شهر في زيارة فرنسا بعيداً عن الحكومات والسياسة

10-06-2007

شهر في زيارة فرنسا بعيداً عن الحكومات والسياسة

الجمل  ـ وعد المهنا :بينما الطائرة تنزلق ببطء، كي لا تعكر على الغيوم هناءة البال، بدت دمشق من نافذتها وبدت رحلة الشهر التي قضيتها في أرض فرنسا، ومع سكانها وزوارها، قابلة للنسيان ليس لأنه ما أن وطأت قدماي أرض مطار دمشق حتى فقدت حقيبتي وفقدت معها حجتي بأني قد زرت أرضاً جديدة وكأي وافد يحمل هدايا للعائلة والأصدقاء وتذكارات عن فرنسا لكنها أيضاً صفعة لم أتلقفها من والدي يوماً ولا من كارهٍ وحسبي أني قلت يوماً ما من أحد يستحق كراهيتي!
دمشق وبامتياز أعدتْ لرحلتي ففيها عرفت الأصدقاء العرب والفرنسيين من خلال مؤتمرات شاركت فيها أو في نقاش مع خبراء بحماية المدن القديمة قدموا نماذجاً عن حماية مدنهم في أرض دمشق أقدم عواصم العالم الحية. ذلك الجرح الذي حملني على آلامه سنوات كان معي أنى زرت من المدن الفرنسية وأهمها باريس وأطيبها إلى نفسي مونبيلليه.
جنوب فرنسا متوسطي بامتياز
قد يروق لك حقاً وأنت تضع حزام الأمان على مقعد الطائرة السورية المتجهة إلى مرسيليا أن تشهد لبراعة طياريها في الإقلاع، وقد يروقك أيضاً أن تلتفت من النافذة مودعاً عاصمة تجري في دمك راجياً قبولها اعتذارك لابتعادك عنها، وقد تحيل نظرك عنها إلى الأمام مباشرة لتبرهن لنفسك ما تقوله دوماً القسوة أهم أشكال المحبة ولتصطدم عيناك بصور تغلف الطائرة لقلعتي الحصن وصلاح الدين اللتين سجلتا على لائحة التراث العالمي العام الفائت.
إنه المتوسط ينقذك من صلابة القفص الفولاذي الذي أحاط رغماً بفكرة الحدود بين الشعوب ويهتك بها ويهمس في أذنيك هذا كله لك فدع عنك الحكومات ودع عنك الجنسيات أيها الإنسان.
كان هواء مرسيليا أكبر مدن جنوب فرنسا متوسطياً والطبيعة كذلك وكثرة تتحدث لغة كأنها الفرنسية وأدركت أني أجنبي فالشرطي الفرنسي كان لطيفاً بالسماح لي بالعبور إلى دولته لاسيما وأنني وصلت في اليوم الأخير من أيام دعوتي، التي وجهتها لي الصديقة أوريان مات الباحثة في المركز الوطني للأبحاث الفرنسية، ولا أظنه علم من جواز سفري بأنه ذات اليوم الذي أطلقت صرختي الأولى على هذا العالم!
مرسيليا أمامي الآن وابن عمي الطبيب المغترب ينتظرني فيها مع عائلته ونحن نقطع الشوارع المؤدية إلى منزله وكأنها شبكة القطارات التي عرفناها لعبة في طفولتنا فالسيارة مرة تصعد جسراً ومرة تهبط نفقاً ومرة تحلق في شوارع لا تتسع إلا لها.
اتجهت مع مضيفتي إلى مدينة مونبيلليه التي ينتظرني فيها أخي، الذي نال شهادة البكالوريوس من جامعة دمشق قسم الآثار، ومجموعة من الأصدقاء الجدد التي جذبتني إليهم شوارع المدينة وريفها وكذلك بشرتهم فمنهم سعيد من المغرب وأحمد من مصر وشهيرة وإيمان من الجزائر وسام وكثيرين ممن أهدوني لاحقاً مجموعاتهم الشعرية والتقيتهم في مدينة "سيت" وكذلك "ميز" الفينيقيتين حيث قلّنا المعلوماتي "سام" بقاربه وأعد لنا طعاماً بحرياً فائق الروعة والتقينا برفقته مجموعة من البحارة ومنهم ريمون الذي أهدانا مجموعة من المسامير التي يحضرونها لبناء السفن ويستمع لموسيقا تجعل من المتوسط سيمفونية تلتقطها أسماع شعوبه بفرحٍ وبالتأكيد كان لقاؤنا مع هؤلاء البحارة لمناقشة بناء سفينة فينيقية ستنفذها عائلة صلاح بهلوان الأروادية وقد أعدّ لكل ذلك متطوعون لإنقاذ عمريت سوريين وأصدقاء من فرنسا.
