حوار في العمق: من أجل التقريب الحقيقي بين المسلمين (3-7)

12-09-2006

حوار في العمق: من أجل التقريب الحقيقي بين المسلمين (3-7)

الجمل: 1 - التفسير بالرأي المقبول عند المسلمين عامّة هو ما كان قائماً على الاجتهاد الصحيح المستند إلى الأصول الثابتة في الشريعة، وإلى اللغة والبلاغة والبيان. وقد شاع هذا المنهج بين المسلمين وسار عليه أكابر المفسرين.
وقد اختلفت هذه التفاسير في مدى اعتمادها على المأثور، وفي طبيعة استفادتها من اللغة، وطبيعة رجوعها إلى العقل . وفي هذا النوع من التفسير تختفي ـ أو تكاد ـ آفات التفسير بالمأثور من كثرة الموضوعات والإسرائيليات . غير أنها من ناحية أخرى كانت مسرحاً لظهور العقائد والنزاعات المذهبية .
وقد تجسدت آفتها الكبرى حين أصبح القرآن فيها تابعاً لعقائد المفسرين، منقاداً لها، بدلاً من أن يكون مصدراً لها حاكماً عليها. فكثر فيها التأويل وصرف النص عن ظاهره والتحكّم بالمعاني والمفردات، لأجل موافقة المذاهب والانتصار لها. وهذا طريق خاطئ بلا شك، ولا يقرّه أحد ابتداءً، لكنّ هذا الطريق الخاطئ أصبح واحداً من مصادر النزاع بين المسلمين.
2- إن منشأ الخلاف الظاهر في هذه التفاسير يعود إلى مصدرين أساسيين داخلين في هذا النوع من التفسير، هما: اللغة، والعقل .
أ- اللغة:
بلا شك إن اللغة مصدر من مصادر التفسير الصحيحة، فالقرآن إنما يتكلم بلغة، ففهم معانيه موقوف على المعرفة بهذه اللغة ومفرداتها واستخداماتها وخصائصها.
ولقد كان الرجوع إلى اللغة كمصدر من مصادر التفسير قديماً ـ على عهد الصحابة رضي الله عنهم. ومن الشروط الأولية التي اتفق عليها أهل العلم في المفسر : معرفته التامة باللغة العربية ، فليس لغير العالم بها حق الدخول في تفسير شيء من كتاب الله العزيز، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها(1).  لكن طبيعة وحدود الاستفادة من هذا المصدر الصحيح أظهرت خلافات جديدة صارت فيما بعد مصدراً من مصادر النزاع الطائفي. مثال ذلك:
اختلافات المفسرين في مجازات القرآن:
- ففريق أوغل في استخدام المجاز وبالغ فيه مع كل نص غير قطعي الدلالة تقريباً، فكثر عندهم الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، كما هو ملاحظ في تفاسير المعتزلة غالباً.
- وفريق آخر منع من قبول المجاز في القرآن، والتزم بظاهر اللفظ، وهؤلاء هم أهل الظاهر والحشوية.
- بينما توسط فريق آخر بين الفريقين، فقبل الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المجازي ولكن باعتدال ووفق شروط واضحة، وعلى هذا المنهج سارت أهم التفاسير المعروفة عند الفريقين .
وهذا الخلاف الذي ظاهره الاستفادة من اللغة هو في الأصل نابع عن المصدر الثاني     ـ المصدر العقلي ـ كما سنرى .
ب -  العقل :
لما كان العقل عند المعتزلة مستقلاً في الحكم، مقدماً على الشرع، فقد كثر عندهم الرجوع إلى العقل في التفسير وآلتهم في ذلك : اللغة ومفرداتها ومفهوماتها.
ورأى الإمامية أن العقل طريق موصل إلى العلم القطعي، فلذلك لا يصح عندهم أن يكون شاملاً للظنون(2). كما عدوا الرجوع إلى العقل بلا دليل يدل عليه، عدوه من إتباع الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وأن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يصح إلا بدليل صحيح وحجة قاطعة (3).
وأهل الظاهر على خلاف الفريقين معاً .
