دير الزور: الخراب يعم والمسلّحون يتقاسمون الغنائم

19-01-2013

دير الزور: الخراب يعم والمسلّحون يتقاسمون الغنائم

 

في مدينة تنتج النفط يكون وجود المازوت نادرا، وفي منطقة تصدر القمح يصل سعر الطحين لأرقام فلكية، سيتدفأ السكان على الحطب إن وجد لأن الكهرباء باتت كزائر غريب يطرق الباب يوماً ويغيب أسابيع. وسيغدو إدخال الخبز جريمة يعاقب حامله بالإعدام، أما الاتصال فمفقود في أغلب الأحيان، ومع ذلك يعود الناس إلى بيوتهم بعد أن فقدوا أي مورد للرزق حيث تنتظرهم سيمفونية القصف والرصاص المتبادل وجنون حصار يضرب المنطقة بأسرها...
باختصار: مرحباً بكم في دير الزور حيث يتلوّن نهر الفرات بدم أبناء سوريا من ضحايا كل أشكال الموت المترافق بالصمت المطبق، حيث الموت بالرصاص أو البرد أو المرض وفقدان الدواء، أو حتى الموت جوعاً. هنا فقط تتعدد المصائب والحقيقة واحدة: النزف بصمت حتى آخر نفس .
تستغرق الرحلة من دمشق إلى دير الزور قرابة الثماني ساعات في أحسن الأحوال، وقد تمتد لعشر ساعات، قبل أن تستقبلك المدينة بأمواتها قبل أحيائها بحكم المقابر العشوائية التي تنتشر عند مدخل المدينة. وهو بحدّ ذاته مشهد يمهّد لآخر أكثر مأساوية حين يخبرك أحدهم أن المئات من ضحايا الموت والرصاص والقذائف لم يتمكن ذووهم من دفنهم إلا في الحدائق القريبة أو بجوار منازلهم. أما أحياء دير الزور فيبدو التجول في بعضها أو المرور قرب نهر الفرات فيها كارثة، قد تنتهي برصاصة قناص في أفضل الأحوال، بينما تشهد مناطق أخرى استقراراً نسبياً إذ ما زالت الحركة من المدينة وإليها مستمرة، برغم كل شيء. هناك من يعود بحكم عمله في وظائف الدولة التي فرضت عودة الموظفين لدوائرهم، بينما ذهبت الجامعة الحكومية هناك إلى إقامة الامتحانات النصفية في المدينة كمحاولة لدفع الأهالي للعودة تدريجاً وبالتالي تخفيف وطأة المعارك الدائرة. وثمة البعض من الأهالي قد حسم قرار العودة لأن مدخراته قد نفدت، ولأن جنون الغلاء حيث نزح لم يعد ينفع معه أي حلّ فقرر العودة لمنزله أو الاستقرار في أحياء ما زالت نوعاً ما آمنة.
أما تعريف كلمة آمن فهو: لا يشهد أي اشتباكات متبادلة بين الجيش النظامي و«الجيش الحر».
وتقسم أحياء دير الزور اليوم إلى جزء تحت سيطرة المعارضة المسلحة مثل الجبيلة و«الموظفين» والشيخ ياسين والحميدية، وأخرى تحت سيطرة النظام كالقصور والجورة والحويقة حيث عمدت الدولة إلى تفعيل مرافق الحياة إلى حدّ ما في هذه المناطق التي نزح إليها أبناء الأحياء الأخرى، في محاولة لدفع عجلة الحياة بشكل أو بآخر رغم التضييق الخانق الذي تعيشه المدينة بشكل عام.  طفلان يمشيان في أحد شوارع دير الزور المدمّرة («السفير»)
ويشير أحد الأهالي إلى هذا التضييق بقوله «نعتبر أنفسنا نحن سكان دير الزور منذ أشهر طويلة في سجن كبير عاجزين فيه عن التواصل مع الخارج عن طريق وسائل الاتصال الأرضية والخلوية والانترنت، بينما يقول موظف في احدى الدوائر الحكومية ان انفجاراً ضخماً استهدف في الخريف الماضي مؤسسة الهاتف وعطل نسبة عالية من شبكات الاتصال والكهرباء. ويزداد الوضع سوءاً بقول أحد العاملين في حقل الإغاثة «لا نجد حتى المياه الدافئة للاستحمام بل لعلنا عدنا إلى العصور الحجرية حيث نستعين بالحطب من بعض البساتين لنستخدمه في التدفئة والطبخ حيث اختفى البنزين والغاز والمازوت، وان وجد فتصل أسعاره إلى أضعاف مضاعفة من سعره في الأحوال العادية. أما المحظوظ بيننا اليوم فهو من يعثر على مدفآة حطب أو يقدر الرب له شراء كمية منه فأصبحنا نهنئ انفسنا بالتدفئة في محافظة تعتبر خط الإنتاج الأساسي للنفط في البلاد. وبحسب قوله، للذهب الأسود حكاية أخرى، إذ نجح عدد من سكان الريف باستغلال النفط المتسرب من الحقول لاستخدامه في التدفئة رغم المخاطر الكبيرة المحيطة به، لكن ما عسانا نفعل ؟
