ثقافة الالتباس بين التبعية والأصولية

23-12-2006

ثقافة الالتباس بين التبعية والأصولية

كيف يتراءى لنا المشهد الثقافي العربي اليوم؟ وهل استطعنا ان نحتل موقعاً في بنية الفكر الانساني, ام اننا ما زلنا نحاول الاهتداء الى خصوصية ما, تدل علينا, خصوصاً في عصر العولمة والثورة التكنولوجية؟
ان نظرة فاحصة لما ينتجه العرب من الكتب مقارنة بعدد السكان €1.1 من الانتاج العالمي€, يكشف عن فقر شديد, لا سيما حين نعلم ان العرب يشكلون نحو 5 بالمئة من سكان العالم. وتمثل اللغة العربية 4 بالمئة فقط من مجموع اللغات الحاضرة على شبكة الانترنت مقابل 47 بالمئة للغة الانكليزية و9 بالمئة للغة الصينية و8 بالمئة للغة اليابانية و6 بالمئة للغة الالمانية و4 بالمئة لكل من الاسبانية والفرنسية. كذلك فإن اللغة العربية تحتل المرتبة 27 من حيث عدد الكتب المترجمة وان 6881 كتابا فقط ترجمت الى العربية منذ العام 1970. لكن اللافت ان هذه الازمة التي تمر بها الثقافة العربية لا تنحصر في اللغة وحدها, بل تعدتها لتشمل اوجه الابداع العربي كافة, ذلك ان قطاع المسرح والسينما والموسيقى تطغى عليه ظاهرة الاستيراد والاقتباس, والنهضة الشعرية التي عرفناها في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, انكفأت لصالح الهذيان النثري, والاحاجي التي تغرق في الغموض ولا تنتج سوى الالتباس. يضاف الى ذلك ضآلة البحث في العلوم الاساسية, اذ ان معظم المنشورات تتعلق بالميادين التطبيقية, وبشكل عام يتم التركيز على انتاج الكتب الدينية, اما الانتاج العلمي في الانسانيات والعلوم الاجتماعية فيخضع في العالم العربي الى قيود كثيرة, جميع هذه المعطيات تعكس مظاهر عدة لأزمة ثقافية, بعضها ينبع من مفهوم التبعية الثقافية, والبعض الآخر ينبع من هيكل الثقافة العربية ذاتها. والمجموعة الاخيرة تعود الى اسباب سلطوية تتعلق بالاساس بالنخب الحاكمة في الوطن العربي ويظهر ذلك ان الايديولوجية العربية المعاصرة نقلت الفكر الغربي دون تدقيق النظر في مضمون او آثار ما ننقله, والى اي فترة في الفكر الغربي تنتمي هذه الافكار. فعبد الله العروي يرى ان النقل من الغرب جاء في مرحلة الهبوط وليس في مرحلة الصعود, ويطرح بناء على ذلك سؤالاً مهماً هو: اي فكر ننقل؟ وهل استوردنا المضامين الحقيقية ام قمنا باستيراد المظاهر؟ ولعل ابرز مظاهر التشوه في الافكار على حد تعبير المفكر محمد احمد العجاتي هو سيادة الفكر الاستهلاكي في الوطن العربي بدلاً من ثقافة الانتاج. كما ان هذا المظهر يوضح بجلاء علاقة التبعية الاقتصادية, والتبعية الثقافية, واهمية الاخيرة لاستمرار الاولى, بل تدعيمها ايضاً. ومثل هذه الثقافة تجعل هناك رباطاً ذهنياً بين معتنقيها والغرب. ولا يخفى على الكثير منا الحلم الاميركي الذي اصبح يراود الكثير من المفكرين العرب, بل من الشباب ايضاً. اما عن الاسباب النابعة من ثقافتنا العربية في ذاتها, فيرجعها د. عابد الجابري الى «ان ثقافتنا لم تستوعب بعد استيعاباً فاعلاً اسس الحضارة المعاصرة, اسسها العلمية والتقنية, لا على مستوى الفكر, ولا على مستوى العمل... وما نزال نعيش صدمة الحداثة على مستوى الفعل ورد الفعل اللذين يحركهما التنافر والتناقض, وليس التفاعل والتكامل. ان هذا يعني ان ثقافتنا ما زالت محكومة الى حد بعيد ببنى التقاليد الجامدة, وان هذه الاخيرة لم تترك بعد مكانها لبنى حديثة قادرة على اداء وظيفة البنى القومية». بينما يرجع د. حسن حنفي في بحثه «الفكر العربي المعاصر: الجذور والثمار» اسباب الكبوة الى عدم تطابق المنطلقات النظرية مع حجم تحديات الواقع, وكأننا على