ولم يكن الرجوع إلى العقل وقفاً على الإمامية والمعتزلة، فهذه كتب التفسير مشحونة بأمثلة ذلك عن أكثر مفسري السلف: ـ فعن ابن عباس في قوله تعالى:
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)            (البقرة 2/255)
قال  :  كرسيه علمه (4).
- وعن مجاهد، في تفسير قوله تعالى: (كونوا قردةً خاسئين)(5) قال: لم يُمسَخوا قِرَدةً، إنما هو مَثَل ضربه الله لهمِ مثل ما ضرب مثلاً في قوله:
(كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً).          (الجمعة 62/5)
- وعن الحسن وغيره في قوله تعالى : (وَجَاء رَبُّكَ)        (الفجر 89/44)
قال: أي جاء أمره وقضاؤه (6). وقد عد أبو الفرج ابن الجوزي هذا التأويل هو مذهب السلف(7).
3- والمهم في هذا الموضوع مسألتان نشير إليهما بإيجاز:
المسألة الأولى: إن الاختلاف في الفهم وفي التفسير ضمن الحدود التي تستوعبها اللغة العربية ويتحملها النص القرآني أمر لا غرابة فيه، ولا يستنكره الدين، ولا تأباه العقول، بل يمكن أن يقال إنه أمر لا بد من وقوعه، كما أن وقوعه خير من عدم وقوعه، لأن فيه من التوسعة والتيسير ما لا يخفى، ولأنه وليد طبيعي لحرية التفكير ولحياة الأمة.
ولكن الذي يستنكره الدين بلا ريب أن تصبح هذه الاختلافات المباحة والطبيعية محاور للنزاع والصراع الطائفي، فإذا بتلك الرحمة تنقلب نقمة، وذلك اليُسر عُسراً، وتلك السَعة ضيقاً!!  وإذا بالحياة صورة من صور الموت !!
والواقع الذي ينبغي أن يُنقد بكل دقّة وحياد وموضوعية ، أن هذه الصورة المستنكرة هي التي وقع عليها اختيار الأمة، فغلبت على مصادر ثقافتنا في التفسير وغيره، حتى أصبحت النتيجة الوحيدة التي يخرج بها الدارس لهذا الواقع هي أنه حتى هذا النوع من الاختلاف في الفهم المستفاد من اللغة كما يبدو في ظاهرة إنما هو في الأصل خلاف مذهبي !
فقد كان في الأصل مواقف مسبقة إزاء المفاهيم، وهذه المواقف هي التي تحكمت في طبيعة الاستفادة من اللغة وحدودها، كما أشرنا إلى ذلك:
- فالذي يذهب إلى التشبيه، يصر على إجراء معاني الألفاظ على ما يفهم من ظاهرها...
- والذي يذهب إلى التنزيه، يوجب العدول من الحقيقة إلى المجاز في كل موضع لا يتفق والتنزيه الذي اعتقده..
- والذي يذهب إلى جواز المتعة، يفسر قوله تعالى :
(فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ)                  (النساء 4/24)
على ما يفهم من ظاهر اللفظ واستعماله ـ والذي لا يجيز ذلك، يصرفه عن هذا المعنى مستفيداً من اللغة... وهكذا..
وفي سائر هذه الاختلافات لم يكن المفهوم من اللغة هو الأصل الذي نشأت منه الاعتقادات، وإنما العكس هو الذي كان ! ويظهر هذا جلياً في كثرة النزاع في تفسير آية الوضوء وطبيعة الاستفادة من اللغة في نصرة المذهب ! ونظيره أيضاً يظهر في النزاع الدائر في تفسير آية سورة التوبة: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) الآية !  ونظيره أيضاً ما ذهب إليه أبو علي الجبائي في تأويل قوله تعالى:
(إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)          (القيامة 75/23)
إذ قال: إنّ () هنا ليست حرف جر، بل هي الاسم المشتق من (آلاء) أي نِعَم، فهي تنتظر نعم ربها (8). مع أن الذهاب إلى هذا المعنى لا يقتضي هذا القدر من التكلف، خصوصاً مع ورود هذا الاستخدام في اللغة كثيراً، كقول الشاعر:
وجوه يوم بدرٍ ناظراتٌ   إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
وقول الشاعر:
إنّي إليك لما وعدتَ لناظرٌ   نَظَر الفقير إلى الغنيّ المُوسِر
ومع ما ورد في هذا المعنى عن علي (ع) ومجاهد (9).
