جان جينيه وصبرا وشاتيلا في مهرجان دمشق المسرحي

04-11-2006

جان جينيه وصبرا وشاتيلا في مهرجان دمشق المسرحي

استعادت الممثلة المغربية ثريا جبران، بإخراج عبد الواحد عوزري، نص جان جينيه المكتوب في بداية الثمانينيات إثر مجازر صبرا وشاتيلا. استوحى العرض شكله من فكرة القفز فوق الجثث، ليبني عليها صوراً متناقضة؛ لعبة الغميضة، الأراجيح، الأزقة. وراح يشكل الأمكنة بغابة من الحبال، الحبال النازلة من سقف المسرح، حيث الحبل مفردة طيعة لاستخدامات لا تحصى، فمن حبل عادي، إلى مشنقة، إلى أرجوحة، وزقاق، وقيد. كانت الممثلة تبني، وفي وقت واحد، نص جان جينيه كما تبني الخراب الذي سيكتمل مع اكتمال العرض. بدا رائعاً أن تستطيع الممثلة خلق معادل مسرحي بصري لنص غير مسرحي. أداء الممثلة المؤثر والحميم ليوميات جينيه في شاتيلا جاء مشفوعاً بحركة لا تهدأ على الخشبة، وهي تجد مسوغها في الحركة الدائبة لشد الحبال، وإحاطة الخشبة بأكياس الرمل، ودلاء الماء، لم نكن ندري أن الخراب سينهض فوق كل ذلك. في البداية بدت أفعال الممثلة جبران عشوائية، ضرباً من الحيرة وحسب، ولكن حين شدت الممثلة الحبال بمهارة، وثقّلتها بأكياس الرمل، مع اكتمال المجزرة، ارتفعت صور البنايات المهدمة، التي أخذت أشكالاً بشرية مهدمة هي الأخرى. يصعب أن يتصور المرء نص جان جينيه ممسرحاً، ولكن عنصرين هنا ساهما في إنقاذ النص، الذي نتصوره مستحيلاً بيد آخرين؛ قوة أداء جبران، والمخرج الماهر في بناء المكان وحركة الممثلة فيه. في هنا تونس يروي توفيق الجبالي، مخرج العرض، يوميات التوانسة، عبر مقاطع مسرحية غير منتظمة، فهو لا يعتمد هنا حكاية واحدة أو مكان واحد ناظم، كما في النسخة القديمة من هنا تونس، حيث المكان مصح للأمراض العقلية، بل هي مشاهد من هنا وهناك، تراقب الحياة اليومية بسخرية، عبر حركة شخصيات لعائلة واحدة، بالإضافة إلى شخصية أقرب إلى المخبر، الذي يعنى بتسجيل التفاصيل وتوثيقها بالكاميرا. تتكرر مفردة الكراسي هنا، حضوراً وتعليقاً، باعتبارها المفردة التي تحضر في الفرح والعزاء والختان، وكيف يجري الخلط بين الكراسي الخاصة بهذه المناسبة أو تلك. ورغم الأداء التمثيلي الممتع، والاجتهاد في مراقبة التفاصيل، يبقى العرض نوعاً من الكلام، والتمثيل، أكثر منه عرض صور، فمثلاً تتراجع الإضاءة هنا، في واحدة من مرات قليلة في عروض الجبالي. تبقى الكوميديا الكلامية هي الطاغية، كوميديا تتعرض للحياة والسلطة والشارع. يتحدث عن تونس في زمن الاستعمار باعتبارها خربة، وكيف تحولت في عهد الذين جاؤوا فيما بعد إلى خرائب مقسمة ومنظمة. يحكي عن تونس كبلد للهجرة؛ يخلق المرء وهو يفكر أولاً بالهجرة إلى الحارة الأخرى، ثم إلى المدينة الأخرى، والمرأة الأخرى. ولكن العرض، الذي يختم بمشهد للشخصيات فوق كومة ملابس هجينة وبألوان فاقعة، بلا لون ولا هوية، يصور التوانسة كضائعين في ألوانهم الكثيرة (ليس بعيداً عن ذلك اختيار الديكور كمكان لا ملامح له سوى الكونكريت، مكان في طور البناء يظل كذلك من دون تعديلات تذكر)، ويبحث كل منهم، وهم أبناء بلد الهجرة، عن جواز سفر ضيّعه.