أما البروفسور باتريك من إحدى جامعات مونبيلليه فقد أطلق عبارته في وجهي "أنا وحيد" وحقيقةً وبعد لقائي مع فرنسيين كانت تلك العبارة مرآة حقيقية لحياتهم.
ما كان يسمح بذرف الدمع هو لقاء أعدت له مجموعتنا المتوسطية وأعده الأصدقاء من تونس والجزائر وسوريا وفرنسا وأطباقاً تفرد تراث هذه الدول وقد أجمعوا على أن أشهاها كان طبق الأوزي الذي أعده أخي. والملفت كان ولع السيدة التونسية سامية ميوسك بسوريا وهي التي أعدت لشهادة الدكتوراة فيها وعنوان إطروحتها د. عبد السلام العجيلي وأدبه.
ما أن تبدأ السيدة رئيسة قسم اللغة العربية في جامعة مونبيلليه الثالثة بالعودة إلى الذاكرة حتى تتوجه بالامتنان الكبير لكل من ساعدها في دمشق والرقة لا سيما د. العجيلي والتي بدت متأثرة جداً لخبر وفاته وقد أملت أن تهديه أطروحتها التي ما تزال قيد الطبع.
أما السيد جان ماري ميوسك زوجها البرفسور في علم الجغرافيا ورئيس جامعة مونبيلليه الثالثة فيؤكد، على الرغم من زيارته لأغلب الدول العربية، مكانة سوريا الأثيرة في نفسه وعاصمتها دمشق التي اقتادته إلى بيوت الساحرات في دمشق القديمة ولكم يرغب بزيارتها مجدداً وزيارة معظم المدن السورية التي ينطق أسماءها بعربية جيدة وتراه ونحن نتحدث عن عظمة التراث السوري يرغب بحوار لا ينتهي وقد لمس غناه بعد زيارته لمواقع مختلفة منه.
مونبيلليه مدينة يعتبرها الفرنسيون من مدنهم المتوسطة المساحة فهي تشبه قرية كبيرة تلتقي أهلها في مدينتها القديمة وساحاتها لاسيما التي تقودك إلى قوس النصر الذي هو نموذج عن الأصل في باريس. ولم يكن ممكناً أن أخفي ولهي بشوارع فرنسا ومنها شوارع هذه المدينة التي تتعدد وسائل نقلها التي لا تقف عند السيارات فهناك الدراجة الهوائية والنارية والقطار والمترو والترامواي وجميعها داخل المدينة أيضاً!
حقيقةً أن المدينة رائعة بعمارتها وطبيعتها وناسها وشوارعها التي ستقودك لزيارة جاراتها كمدينة أرل التي توله بها فان كوخ وجسد بلوحاته طبيعتها وعمارتها ونهر الرون الذي يخترق المدينة وأيضاً متحفاً لهذا الفنان تخلده المدينة التي تضم أيضاً مسرحاً رومانياً هائلاً ومسرحاً لمشاهدة مصارعي الثيران وهناك أيضاً مدينة إغمورت القلعة التي تطل على المتوسط وتحتضن عمارة حديثة تتناسب مع علو أسوارها حيث يقودك فيها ممر يربط بين أبراجها لترى تفاصيل منازل سكانها وحياتهم ولتتطلع في كل برج تمر به على تاريخ هذه القلعة من خلال فيلم قصير ولتبتاع، قبل مغادرتك في متجر يتضمنه بناء القلعة، الكتب التي تروي لك تاريخ المكان وسواه على أرض فرنسا أو لتشتري لأطفالك القصص أو التذكارات وحتى الألعاب وجميعها مستلهمة من تاريخ القلعة وملوكها.