من هنا أصبحت هذه الاختلافات محاور بارزة في الصراع المذهبي الذي دخل سائر كتب التفسير التي تجاوزت حدود الرواية.
نخلص من هذا إلى أن مصدر النزاع هنا هو إخضاع النص القرآني للرؤى المذهبية، حين صار القرآن كتاباً مذهبياً عند أغلب المفسرين، فتراه قرآناً أشعرياً عند المفسر الأشعري، وإمامياً عند المفسر الإمامي، وباطنياً عند الباطني، وظاهرياً عند الظاهري، ومعتزلياً عند المعتزلي !! وأصبح كل فريق في موضع المتَّهَم من قِبَلِ الفرق الأخرى بأنه يلوي عنق النص القرآني لياً لأجل أن يصرفه إلى المعنى الذي ينصر مذهبه !.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض التفاسير المهمة قد تحررت من هذا الطوق ولو بنسبٍ مختلفة، كما هو ظاهر في مواضع غير قليلة من تفسير الرازي، ومن الميزان في تفسير القرآن للسيد الطباطبائي. ولما كان تفسير الرازي أكثر انتشاراً وأكثر حظاً في الدراسة، فقد رأينا أهمية الوقفة هنا مع السيد الطباطبائي، ومع هذه المزية التي تعد واحدة من أبرز معالم منهجه في التفسير.
فلم يكتف صاحب الميزان بما قدّمه في مقدّمته من نقد لتلك الظاهرة بقوله:
«أمّا المتكلمون فقد دعتهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق، وتأويل ما خالف على حسب ما يجوزه قول المذهب» بل تقدَّم مع هذا المبدأ حتى في أشد المواضع إلحاحاً، عند النصوص التي كثر فيها الجدل المذهبي، ومن ذلك:
1- في أوائل سورة براءة، حيث النزاع المحتدم حول تأمير أبي بكر على الحاج ثم إردافه بعلي ليأخذ منه سورة براءة، وقول النبي (ص) : « أمرت أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني».. وقف السيد الطباطبائي موقفاً يمثل قمة الاتزان والموضوعية، فتناول المعاني القرآنية للآيات، ثم انتقل إلى البحث الروائي فاستعرض روايات الفريقين في هذا الموضوع، يقابل بينها وينقدها نقد العالم المتجرد من أي ميل، ثم يسجل ملاحظته القيمة فيقول:
«والباحث الناقد إذا راجع هذه الآيات والروايات ثم تأمل ما جرت من المشاجرات الكلامية بين الفريقين ـ أهل السنة والشيعة ـ في باب الأفضلية، لم يَرْتَبْ في أنهم خلطوا بين البحث التفسيري الذي شأنه تحصيل مداليل الآيات القرآنية، والبحث الروائي الذي شأنه نقد معاني الأحاديث وتمييز غثها من سمينها، وبين البحث الكلامي الناظر في أن أبا بكر أفضل من عليّ أو علياً أفضل من أبي بكر! وفي أن إمارة الحاج أفضل، أو الرسالة في تبليغ سورة براءة ! ولمن كانت إمارة الحاج إذ ذاك: لأبي بكر، أو لعلي ؟
قال: أما البحث الكلامي فلا نشتغل به في هذا المقام، فهو خارج عن غرضنا»(10).
ثم أخذ على بعض المفسرين لهجاتهم المشدودة المتوترة، وقادهم بكل حكمة وهدوء إلى مواضع خلطوا فيها بين أكثر من مفهوم، أو وقفوا فيها على مجموعة من الروايات المختلفة في متونها اختلافاً كثيراً لا يكون فيها القول الذي اعتمدوه قاسماً مشتركاً (11).
