مختارات لقاسم أمين في تحرير المرأة

11-01-2007

مختارات لقاسم أمين في تحرير المرأة

«كل مسألة من المسائل التي أجملتها في هذه الأسطر القليلة يصحّ أن تكون موضوعاً لكتاب على حدة، وقد تعمدت الاختصار فيها حتى ترتبط تلك المسائل ببعضها كأنها حلقات سلسلة واحدة، وغاية ما أريد هو أن أستلفت الذهن إلى موضوع قل عدد المفكرين فيه، لا أن أضع كتاباً يوفي الكلام في شأن المرأة ومكانتها في الوجود الإنساني».
«... وقد طرقت باباً من أبواب الإصلاح في أمتنا، والتمست وجهاً من وجوهه في قسم من أفراد الأمة له الأثر العظيم في مجموعها، وأتيت في ذلك ما أظنه صواباً...».
من مقدمة الكتاب:

كان كتاب قاسم أمين «1863- 1908م» «تحرير المرأة - 1899» أول كتاب أثار زوبعة، أومعركة فكرية واجتماعية في الثقافة والمجتمع العربيين الحديثين، مما دفع مجموعة من الكتّاب إلى الردّ عليه - والنص المتقدم يكثف مقالة الكتاب - إذ صدرت في الرد فور ظهوره الكتب التالية:
1- أنيس الجليس في التحذير مما في تحرير المرأة من التلبيس - 1899 لمحمد حسنين البولاقي.
2- فصل الخطاب أو تفليس إبليس من تحرير المرأة ورفع الحجاب - 1900 لمختار بن مؤيد باشا العظمي.
3- السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين «رواية - 1902» لمحمد كاظم ميلاني.
4- تربية المرأة والحجاب - 1905 طلعت حرب.
5- الدمع المتين - عبد المجيد جرين - «لم أطلع على هذا الكتاب».
فما سبب شدة ووفرة هذه الكمية من الردود في ثقافة لم تكن قد تعودت بعد - في العصر الحديث - على مناقشات الكتب، والرد عليها؟!.
ربما كان السبب أن مسألة المرأة - وهي ترتبط في الذهن العربي- عموماً - بالجنس والملكية الخاصة، وبما تحيل إليه من «قضايا»: العرض، الشرف، الملكية - كانت، ولاتزال، حساسة في المجتمعات العربية والاسلامية، وقد فوجىء المجتمع آنذاك بالدعوة الجديدة لتحرير المرأة، وهي دعوة كانت مفاجئة بعض الشيء إذ لم يسبقها إلا دعوة رفاعة الطهطاوي «1801-1873» لتعليم البنات، «العمل يصون المرأة عما لا يليق ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال، فهي مذمة عظيمة في حق النساء»، ومناظرة طريفة نشرت في مجلة «المقتطف» عندما كتبت أول امرأة عربية في العصر الحديث مقالة في مجلة، فرد بعضهم بأن كاتب المقالة رجل ينشر باسم امرأة «المقتطف - 1881».
على كل حال، تزامن كتاب «تحرير المرأة» مع محاولة مدرسة الإصلاح التي بدأها الشيخ محمد عبده «1849-1905»، تطويع الدين الإسلامي وملاءمته مع حاجات الحياة (العصرية) في مجتمع نهضوي جديد قيد التكوين، فقاسم أمين كان يرى أن مفتاح الإصلاح والنهوض بحاجات المجتمع العربي والإسلامي هو إصلاح حال المرأة، وربما لهذا السبب اتهم بعضهم الشيخ محمد عبده بأن له «ضلعاً» في كتابة هذا الكتاب.الكتاب على كل حال، كان المقدمة الأولى لكتابين تاليين كبيري الأهمية «الإسلام وأصول الحكم -1925» للشيخ علي عبد الرازق «1888 -1966»، وكتاب «في الشعر الجاهلي - 1926» لطه حسين «1889 -1973»، فإذا كان مضمون كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين يلامس بُعْد التحرر الاجتماعي، فإن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» يلامس بُعْد التحرر الفقهي والسياسي، مثلما يلامس كتاب «في الشعر الجاهلي»، بُعْد التحرر الفكري والعقائدي والأدبي وهذه أسس التحرر كما هو معروف.