حد تعبيره من يصطاد بنبلة او كمن يفرغ محيطاً بكوب, ولعل كل هذه التحليلات لأسباب الازمة, سنجدها تنعكس كلها في ثقافة يتصرف فيها الانسان بفقر, ويفكر بفقر افكاراً تؤدي الى فقر اكثر واحتياج للغير اكثر, بمعنى آخر, هو مرض يصيب الاقتصاد ويصيب العقول ويصيب الخيال ايضاً». ومظاهر هذه الازمة عديدة ومتنوعة, ويمكن ان نرى ابرز ملامحها في قول د. محمد عابد الجابري عن سيادة القبلية في السلطة والريعية في الاقتصاد والتعصب العقيدي في الفكر. اما على المستوى المجتمعي, فيظهر جلياً في انفصال العلم عن الثقافة وعدم اندماجه في حياة المجتمع. ولعل ابرز دليل على ذلك ان معظم معتنقي الافكار المتطرفة في وطننا العربي نجدهم اكثر انتشاراً في كليات العلوم الطبيعية وذلك لأنها تعطي طلابها «العلم» دون الثقافة, مما يرسخ الدوغمائية والنظرة الاحادية المغلقة والشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة, وهو ما يؤدي الى التعصب والتطرف. واذا تأملنا اليوم ملامح هذا الحاضر الثقافي العربي لتبينا بعدين يسيطران على هذه الثقافة وان اختلف الامر من مستوى الى آخر, بين هذا البلد العربي او ذاك. البعد الأول هو استمرار التراث العربي الاسلامي القديم متمثلاً في الدين واللغة والأحساس بوحدة الهوية التاريخية, وهي وحدة يمتزج فيها الوجدان القطري بالوجدان العروبي, بالوجدان الروحي والديني, كما تتنوع فيها مستويات التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين بقايا العشائري والقبلية والتسلطية الابوية والتخلف شبه الاقطاعي مع سيادة التخلف الانتاجي واستشراء الهشاشة الفكرية التي تتراوح بين الفكر السلفي الجامد, والرؤية التجزئية الانتقائية النفعية, وروح المتاجرة والربحية السريعة, فضلاً عن الفساد المؤسساتي الذي يضاعف من تخلف مؤسسات السلطة نفسها, في اطار انظمة حكم تسلطية تشكلت جميعاً من أعلى, تحكم وتتحكم باسم منظومة ايديولوجية يرى محمود امين العالم انها تتألف من رؤية طقوسية, ورؤية قومية دعائية, تضمر خلاف ما تصرح به, كما تحكم باسم شورى او ديمقراطية مظهرية وظيفتها­ ان وجدت­ تحسين وتجميل صورة التسلط واضفاء المشروعية عليه.
اما البعد الثاني للثقافة العربية الراهنة السائدة, فيتمثل في استمرار وتفاقم هيمنة رأس المال المعولم, سواء من حيث الهيمنة المعنوية بما يتضمن ذلك من مفاهيم ورؤى واساليب حياة وتشكيلات تجارية واقتصادية واجتماعية, وانماط اعلامية وتعليمية وفكرية وعلمية وتكنولوجية ونفسية, الى جانب الهيمنة السياسية والاقتصادية, بل الوجود العسكري المكثف­ المدفوع الاجر­ باسم حماية البلدان العربية بعضها من بعض!
وبين هذين البعدين, البعد الخاص الداخلي المتهالك والبعد الدولي الخارجي المهيمن, تتخذ الثقافة العربية ­ في مجملها­ طابعاً ثنائياً, ولا تملك ان تحقق نمطاً مجتمعياً انتاجياً موحداً له خصوصياته الذاتية, بل يكاد يحتفظ بثنائية قلقة مستلبة تتحقق الغلبة فيها دائماً للبعد الخارجي, وبخاصة في جانبه المادي العملي الذي يفرض بالضرورة الجانب المعنوي كامتداد له.
لكن دعونا نمعن النظر في هذه الثنائية السائدة والتي تمثل جوهر ثقافتنا العربية الراهنة. هذه الثنائية يرى العالم انها نشأت مع المرحلة التي يطلق عليها عصر النهضة. كذلك فإن العالم يضعنا امام مفارقة جديدة حين يعتبر انها كانت عصر نهضة مشروخة او ملتبسة منذ النشأة الأولى, ذلك انها كانت مفروضة من أعلى, تشوبها مصالح سلطوية توسعية خالصة, ولم تكن تطويراً مجتمعياً ذاتياً, بل لعلها اجهاضاً لنهضة ذاتية بدأت ارهاصاتها الاولى تنمو في مصر, وفي بلاد الشام كذلك, منذ القرن التاسع عشر كما يذهب الى ذلك العالم الاميركي بيترغران, والعالم المصري عبد الرحمن عبد الرحيم, او منذ القرن السادس عشر كما تذهب الباحثة المصرية نيللي حنا.