2- وفي موضع آخر من نفس السورة زج فيه المتكلمون آراءهم التي تمليها عليهم مذاهبهم، وقف السيد الطباطبائي موقف المفسر المتجرد، فقال: «والذي أوردوه من الخلط بين البحث التفسيري الذي لا هم له إلا الكشف عما تدلّ عليه الآيات الكريمة، وبين البحث الكلامي الذي يراد به إثبات ما يدعيه المتكلم في شيء من المذاهب، من أي طريق أمكن من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع، أو المختلط منها.. والبحث التفسيري لا يبيح لباحثه شيئاً من ذلك، ولا تحميل أي نظر من الأنظار العلمية على الكتاب الذي أنزله الله تبياناً» (12).
3- وفي موضع ثالث، وبعد أن فرغ من كلامه التفسيري الكاشف عن معنى الآية قال: «هذه نبذة مّما يتعلق بالآية والرواية من البحث، والزائد على هذا المقدار يخرجنا من البحث التفسيري إلى البحث الكلامي الذي هو خارج عن غرضنا»(13) وبهذه الروحية، وفي شتى مواضع النزاع (14)، يقدم لنا هذا المفسر الكبير أنموذجاً رائعاً في التفسير، لا مجال فيه للطائفية وأهواء المتكلمين.
المسألة الثانية : وهي مسألة مهمة في رصيد التقريب، خلاصتها: هذا التقارب الكبير بين مفسري الشيعة وأهل السنة في تفسير آيات الصفات، بالرغم من الاختلاف في مصادر التفسير.
إن المتتبع ليجد توافقاً كبيراً في تفسير الآيات التي ذُكر فيها «الوجه» و«العين» و «اليد» التي تُنسب إلى الله تعالى، إن النهج العقلي ظاهر في هذا الوفاق عند الفريقين، لذا لم يشذ عن هذا الوفاق سوى أهل الظاهر والحشوية.
ويظهر ذلك أيضاً حين نلاحظ أن موضع الخلاف الذي حصل بين الفريقين في واحدة من آيات الصفات كان مصدره النقل، لا العقل. وذلك الخلاف وقع عند قوله تعالى :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ 22 إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)       (القيامة 22/23)
فأهل السنة حين جوزوا الرؤية استندوا في ذلك إلى النقل، والشيعة حين منعوا من ذلك وذهبوا إلى خلاف الظاهر استشهدوا لمذهبهم هذا بالنقل أيضاً، خلافاً للمعتزلة الذين وقفوا عند البرهان العقلي.
استغراب :
مما يثير الاستغراب: الدعوى التي أطلقها ابن تيمية وأحاطها بعبارات تفيد القطع والتأكيد اللذين يمتنع معهما الرد والجدل. تلك هي دعواه في عدم ورود التأويل في شيء من آيات الصفات في تفاسير الصحابة والسلف، فقال ما نصه:
«إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف»(15)
وأول ما يقوض هذه المقولة ويصدم قرّاءها ما نقله الطبري في تفسيره الذي هو أصح التفاسير في رأي ابن تيمية، عن ابن عباس في تفسير آية الكرسي، التي هي من أولى آيات الصـفات وروداً في القـرآن الكـريم. فقد نقل الطبري عن ابن عباس من طريقين أنه قال:
« كرسيّهُ: عِلْمُه »، ثم انتخب الطبري هذا المعنى وأيَّدَه بما رواه من استخدام الكرسي بمعنى العلم في الشعر العربي، وقد تقدم أنفاً مع أمثله أخرى. ويزيد في الصدمة أن من تتبع التفاسير لم يجد عن أحد من الصحابة أنه فسر الوجه أو اليد أو العين عند ورودها في الآيات الكريمة منسوبةً إلى الله تعالى وفق مقتضاها المفهوم المعروف الذي يذهب إليه ابن تيمية، بل ذهبوا إلى التأويل وعدلوا إلى المجاز في جميع هذه المواضع. ففسروا « اليد »: بالقوة، كما عن ابن عباس وسائر المفسرين في قوله تعالى:
(وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)(16)        (الذاريات 51/47)
وفسروا «الوجه»: بالثواب، في ستة مواضع، وهي:
قوله تعالى : (وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ..)       (البقرة 2/272)
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ..)           (الرعد 13/22)
وقوله تعالى: (ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ..)       (الروم 30/38)
وقوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ..)        (الروم 30/39)
وقوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ...)        (الإنسان 76/9)
وقوله تعالى: (إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى)         (الليل 92/20)
وفي موضعين آخرين، هما:
قوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ...)      (القصص 28/88)
وقوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)     (الرحمن 55/27)
نقل المفسرون أقوال السلف فيهما، فكان لهم قولان لا ثالث لهما:
أولهما: أن المراد بالوجه في الموضعين هو الله تعالى، فقوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) معناه: كل شيء هالك إلا هو وقوله: (ويبقى وجه ربك) معناه: ويبقى ربك.