«التعليم والحجاب وتعدد الزوجات والطلاق»، إذ يطالب بتعليم المرأة دون أن يكون تعليمها مساوياً لتعليم الرجل بالضرورة.. أما بالنسبة للحجاب، فيرى «أن الحجاب يحبس المرأة في دائرة ضيقة فلا ترى ولا تسمع ولا تعرف إلا ما يقع فيها من سفاسف الحوادث» مما يؤدي إلى «انحطاط تدريجي في قواها العقلية»، مع العلم أن الحجاب المقصود هنا - آنذاك - هو «حجب» المرأة وإبقاؤها في البيت، وليس مجرد اللباس، كما تطور إليه المصطلح اليوم، فالمرأة قد خرجت من «حجاب» البيت وعملت، بغض النظر عما تلبس، وعما تضع على رأسها، وهذا هو المهم.
أما تعدد الزوجات، فيرى قاسم أمين أنه «فساد في العائلات» و«فساد الأخلاق وشره في طلب اللذائذ» ولهذا يدعو إلى تجاوزه ومنعه.
وبالنسبة للطلاق، يدعو الكتاب إلى التروي فيه، وعدم الاستخدام العشوائي والمتسرع له.
من هذا نرى أن مطالب كتاب «تحرير المرأة» كانت متواضعة بمقاييس الزمن الذي أتى فيما بعد، لكن هذه المطالب المتواضعة كانت كافية لإثارة أول «معركة» فكرية اجتماعية في ثقافتنا ومجتمعنا العربيين الحديثين.
«تراجم مصرية وعربية -....»
«كلما ذكر اسم قاسم أمين ذكر معه تحرر المرأة في مصر، فأول صيحة ارتفعت لهذا التحرير هي صيحة قاسم أمين في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة».
بقي أن نقول: إن مطالب الاصلاح الاجتماعي والإنساني لوضع المرأة في كتاب قاسم «تحرير المرأة» إنما تندرج في إطار فكر ومرحلة الإصلاح العام آنذاك، أي في إطار مدرسة الشيخ محمد عبده، المؤسسة لهذا التيار، مثلما تندرج في إطار فكر قاسم أمين الإصلاحي ذاته.
وحسبك من دعواته الأخرى للإصلاح والنهوض  والجديد أنه كان أحد مؤسسي «الجامعة المصرية»، فقاسم أمين أحد أهم رواد ومفكري التيار النهضوي، الذي كان يرى أن أساس النهضة هو: التربية والتعليم، وهو بهذا يفترق عن التيار «الراديكالي» السياسي الذي أسسه «جمال الدين الأفغاني، 1838- 1897»، والذي كان يرى أن أساس النهضة هو «العمل السياسي» وحتى «الانقلابي» وهذا هو أساس الاختلاف بين تياري الأفغاني ومحمد عبده، كما هو معروف، وهو خلاف لايزال مستمراً في الفكر الاجتماعي-النهضوي العربي الحديث.
فإلى أين وصلت هذه الدعوة؟ وماذا حققت؟!.
-  " كل مسألة من المسائل التي أجملتها في هذه الأسطر القليلة يصح أن تكون موضوعاً لكتاب على حدة، وقد تعمدت الاختصار فيها حتى ترتبط تلك المسائل ببعضها كأنها حلقات سلسلة واحدة، وغاية ما أريد هو أن استلفت  الذهن إلى موضوع قلّ عدد المفكرين فيه، لا أن أضع كتاباً يوفي الكلام  في شأن المرأة ومكانتها من الوجود الإنساني".
وقد يوضع مثل هذا الكتاب بعد سنين، متى نبتت هذه البذرة الصغيرة ونما نباتها في أذهان أولادنا، وظهرت ثمراتها، وعملوا على اقتطافها والانتفاع بها.
ويرى المطلع على ما أكتبه أني لست ممن يطمع في تحقيق آماله في وقت قريب، لأن تحويل النفوس  إلى وجهة الكمال في شؤونها مما لا يسهل تحقيقه، وإنما يظهر أثر العاملين فيه ببطء شديد في أثناء حركته الخفية، وكل تغيير يحدث في أمة من الأمم وتبدو ثمرته في أحوالها فهو ليس بالأمر البسيط، وإنما هو مركب من ضروب من التغيير كثيرة تحصل بالتدريج في نفس كل واحد شيئاً فشيئاً ثم تسري من الأفراد إلى مجموع الأمة، فيظهر التغيير في حال ذلك المجموع نشأة أخرى للأمة.