أما حال الخبز والأفران فقد أصبحت مأساوية جداً، ويعمد الناس إلى الخبز يدويا بما يتسنى لهم من توفر مادة الطحين عبر التبرعات التي تقدمها بعض الجمعيات باعتبار أن معظم الأفران في المدينة باتت خارج الخدمة.
دير الزور.. حكاية «الثورة» التي أكلت أبناءها!
ثمة معضلة حقيقية تعيشها المدينة بصمت رهيب، وهي دخول الثورة الشعبية السلمية نفق الانقسام والتخبط والتخاذل من مختلف الأطراف التي واكبتها، وخاصة يوم حمل أبناؤها السلاح ليكتشف معظمهم أن المقاتلين على الأرض لهم سلطة أعلى من قادتهم في المجالس العسكرية، بينما تيارات المعارضة السياسية تصر على تجاهل المنطقة ككل. وتشير كل المعطيات على الأرض إلى أن المجالس العسكرية لا سيطرة لها على أي جانب إنساني أو عسكري، يضاف إلى ذلك تباين مصادر التسليح والفوضى التي تعمّ تفاصيل المعارك.
وعلى الرغم من اغتنام المسلحين في المدينة للكثير من السلاح والعتاد، إلا أنه منذ أشهر لم تستطع قوات «الجيش الحر» و كتائبه تحقيق أي تقدم يذكر فيها. على العكس تماما، ظهرت الخلافات واضحة بين المسلحين وتصاعدت وتيرة التصفيات بحق بعض قادة الكتائب، كما بدأت الاتهامات وخطابات التخوين تتغلغل بين الكتائب، فلم يعد هناك أدنى تنسيق ولا تشاور في ما بينهم بل بدأت حملات السرقة والعبث بالممتلكات العامة والخاصة بمباركة من بعض كتائب «الجيش الحر».
وتحت سيل من الحجج اللامنطقية، بحسب قول الناشطين، بدأ التدمير الممنهج للبنى التحتية والمباني الحكومية والخاصة، ليذهب ضحية هذا الواقع المرير الكثير من الأهالي. وكانت حجة بعض الكتائب في ذلك أن أهل المدينة وشبابها قد غادروها وجلسوا في المقاهي وليس لديهم إلا التنظير والتشهير، متناسين أنهم هم من أخرجوهم بالقوة بحجة «تحرير» المدينة، فلا هم حرروها ولا هم تركوها بل كل ما فعلوه بها كان الحاق الخراب فيها.
ويقول أحد الشباب، ممن غادروا المدينة، ان الكتائب أخبرتهم بأن في المدينة من هو أهل للقتال وهم كثر، وبدلا من أن نضيع الرصاص هباء في التدريب وهو قليل دعونا نحرر به المدينة هذا أفضل لنا ولكم، وأنتم سيأتي دوركم لاحقا في بناء «المدينة المحررة»! ويكمل الشاب «بعد شهور من حملة التحرير، لم نر لا نصراً و لا تحريراً بل دمار وخراب، حتى أن البعض من المسلحين انسحب تكتيكيا بحجة قلة الذخيرة والآن لم يبق في المدينة كاملة أكثر من 200 شخص وبذخيرة لا تكاد تكفي شيئاً، حتى للحفاظ على حيّ واحد.
ويكشف آخر أن الحجة الأساسية للمسلحين كانت بقولهم ان «المجلس العسكري وقائده الفذ يمثلاننا كمحافظة، ونحن نقول لهما أين هذا القائد الفذ المغوار، الذي ببراعته وحنكته العسكرية لم يحرر حتى حاجزاً واحداً، بل كل ما فعله حتى اللحظة هو جمع السلاح وطمره والظهور بأحد المقاطع المسجلة يتوعد فيها من يخالفه أو يضعه عند حده بالاغتيال والقتل؟». ويخلص الشاب إلى «حقيقة مفادها»: إن أردتم القول الفصل فأنتم قد ورطتم المدينة ودمرتموها وشردتم أهلها بدخولكم إليها وانسحابكم التكتيكي منها، فتركتم من بقي فيها عرضة للغارات والقذائف من دون سلاح ولا ذخيرة. وفوق كل ذلك باركت بعض فصائلكم وسهلت عمليات النهب والسطو والسرقة ولكم في ما حصل في حقول النفط خير مثال، حيث هناك خزانات تعبأ بأكملها وتهرّب، وقطع كهربائية تبلغ قيمتها الكثير تُخرّب وتُنهب من أجل حفنة من المال، فأين كتائبكم عنهم وهي التي أعلنت حمايتها للمنطقة؟
ويكشف كثيرون عن تجميع لصوص ومرتزقة ثم إعلانهم تشكيل كتيبة قد تحمل حتى اسماً إسلاميا وتعلن نفسها ضمن فصائل «الجيش الحر»، بينما لا تتوقف عن أعمال السرقة و«التشبيح» وتخريب مقار الدولة وحتى بيوت النازحين، لتبدو النتيجة دماراً متبادلاً من طرفي الصراع ونزوحاً من أرض الفرات التي يراد تلوينها بمختلف صنوف الاستبداد تحت حكم السلاح.

                                                                                                                      طارق العبد: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...