ليست هذه المشاهد (الكلامية) هي الأجمل في عرض الجبالي، بل تلك التي تصور الملل باستفاضة وتفصيل، ويبرع الممثلون حقاً في أدائها. مثلاً تلك التي تصور الناس وتصرفاتهم المجانية، في اجتماع العزاء مثلاً، تجد رجلاً ينقل هذا الكرسي من هنا إلى هناك، ثم تجده يعيده من هناك إلى هنا، في حركات خرقاء من غير جدوى. الجبالي الذي ظل يؤمن طويلاً بعدم جدوى استفزاز المتفرج في مكانه يعمد هنا إلى التشابك معه، وهو لذلك يفتتح عرضه كما لو أن مشادة ما حدثت في الكواليس، مشادة تجادل في جدوى المسرح التونسي وأحواله وسيطرة الفرانكوفونيين على مقدراته. ثم لا يلبث أحد الممثلين أن يخوض مشادة أخرى مع أحد المتفرجين، وبما يشبه الارتجال يظهر كما لو أنه يعطل العرض، ويعطل زملاءه من الممثلين. كذلك فإن الجمهور يتعرض للخديعة حين يطلب منه الممثل أن يقف دقيقة صمت على أرواح الشهداء، وحين يبدأ جمهورنا بالاستجابة يبدأ زملاؤه من الممثلين بإلقاء الكراسي من الكواليس على زميلهم الممثل. الجمهور الدمشقي تفاعل مع العرض التونسي ذلك أنه لم يجد فرقاً كبيراً بين هنا تونس وهنا دمشق، ولكن كثيرين وجدوا في مسرحية الجبالي مسرحاً أقل، على الأقل من عروضه الدمشقية السابقة.
الممثل والمخرج السوري فايز قزق، صاحب النو، المسرحية الجميلة في تاريخ المسرح السوري، والتي قدمت منذ أكثر من عشر سنوات على خشبة المسرح، كما قدمت للتلفزيون في ما بعد، يطل على الجمهور في عرض طويل هو النفق، والذي كان بدأ بارتجالات طلابية كمشروع تخرج لطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية. وهو عرض يدفعنا للتساؤل، بعد أن أزهق أرواحنا في ساعتين ونصف من الضجر، إن كان هذا هو الحال الذي يتدرّب عليه طلاب التمثيل. ولكن يدفعنا أيضاً للتساؤل إن كان النو قد وُفق بالمصادفة. في عرضه المهرجاني يعود قزق إلى طلابه، حتى تكاد لا تلمح سوى وجه واحد معروف بين ممثليه، إنه يبني على فكرة المقهى التي تحفل بها عشرات المسرحيات العربية، المقهى مكان سهل لافتتاح حدث مسرحي، لكن قزق يجعله هنا مقهى طلابياً جامعياً، ولا ينسى أن يستعيد شخصية عامل المقهى الذي يعرف قصص الجميع ويرويها، كما يروي قصته كخريج جامعي لم يجد طريقه إلى عمل، وحلمه الدائم بالسفر الذي يتحقق في آخر العرض، في شبه واضح مع شخصية أبو ريشة التي لعبها المرحوم نهاد قلعي في مسرحية الماغوط غربة. المكان كذاكرة يستعيد شخصيات حلمت وعاشت هنا وتفرقت. ورغم أنه قد يحسب للعرض أنه يقترب من مشاكل الشباب، حيث هذه محور المهرجان وشعاره، سوى أنه يقاربها بطريقة متثاقفة ليحكي مأساة فنان تشكيلي ملوث بخطيئة رسم الأجساد العارية (أي خطيئة يراها قزق في ذلك؟)، كما يحكي مأساة الموديل (المرأة) نفسها، بطريقة غير ناضجة. ولكن أهم ما يميز العرض هو ذلك الصراخ والتوتر المجاني، وإطلالات الممثلين التي تذكر في كل وقفة بفايز قزق الممثل. واللافت تلك اللغة التي كُتب بها الحوار، والتي تقترب في معظمها من إنشاء أدبي مراهق، يحلم بأن يبدو شعراً. عرض النفق وُضع بمثابة العرض الافتتاحي لمهرجان دمشق المسرحي الثالث عشر، ومن المؤسف أنه قدم الصورة التي لا يستحق.

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...