وما نحن فيه اليوم ليس في الطاقة البشرية تغييره في الحال، وليس من العار علينا أننا وجدنا في مثل هذه الحالة، لأن كل عصر لا يسأل إلا عن عمله، وإنما العار أن نظن في أنفسنا الكمال، وننكر  نقائصنا، وندعي أن عوائدنا هي أحسن العوائد في كل زمان ومكان، وأن نعاند الحق، وهو واحد لا يحتاج في تقريره إلى تصديق منا به،  وكل ما نقوله أو نفعله لإنكاره لا يؤثر فيه بشيء وإنما يؤثر فينا أثر الباطل في أهله، ويقوم حجاباً بيننا وبين إصلاح أنفسنا، إذ لا يمكن لأمة أن تقوم بإصلاح ما إلا إذا شعرت شعوراً حقيقياً بالحاجة إليه، ثم بالوسائل الموصلة له.
لا أظن أنه يوجد واحد من المصريين المتعلمين يشك في أن أمته في احتياج شديد إلى إصلاح شأنها، فهؤلاء المتعلمون الذين أخاطبهم اليوم أقول: إن عليهم تبعة ما نألم له في عصرنا هذا ، ولا يليق بمعارفهم ولا بعزائمهم أن يسجلوا على أنفسهم وعلى أمتهم العجز واليأس والقنوط، فإن ذلك صورة من صور الكسل أو مظهر من مظاهر الجبن أو حال من أحوال من لا ثقة له بنفسه ولا بأهله ولا بملته ولا بشرعه ولا بإلهه، وأراهم بهذا يستسلمون إلى تيارات الحوادث تتصرف فيهم كما تتصرف في الجماد و النبات، وتقذف بهم إلى حيث يحبون أو لا يحبون.
وقد طرقت باباً من أبواب الإصلاح في أمتنا، والتمست وجهاً من وجوهه في قسم من أفراد الأمة له الأثر العظيم  في مجموعها، وأتيت في ذلك بما أظنه صواباً، فإن أخطأت فلي من حسن النية ما أرجو معه غفران سيئة خطئي، وإن أصبت، كما أظن، وجب على أولئك المتعلمين أن يعملوا على نشر ما أودعته في هذه الوريقات، وتأييده بالقبول والعمل.

حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية:  
إني أدعو كل محب للحقيقة أن يبحث معي في حالة النساء المصريات، وأنا على يقين من أنه يصل وحده إلى النتيجة التي وصلت إليها، وهي: ضرورة الإصلاح فيها.. هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها حتى إذا تجردت عن كل ما  كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وزاحمت غيرها، وتغلبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبهني إلى مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.
ومن أحكم الأشياء التي يدور عليها تقدم النوع الإنساني ويؤكد حسن مستقبله هذه القوة الغريبة التي تدفع الإنسان إلى نشر كل فكرة علمية أو أدبية متى وصلت إلى غاية نموها الطبيعي في عقله، وأعتقد أنها تساعد على تقدم أبناء جنسه، ولو تيقن حصول الضرر لشخصه من نشرها، تلك قوة يدرك سلطانها من وجد في نفسه شيئاً منها، يشعر أنه إن لم يسابقها إلى ما تندفع إليه ولم يستنجد بقية قواه لمعاونتها  على استكمال ما تهيأت له غالبته إن غالبها وقاومته إن قاومها وقهرته إن عمل في قهرها، وظهرت في غير ما يحب من مظاهرها، كأنها الغاز المحبوس لا يكتم بالضغط، ولكن الضغط يحدث فيه فرقعة قد تأتي على هلاك ما حواه.
والبراهين على ذلك كثيرة في الماضي، فإن تاريخ الأمم مملوء بالمناقشات والجدل والجلاد والحروب التي قامت في سبيل استعلاء فكر على فكر ومذهب على مذهب، وكانت الغلبة تارة للحق وأخرى للباطل، وكانت الأمم الإسلامية على هذه الحال في القرون الأولى والوسطى.. ولم يزل الأمر على ذلك أو يزيد في البلاد الغربية التي يصح أن يقال فيها إن حياتها جهاد مستمر بين الحق والباطل والخطأ والصواب.. جهاد داخلي بين أفراد الأمة في جميع فروع المعارف والفنون والصنائع، وجهاد خارجي بين الأمم بعضها مع بعض، خصوصاً في هذا القرن الذي ألغت فيه الاختراعات الحديثة المسافات والأبعاد وهدمت الحدود الفاصلة والأسوار المانعة حتى أن الأشخاص الذين ساحوا في جميع أنحاء الأرض يعدون بالألوف، وإذا ألّف رجل من مشاهيرهم كتاباً ترجم في أثناء طبعه وظهر في خمس أو ست لغات في آن واحد!.