كثيرة هي مدن الجنوب الفرنسي ومواقع تراثه الثقافية والطبيعية التي مررت بها وأجملها مسقط رأس موليير و فالمان بيي وبحيرة سالاغو وجميعها يحافظ عليها الوعي البالغ والعناية الجيدة من الإدارة والسكان كما تجدر الإشارة لشبكة الطرق التي تصل هذه المواقع جميعاً حيث ترى الفرنسيون يدفعون مالهم برحابة صدر كتعرفة لعبورهم هذه الأتوسترادات  المنسابة كالمياه! والتي تربط جميع مدن فرنسا وقد كانت فرصتي عظيمة أن أنتقل بالسيارة إلى باريس عبرها وكان لزاماً علينا المرور بمدن لا تشبه مدن الجنوب أو الشمال بطقسها حيث غمرتها الثلوج وبدت مقفرة بلا حياة لكن الخريطة المعدة لزوار فرنسا تقودك إلى حيث تستطيع أن تتناول وجبة شهية مع نبيذ لذيذ يطرد الإحساس بالبرودة ويساهم في طرده أيضاً أن كل مدينة تمر بها ستتحفك بمنتجاتها من الجبنة والحلويات وصناعاتها اليدوية وتذكاراتها التي تستمد من طبيعة الجبال الساحرة ولعلك تتلمس العبقرية في جسر "ميو" الذي يصل بينها وعلى ارتفاع يفوق الألفي متر عن سطح البحر وقد أعد الفرنسيون فسحة لتتمكن من رؤية عظمة البنائين والتقاط الصور التذكارية مع أشهر جسور العالم قاطبة.
باريس قلبٌ سينفجر
ما أن دخلت السيارة مدينة الأنوار حتى باغتني الأصدقاء بنهر السين وسارت بنا بمحاذاته وما هي لحظات حتى تصافحَ عيناي تمثالَ الحرية المصغر الذي ربما ندمت فرنسا على إهداء نسخته الهائلة للولايات المتحدة وتقف من خلفه كومة الحديد العظيمة التي لحظة بنائها كرهها أهل باريس خشية من أن تسقط على رؤوسهم يوماً ما وبالتأكيد أتحدث عن برج صممه المعماري إيفل عام 1908 ويقف اليوم كأحد العلامات الفارقة لباريس.
لايمكنني ها هنا أن أصف أيامي التي قضيتها في عاصمة الأنوار لكنني سألخص انطباعاتي عن هذه المدينة التي هي بلا شك تستحق لقبها هذا، انطباعات رويتها لأصدقائي العرب والفرنسيين.
المأثرة الأولى والأساس هو هذا الذي يقتطع المدينة إلى جزر ويقطعها دون نقاش مع أحد ويرغم معماري المدينة على التكيف والإبداع معه ويجعلهم يبتدعون الصفة الأهم وهي التناظر لجميع تلك الأبنية والساحات.
إنه السين العظيم الذي يشاركك، إذا ما جلت بقارب لتتصفح مدينته بمنظار آخر، الحزن العميق على بردى وما يلم بدمشق من خسارة لعدم الاكتراث بالطبيعة وبالتخطيط المعافى للمدن الكبيرة التي قامت أساساً على أنهارها.
باريس تردني إلى طفولتي ويوم كنت متفوقاً في مدرستي لأستحق الهدايا التي أمطرتني بها أمي كسلسلة الناجحين عن دار العلم للملايين ولألعاب كالمكعبات والميكانو والمنازل التي كان يتوجب علينا بناء بيوت من حجارتها البلاستيكية وكان حلماً بناء بيت لي بذات التصميم، كما لعبتي تلك، في قريتي لكنني كبرت وبقي حلماً يلوذ بذاكرة مليئة بغبار هذه الأيام إلى أن زرت باريس وعرفت أنها لعبتي الكبيرة!
لكن الكارثي في عمارة باريس الفريدة هو الحجر الذي بنوا به تلك المدينة فقد كان بارداً بلا إحساس رغم الزخارف الرائعة التي نقشت أو برزت منه وهذا ما دفع ربما الباريسيون إلى الاختباء في منازلهم يلوذون بدفء مواقدهم وجعلوا مصير مدينتهم للغرباء!
كل الأجناس والألوان البشرية تتدفق في شوارع المدينة التي ما أن تستيقظ حتى ترغم الملايين بالاندفاع إلى أعماق تصل إلى 20 متراً تحت الأرض وسيبدو لك قلب المدينة متسارع النبض لدرجة أنك ستحمله بيديك إلى أقرب مشفى إن أدركته فالثانية هي الفاصل بينك وبين المترو فإما تدفع بجسدك داخله أو يغلق عليك أحد أبوابه أو يعتذر منك للتأخير فعليك أن تنتظر!
