية والبيزنطية، وتأتي الاخبار الاسلامية عن تلك الآلهة باعتبارها مصادر ثانوية.

ولست أرى ذلك الآن، بعد قراءتي للترجمة العربية لكتاب الكهانة، اذ ان الكتاب في الحقيقة هو حفر في العوالم الثقافية العربية، عوالم السحر والشعر والغيب، وبطرائق واسعة ومقارنة وتأويلية، لا أعرفها الا لدى ماسينيون وبعض اقرانه الفرنسيين. وهذه الشفافية المستبطنة للذهنية والنفسية العربية على مشارف الاسلام، والمستندة الى مواريث سحيقة القدم لدى الشعوب السامية في بلاد ما بين النهرين، ولدى الآراميين والعبرانيين، تخترق دثائرها حياة العرب وتسجيلاتهم في الحقب الاسلامية الأولى، وإن في صورة شذرات محورة، وممزوجة بالمواريث الاخرى التي دخلت في زمن الفتوحات وما بعد. وأخص بالذكر في كتاب الاستاذ فهد الذي بين أيدينا تلك الفصول المتعلقة بأشكال الكهانة والفراسة، والفأل بالحيوان، وتأويلات الاحلام، وأدوار العرافين، وعلائق الشعراء بالجن والهواتف.

والكتاب صعب صعب لدقة الموضوعات وغرابتها، وللغة فهد الفرنسية العالية البلاغة والابلاغ. بيد ان المترجمين ما كانا أقل قدرة على الافصاح والدقة عن المؤلف نفسه. وقد ردا مئات النصوص الى الاصول التي اقتبست منها، فلم يقعا في مرض ترجمة الاقتباسات العربية عن الفرنسية، بل وابتدعا اسماء وتعابير لكي تظل الترجمة أمينة للعالم المصطلحي للنص، بما جعل من النص العربي آية في الدقة والجمال والعذوبة في الوقت نفسه.

قال لي الاستاذ ميللر بعد ان قرأت الكتاب عام 1975: هل وجدته كما قلت لك رائعاً وشطاحاً في الوقت نفسه؟ وأجبته: لا أستطيع الحكم لأن فرنسيتي ليست على ما يرام! وكان ذلك تهرباً من الاجابة، بسبب اعجابي الزائد بالفعل بكتاب آلهة العرب. أما اليوم، فلو سئلت، لقلت: بل ان كتاب «الكهانة» يضاهي كتاب «الآلهة» في الروعة، إن لم يكن أروع منه! وقد قرأت قبل مدة كتاب السيدة أنّاماري شيمل عن «الاحلام» لدى العرب، وعجبت للمادة المجموعة فيه، وللسلاسة التي يتدرج بها النص، لكنني الآن أرى ان فصل توفيق فهد عن الاحلام وكتبها وعن الجاهلية الى نهايات الازمنة الكلاسيكية، هو الاكثر تمثيلاً لعوالم الثقافتين العربية والاسلامية. ثم ان السيدة شيمل رحمها الله، ما كانت محظوظة في ترجمة كتابها، مثل حظ توفيق فهد، الذي حظي كتابه بترجمة رائعة.

لقد راجعت الترجمة بدقة، وأود الاشادة بالمترجمين وبالناشر الذي دأب على ترجمة نصوص نادرة ورائعة. وتحية للاستاذ الكبير توفيق فهد، الذي عرفت، بعد قراءتي لترجمة كتابه هذا، انه كان مهتماً منذ اواسط الستينات بموضوع الحلم، وهذا سر اقباله في السبعينات على نشر ترجمة حنين بن اسحاق لكتاب ارطاميدورس في تفسير الاحلام، او تعبير الرؤيا. وحبذا لو تترجم دراسته عن الآلهة العربية ودراسته عن الحياة الزراعية والمصطلحات الزراعية لدى العرب والمسلمين.

رضوان السيد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...