ولم يركن إلى حب السكينة إلا أقوام على شاكلتنا، فقد أهملنا خدمة عقولنا حتى أصبحت كالأرض البائرة التي لا يصلح فيها نبات، وحتى مال بنا الكسل إلى معاداة كل فكر صالح مما يعده أهل الوقت حديثاًً غير مألوف، سواء كان من السنن الصالحة الأولى أو قضت به المصالح في هذه الأزمنة.
وكثيراً ما يكتفي الكسول وضعيف القوة في الجدل بأن يقذف بكلمة باطلة على حق ظاهر يريد أن يدفعه فيقول: تلك بدعة في الإسلام، وما يرمي بهذه الكلمة إلا حب التخلص من مشقة الفهم أو الخروج من عناء العمل في البحث أو الإجراء.. كأن الله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التي يخضع لسلطانها النوع الإنساني وسائر المخلوقات الحية.
سيقول قوم: إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول: نعم أتيت ببدعة، ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد وطرق المعاملة التي يحمد طلب الكمال فيها.
لِمَ يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغير ولا تتبدل، وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلى الأبد؟ ولِمَ يجر على هذا الاعتقاد في عمله، مع أنه هو وعوائده جزء من الكون الواقع تحت حكم التغيير والتبديل في كل آن؟.
أيقدر المسلم على مخالفة سنة الله في خلقه، إذ جعل التغيير شرط الحياة، والتقدم والوقفة والجمود مقترنين بالموت والتأخر؟ أليست العادة عبارة عن اصطلاح أمة على سلوك طريق خاصة في معيشتهم ومعاملاتهم حسبما يناسب الزمان والمكان؟ من ذا الذي يمكنه أن يتصور أن العوائد لا تتغير بعد أن يعلم أنها ثمرة من ثمرات عقل الإنسان وأن عقل الإنسان يختلف باختلاف الأماكن والأزمنة؟ المسلمون منتشرون في أطراف الأرض، فهل هم أنفسهم متحدون في العادات وطرق المعاش؟ من ذا الذي يمكنه أن يدعي أن ما يستحسنه عقل السوداني يستحسنه عقل التركي أو الصيني أو الهندي، أو أن عادة من عادات البدو توافق أهل الحضر أو يزعم أن عوائد أمة من الأمم كانت بقيت جميعها على ما كانت عليه من عهد نشأتها دون تغيير.
والحقيقة أن لكل أمة في كل مدة من الزمن عوائد وآداباً خاصة بها، موافقة لحالتها العقلية، وان تلك العوائد والآداب تتغير دائماً تغيراً غير محسوس تحت سلطان الإقليم والوراثة والمخالطات والاختراعات العلمية والمذاهب الأدبية والعقائد الدينية والنظامات السياسية وغير ذلك، وأن كل حركة من حركات العقل نحو التقدم يتبعها حتماً أثر يناسبها في العادات والآداب.. وعلى ذلك يلزم أن يكون بين عوائد السوداني والتركي مثلاً من الاختلاف بقدر ما يوجد بين مرتبتهما في العقل، وهو الأمر المشهور الذي لا ريبة فيه، وعلى هذه النسبة يكون الفرق بين المصري والأوروباوي.
ولا يمكن أن يتصور أحد أن العادات، التي هي عبارة عن طريق سلوك الإنسان في نفسه ومع عائلته ومواطنيه وأبناء جنسه، تكون في أمة  جاهلة أو متوحشة مثل ما تكون في أمة متمدنة، لأن سلوك كل فرد منها إنما يكون على ما يناسب مداركه ودرجة تربيته.
ولهذا الارتباط التام بين عادات كل أمة ومنزلتها من المعارف والمدنية نرى أن سلطان العادة أنفذ حكماً فيها من كل سلطان، وهي أشد شؤونها لصوقاً بها، وأبعدها عن التغيير، ولا حول للأمة عن طاعتها إلا إذا تحولت نفوس الأمة وارتفعت أو انحطت عن درجتها في العقل، ولهذا نرى أنها تتغلب دائماً على غيرها من العوامل والمؤثرات حتى على الشرائع، ويؤيد ذلك ما نشاهده كل يوم في بلادنا من أن القوانين واللوائح التي توضع لإصلاح حال الأمة تنقلب في الحال إلى آلة جديدة للفساد، وليس هذا بغريب فقد تتغلب العادات على الدين نفسه فتفسده وتمسخه بحيث ينكره كل من عرفه.