في المترو يقف العالم أمام عينيك كل الجنسيات والأعراق فيه طالما أن الباريسيين مستقرون قرب مواقدهم وحتى موسيقا العالم وأغانيه تجول معك في المترو وما من موسيقي كما ترى في باريس عاطل عن العمل فهم على الجسر الذي يقودك إلى كنسية نوتردام من روائع العمارة القوطية التي تمتاز بضخامة بنائها وسحر واجهتها المنحوتة بأصابع آلهة وقد تراهم في جادة سان ميشيل الشهيرة مع موسيقا الجاز والبوب وفي النفق المجاور لمتحف اللوفر الذي يصلك إلى مترو تصادف فيه غجرية تجر آلة تسجيل للموسيقا على عربة وتمسك بيدها الميكرفون وتغني حتى آخر خط المترو أو حتى لحظة مغادرتك إياه فتمنحك قبلة على الخد برضا طالما أنها أتحفتك ووجب عليك دفع كل عملتك المعدنية في قبعتها.
إذا هذا هو ريمي بطل الفيلم الكرتوني الطويل الذي عشقناه في طفولتنا يعود اليوم وأراه في باريس ينتظر مع فرقته على الدرجات الكثيرة المؤدية إلى المترو أو داخل المترو وفي كل محطاته يتنقل له كل الشوارع والساحات وهو بالتأكيد جزء من فضاء باريس الحر.   
هذا الفضاء يرتبط عضوياً بنهر السين وبحجارة الباستيل البازلتية التي سيثيرك أن تعرف مصدرها والتي كان الفرنسيون يقتلعونها من الشوارع المرصوفة بها واليوم وبعد أن كانت وقود ثورتهم الشهيرة على ملوك فرنسا في قصور فرساي أو قصور ملوك فرنسا التي آلت إلى متحف اللوفر وسأقف عنده ومتحف أورسي بكل تأكيد بمقالٍ يليق بكنوزهما واللذين يشكلان خلاصة العالم بأسره.      باريس إذاً مدينتان واحدة يقودها السين بحب تجسده القبلات الطويلة التي تعطر أنفاسك بها في  حديقة اللوكسمبورغ أو مقاعد حديقة كاتدرائية نوتردام الخلفية وأيضاً نوافذ معهد العالم العربي التي تعكس تألق عمارته على هذا النهر وتخفي عجز دولنا العربية عن دفع مستحقات نشر الثقافة العربية فيه، وبكل تأكيد على باب كنيسة القلب الأقدس التي ترفع ببخورها المدينة في شهيق لا ينتهي. وباريس الأخرى تدفع ببشرها إلى عمق الأرض وتدفعهم بمنافذ المترو والقطارات الكثيرة لأشعة الشمس ولحقيقة كقوتها بأنها عاصمة الإمبراطورية التي جعلت نصف أراضي الكوكب مستعمراتها ويجسدها اللوفر ببلاغة وكذلك نابليون بقوس نصره الذي كرس لعلاقة فريدة بين فرنسا ومصر التي حمل منها معه إحدى مسلاتها كتذكار استقر في ساحة الكونكورد وخلّف وراءه تفسيراً للهيروغليفية على يد أحد علماء حملته شامبليون وتاريخ مصر موثقاً كأبلغ مرجع عرفته أمة الفراعنة.
أذكر جيداً ما قلته لصديقيّ المعماريين وكلاهما يحمل الجنسية الفرنسية، لبناني تستيقظ في عينيه باريس كل صباح وسوري يصفها بعاصمة الاستعمار لأبهتها حيث لا تجوز برأيه زيارتي لفرنسا دون أن أقصدها.. وما قلته يلخص حلاً لحجارة المدينة المكونة لعمارتها والتي عكست برودتها على الحياة هناك فإما أن أحمل باريس في طريقي عودتي إلى سوريا لتتعتق بشمسٍ لا تنام وإما أنصح بلدية المدينة باستئذان أهل حلب بقليلٍ من حجارتها ليبنوا به قطاعاً معمارياً يعكس عظمة من وصفوا حجرها بالمقدس وتلونه الشمس يومياً بشفة حمراء لتتلون عمارة باريس كسكانها اليوم بكل الأجناس والألوان!
أشكر أصدقائي الذين  أثروا زيارتي لفرنسا وجميع الفرنسيين الذين أتاحوا لي فرصة الإطلاع على معالم بلدهم باستثناء المسؤول عن برج إيفل الذي أخشى أن ينطبق عليه المثل الفرنسي الذي قيل لي من صديق فرنسي معلقاً "يكفي انطباع سيء عند زيارة مَعْلم واحد ليعكس الصورة الحقيقية عن الكل" لكن كم تمنيت أن أتسلل ليلاً كالفرنسيين لجدار في  أنفاق وشوارع فرنسا لأشاركهم كلمات كثيرة يذكرون فيها بأن ثمة مجانين لهم حضورهم أيضا.


الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...