الى ماذا تشير هذه الاستنتاجات, وهل كتب على الثقافة العربية ان تسير في الطريق الخطأ, وان تقرأ انحطاطها في نهضتها وتراجعها في ما اعتبر انه نموها. ثمة مفارقة عجيبة علينا اعادة النظر في ثناياها, خصوصاً وان التباسات عديدة تحكم نظرتنا الى مسارنا الثقافي تقدما او تراجعاً. الامر الذي يكشف عن عجز في القراءة النقدية للواقع الثقافي, الامر الذي يسمح لنا بالحديث عن «التحقق المشوه للعقل في التاريخ». وهذا يعني اننا بنينا عمارتنا الثقافية على خطأ, وان الحديث عن فكر نهضوي عربي في الماضي القريب, ليس اكثر من تعمية على العقل يتبخر معها كل حس بالاستمرارية والذاكرة, لا سيما وان جل ما تبقى لمفكرينا ومثقفينا هو انهم تحولوا الى خبراء حفريات للماضي ينبشون بقاياه, وينقلونها الى متحف المعرفة الحديثة, دون ان يملكوا القدرة على معاينة ما اكتشفوه, ذلك ان الاشكالية التي تواجه ثقافتنا العربية, تكمن في اننا استسلمنا «لنهضة» لم ندرك كنهها, ولذلك فقدنا الاحساس بالزمن ونقدنا تأثير هذا الاخير في الراهن, من دون ان ندرك ان تفاؤل السيطرة وفقدان الاستقلالية الفردية, وغياب النظرة النقدية المتفحصة, واليأس المنتشر, لم تكن متفشية في ادبنا كما هي الآن, فعلى صعيد الرواية تطالعنا شخصيات في اقصى ما يمكن ان تكون عليه من فراغ, وفي الشعر تطالعنا كتابات ومشاهد في اقصى ما تكون عليه من سطحية كذلك, وكلها في بيان واسلوب هما من النوع نفسه, لذلك يجب ان تكون لدينا شجاعة الاعتراف بأن الثقافة العربية هي اليوم صحراء شاسعة تتخللها مع ذلك براعم خضراء تحاول ان تبلور شيئاً مختلفاً عن السطحية التي تسمم النتاجات الابداعية.
نعم كل شيء في نتاجنا الثقافي يبرز انهيار الآفاق الزمنية ويكشف عن الاستغراق في راهنية اللحظة, جزئياً, في ما للحظة من تشديد معاصر في الانتاج الثقافي على الاحداث, والمشاهد, والوقائع, والصور الاعلامية. وقد اتقن منتجو الثقافة العربية كيفية تقمص تقنيات غريبة وغربية واستخدامها تحت لافتة التقارب بين الثقافة الشعبية وما كان قد جرى عزله باعتباره «ثقافة عليا». لنرى ان هذا السعي نحو مثل هذا التقارب, انعكس في استيراد محاولات حركة الدادائية وبدايات السريالية والبنائية والتعبيرية وجلب فنها الى الشعب العربي كجزء من المشروع «الحداثي» للتغيير الاجتماعي. و مع اعترافنا بأنه كان «لحركات الطليعة» هذه ايمان قوي بالاهداف التي تم تبنيها وكذلك بالتقنيات الجديدة المستوردة, الا ان ردم الهوة بين ثقافة الشعب والانتاج الثقافي, الذي وفرته عموما ادوات التواصل الجديدة, افتقر في حينه الى حوافز طليعية وثورية, بل ان ما بدا منه يومذاك يكفي لاتهام الحداثيين العرب عموما بالانقياد الرخيص والمباشر لمتطلبات التسليع, وعليه ان ما يجب الاعتراف به في هذا السياق هو ان غالبية الحداثيين العرب هم بوعي او غير وعي كانوا غير طليعيين وضد التغيير.
اليوم انظروا الى «انجازاتنا» في العمارة والموسيقى والاعلام والازياء والسينما, انها جميعها من دون هوية محددة, بل هي باختصار رمز للمتع الغبية في الاستهلاك الرأسمالي. الامر الذي يجعل من غالبية مثقفينا ومفكرينا لا ينتجون سوى ثقافة الضياع. هذا الضياع الذي اثقل العام 2006 وما سبقه من اعوام, هو الذي سوف يثقل كاهل العام 2007 لذلك ربما علينا البداية من جديد لمواجهة هذا الاهتراء.

حسين نصر الله

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...