 وهذا هو الأصل فيما نشهده ويؤيده الاختبار التاريخي من التلازم بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة وتوحشها، وبين ارتقاء المرأة وتقدم الأمة ومدنيتها، فقد علمنا ان في ابتداء تكون الجمعيات الإنسانية كانت حالة المرأة لا تختلف عن حالة الرقيق في شيء، وكانت واقعة عند الرومان واليونان مثلاً تحت سلطة أبيها ثم زوجها ثم من بعده أكبر أولادها، وكان لرئيس العائلة عليها حق الملكية المطلقة، فيتصرف فيها بالبيع والهبة والموت متى شاء، ويرثها من بعده ورثته بما عليها من الحقوق المخولة لمالكها.. وكان من المباح عند العرب قبل الإسلام أن يقتل الآباء بناتهم، وأن يستمتع الرجال بالنساء من غير قيد شرعي ولا عدد محدود، ولا تزال هذه السلطة الآن سائدة عند قبائل افريقيا وامريكا المتوحشة.. وبعض الأمم الآسيوية تعتقد أن المرأة ليس لها روح خالدة، وأنها لا ينبغي أن تعيش بعد زوجها، ومنهم من يقدمها إلى ضيفه إكراماً له كما يقدم له  أحسن متاع يمتلكه.
كل هذا يشاهد في الجمعيات الناشئة التي لم تقم على نظامات عمومية، بل كل ما فيها يقوم بروابط العائلة والقبلية، والقوة هي القانون الوحيد الذي تعرفه، وهكذا الحال الآن في البلاد التي تدار بحكومة استبدادية لأنها تحكم كذلك بقانون القوة.
أما في البلاد التي ارتقت إلى درجة عظيمة من التمدن، فإنا نرى النساء أخذن يرتفعن شيئاً فشيئاً من الانحطاط السابق وصرن يقطعن المسافات التي كانت تبعدهن عن الرجال: هذه تحبو وتلك تخطو وهذه تمشي وتلك تعدو، كل ذلك بحسب حال الجمعية التي تنتسب إليها ودرجة المدنية فيها، فالمرأة الأمريكية في أول صف، ثم تتلوه الإنجليزية، وتأتي بعدها الألمانية، وتليها الفرنساوية، ثم النمساوية، ثم التليانية، ثم الروسية الخ..
 كلها نفوس شعرت أنها حقيقة بالاستقلال، فهي تبحث عن الوسائل لنيله، وانها جديرة بالحرية، فهي تسعى للوصول إليها، وانها من نوع الإنسان، فهي تطالب بكل حقوق للإنسان.
والغربي الذي يحب أن ينسب كل شيء حسن إلى دينه يعتقد أن المرأة الغربية ترقت لأن دينها المسيحي ساعدها على نيل حريتها، ولكن هذا الاعتقاد باطل، فإن الدين المسيحي لم يتعرض لوضع نظام يكفل حرية المرأة ولم يبين حقوقها بأحكام خاصة أو عامة، ولم يرسم للناس في هذا الموضوع مبادئ يهتدون بها، وقد أقام هذا الدين في كل أمة دخل فيها دون أن يترك أثراً محسوساً في الأخلاق، من هذه الجهة، بل تشكل نفسه بالشكل الذي أفادته إياه أخلاق الأمم وعاداتها، ولو كان لدين سلطة وتأثير على العوائد لكانت المرأة المسلمة اليوم في مقدمة نساء الأرض.
سبق الشرع الإسلامي كل شريعة سواه في تقرير مساواة المرأة للرجل، فأعلن حريتها واستقلالها يوم كانت في حضيض الانحطاط عند جميع الأمم، وخولها كل حقوق الإنسان، واعتبر لها كفاءة شرعية لا تنقص عن كفاءة الرجل في جميع الأحوال المدنية، من بيع وشراء وهبة ووصية من غير أن يتوقف تصرفها على إذن أبيها أو زوجها.. وهذه المزايا، التي لم تصل إلى اكتسابها حتى الآن بعض النساء الغربيات كلها تشهد على أن من أصول الشريعة السمحاء احترام المرأة والتسوية بيها وبين الرجل، بل إن شريعتنا بالغت في الرفق بالمرأة، فوضعت عنها أحمال المعيشة ولم تلزمها بالاشتراك في نفقة المنزل وتربية الأولاد خلافاً لبعض الشرائع الغربية التي سوت بين الرجل والمرأة في الواجبات فقط وميزت الرجل في الحقوق.