والثاني: أن المراد في الآية الأولى فقط هو كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه ـ أي ثوابه ـ من الأعمال الصالحات (17).
وأما الموضع الأخير الذي ورد فيه ذكر الوجه، وهو قوله تعالى:
(تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ..)                 (البقرة 2/115)
فقد أقرّ ابن تيمية بما نُقل فيه عن السَلَف من أنّ المراد بالوجه هنا: الجهة، وقال بعد ذلك: هذه ليست من آيات الصفات(18). وهكذا مع سائر الآيات.
والحقيقة أن هذا ليس الموضع الوحيد الذي تنكر فيه ابن تيمية لما يخالف عقيدته، فكثيراً ما تنكر لأحاديث صحيحة وأقوال السَلَف ووقائع التاريخ من أجل الانتصار لمذهبه، وليس هذا موضع ذكرها، وإنما الغرض التنبيه إليها، وإلى أن متابعته عليها من غير نظر ولا تحقيق تُعدُّ مجانبة للعلم، وسوف لا تكون في صالح التقريب البتة.
خلاصة:
خلاصة القول: إن أكثر مواضع الخلاف المنتشرة في التفاسير التي قامت على المنهج العقلي والرأي الملتزم بالضوابط الأصولية، قد نجمت من خلافات مسبقة في الاعتقادات، لذا لا ينبغي النظر إليها وكأنها حقائق دينية ثابتة لا يتطرق إليها الخطأ.
وهذه حقيقة لسنا أول من يقول بها، بل إن سائر المفسرين قد أدركوها، لذلك نجدهم لا يعتبرون أقوال من سبقهم من أهل التفسير حُجّة، فربما خالفوهم وربما استشهدوا بأقوالهم واستأنسوا بها من غير أن تكون عندهم حجة قاطعة غير قابلة للنقاش.
الهوامش:
(1) البرهان في علوم القرآن /الزركشي 165:2.
(2) أصول الفقه / المظفر 125:3.
(3) الإفصاح في الإمام / الشيخ المفيد: 177، القرآن الكريم في مدرسة الشيخ المفيد /صاحب هذا البحث: 23، الشيخ المفيد مفسراً/ صاحب هذا البحث – مجلة رسالة القرآن- عدد 12.
(4) تفسير الطبري.
(5) تفسير الطبري 332:1.
(6) تفسير القرطبي. 37:20.
(7) رفع شبه التشبيه بأكف التنزيه : 73.
(8) تطور تفسير القرآن : 106.
(9) كما في تفسير الطبري 192:14، ومجمع البيان 398:5.
(10) الميزان 9: 173-174.
(11) الميزان 9: 178-185.
(12) الميزان 9: 230.
(13) الميزان 9: 309.
(14) أنظر مثلاً: ج20 ص 440-442 قوله تعالى : (وما لأحدٍ عنده من نعمة تجزى...) الليل 19-21.
(15) تفسير سورة النور / لابن تيمية: 178-179.
(16) تفسير الطبري 27: 7.
(17) راجع هذه الآيات في تفسير الطبري والبغوي والدر المنثور والقرطبي وغيرها.
(18) العقود الدرية في مناقب ابن تيمية /ابن عبد الهادي: 247-248.

صائب عبد الحميد

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...