والميل أن تسوية المرأة بالرجل في الحقوق ظاهر في الشريعة الإسلامية حتى في مسألة التحلل من عقدة الزواج، فقد جعلت لها في ذلك طرقاً جديرة بالاعتبار سيأتي الكلام عنها خلافاً لما يتوهمه الغربيون ويظنه بعض المسلمين.
ولم أرَ إلا مسألة واحدة ميّز الشرع فيها الرجال على النساء وهي تعدد الزوجات، والسبب في ذلك واضح يتعلق بمسألة النسب التي لا يقوم للزواج حياة بدونها، وسيأتي الكلام عليها أيضاً فيما يلي.
وبالجملة فليس في أحكام الديانة الإسلامية ولا فيما ترمي إليه من مقاصدها ما يمكن أن ينسب إليه انحطاط المرأة المسلمة، بل الأمر بالعكس فإنها أكسبتها مقاماً رفيعاً في الهيئة الاجتماعية.
لكن، وا أسفاه! قد تغلبت على هذا الدين الجميل أخلاق سيئة ورثناها عن الأمم التي انتشر فيها الإسلام ودخلت فيها حاملة لما كانت عليه من عوائد وأوهام، ولم يكن العرفان قد بلغ بتلك الأمم حداً يصل بالمرأة إلى المقام الذي أحلتها الشريعة فيه، وكان أكبر عامل في استمرار هذه الأخلاق توالي الحكومات الاستبدادية علينا.
تجردت الجمعيات الإسلامية على اختلاف الأزمان والأماكن من النظامات السياسية التي تحدد حقوق الحاكم والمحكوم، وتخول للمحكومين مطالبة الحاكمين بالوقوف عند الحدود المقررة لهم بمقتضى الشريعة والنظام، بل أخذت حكومتها الشكل الاستبدادي دائماً، فكان لسلطانهم وأعوانه سلطة مطلقة، فحكموا كيف شاؤوا بلا قيد ولا استشارة ولا مراقبة، وأداروا  مصالح الرعية دون أن يكون لها صوت فيها.
نعم إن كان الحاكم صغيراً أو كبيراً فهو ملزم باتباع العدل واجتناب الظلم، لكن من المجرب أن السلطة غير المحدودة تغري بسوء الاستعمال إذا لم تجد حداً تقف أمامه ورأياً يناقشها وهيئة تراقبها.. ولهذا مضت القرون على الأمم الإسلامية وهي تحت حكم الاستبداد المطلق، وأساء حكامها في التصرف، وبالغوا في اتباع أهوائهم، واللعب بشؤون الرعية.
بل لعبوا بالدين نفسه في أغلب الأزمنة، ولا يستثنى منهم إلا عدد قليل لا يكاد يذكر بالنسبة إلى غالبهم.
إذا غلب الاستبداد على أمة لم يقف أثره في الأنفس عندما هو في نفس الحاكم الأعلى، ولكنه يتصل منه بمن حوله إلى من دونهم وينفث روحه في كل قوي بالنسبة لكل ضعيف متى مكننته القوة من التحكم فيه، يسري ذلك في النفوس رضي الحاكم الأعلى أو لم يرض.
كان من أثر هذه الحكومات الاستبدادية أن الرجل في قوته أخذ يحتقر المرأة في ضعفها، وقد يكون من أسباب ذلك أن أول أثر يظهر في الأمة المحكومة بالاستبداد هو فساد الأخلاق.
قد يمكن أن يتوهم من أول وهلة أن الشخص الواقع عليه الظلم يحب العدل ويميل إلى الشفقة، لما يقاسيه من المصائب التي تتوالى عليه.
لكن المشاهد يدل على أن الأمة المظلومة لا يصلح جوها ولا تنفع أرضها لنمو الفضيلة ولا يربو فيها إلا نبات الرذيلة، وكل المصريين الذين عاشوا تحت حكم المستبدين السابقين - وما العهد منهم ببعيد - يعلمون أن شيخ البلد الذي كان يسلب منه عشرة جنيهات كان يستردها مئة من الأهالي، والعمدة الذي كان يضرب مائة كرباج عند عودته إلى بلدته ينتقم من مائة فلاح.
فمن طبيعة هذه الحالة أن الإنسان لا يحترم إلا بالقوة ولا يردع إلا بالخوف، ولما كانت المرأة ضعيفة اهتضم الرجل حقوقها وأخذ يعاملها بالاحتقار والامتهان وداس بأرجله على شخصيتها، عاشت المرأة في انحطاط شديد أياً كان عنوانها في العائلة، زوجة أو أماً أو بنتاً، ليس لها شأن ولا اعتبار ولا رأي، خاضعة للرجل ولأنه رجل ولأنها امرأة، فنما شخصها في شخص الرجل ولم يبق لها من الكون ما يسعها إلا ما استتر من زوايا المنزل، واختصت بالجهل والتحجب بأستار الظلمات، واستعملها الرجل متاعاً للذة، يلهو بها متى أراد، ويقذف بها في الطريق متى شاء، له الحرية ولها الرق، له العلم ولها الجهل، له العقل ولها البله، له الضياء والفضاء ولها الظلمة والسجن، له الأمر والنهي ولها الطاعة والصبر.
له كل شيء في الوجود وهي بعض ذلك الكل الذي استولى عليه:
من احتقار الرجل للمرأة أن يملأ بيته بجوار بيض أو سود أو بزوجات متعددة، يهوى إلى أيهن شاء، منقاداً إلى الشهوة مسوقاً بباعث الترف وحب استيفاء اللذة، غير ميال بما فرضه عليه الدين من حسن القصد فيما يعمل، ولا بما أوجبه عليه من العدل فيما يأتي.
من احتقار المرأة أن يطلّق الرجل زوجته بلا سبب
من احتقار المرأة أن يقعد الرجل على مائدة الطعام وحده ثم تجتمع النساء، من أم وأخت وزوجة، ويأكلن ما فضل منه.
من احتقار المرأة أن يعين لها محافظاً على عرضها مثل آغا أو مقدم أو خادم يراقبها ويصحبها أينما تتوجه.
من احتقار المرأة أن يسجنها في منزل ويفتخر بأنها لا تخرج منه إلا محمولة على النعش إلى القبر.
 من احتقار المرأة أن يعلن الرجال أن النساء لسن محلاً للثقة والأمانة.
من احتقار المرأة أن يحال بينها وبين الحياة العامة والعمل في أي شيء يتعلق بها، فليس لها رأي في الأعمال ولا فكر في المشارب ولا ذوق في الفنون ولا قدم في المنافع العامة ولا مقام في الاعتقادات الدينية، وليس لها فضيلة وطنية ولا شعور ملّي.
ولست مبالغاً إن قلت: إن ذلك كان حال المرأة في مصر إلى هذه السنين الأخيرة التي خفت فيها نوعاً سلطة الرجل على المرأة تبعاً لتقدم الفكر في الرجال واعتدال السلطة الحاكمة عليهم، ورأينا النساء يخرجن لقضاء حاجاتهن ويترددن على المنتزهات العمومية لاستنشاق الهواء وترويح النفوس بتسريح النظر في الكائنات التي عرضها الصانع جل شأنه على نظر كل مخلوق، رجلاً كان أو امرأة، وكثيرات منهن يذهبن مع رجالهن إلى السياحة في بعض البلاد الأخرى، والكثير من الرجال قد أعطوا لنسائهم مقاماً في الحياة العائلية.
وهذا إنما طرأ على بعض الرجال من نشأة الثقة في نفوس أولئك الرجال بنسائهم واطمئنانهم إلى أمانتهن: وهو احترام جديد للمرأة.
نعم لا ننكر أن هذا التغيير لا يخلو من وجوه انتقاد، لكن سبب الانتقاد في الحقيقة ليس هو التغيير نفسه  ولكنه الأحوال التي احتفت به، وأهمها رسوخ عادة الحجاب في أنفس الجمهور الأعظم ونقص تربية  النساء، فلو كملت تربية النساء على مقتضى الدين وقواعد الأدب ووقف بالحجاب عند الحد المعروف في أغلب المذاهب الإسلامية، سقطت كل تلك الانتقادات، وأمكن للأمة أن تنتفع بجميع أفرادها، نساءً ورجالاً.

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...