معرض تدوير النفايات وانهيار الحدود بين الجمال والبشاعة

21-04-2007

معرض تدوير النفايات وانهيار الحدود بين الجمال والبشاعة

شهدت صالة المعارض بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق ما بين 9 و19 نيسان الجاري، معرضاً للأعمال الفنية التي تمخضت عن مسابقة وورشة العمل التي أطلقتها جمعية حماية البيئة السورية.

بالتعاون مع كلية الفنون الجميلة، والمجلس الثقافي البريطاني، والمعهد الهولندي للدراسات الأكاديمية في دمشق، وشارك فيها مجموعة من الفنانين التشكيليين السوريين الشباب. ‏

أعمال المعرض جميعها، نُفذت بما يمكن تسميته النفايات ومخلّفات الصناعة والزراعة والحرف والمهن وغيرها.. وفكرة تدوير النفايات في أعمال فنية مسطحة ومجسّمة، قد لا تكون جديدة بالنسبة للحركات الفنية الغربية المعاصرة، لكنها بالنسبة لحركتنا الفنية السورية، وبالشكل الواسع والشامل الذي أخذته المسابقة وورشة العمل، هي جديدة بامتياز، رغم وجود بعض التجارب المتفرقة التي احتضنتها معارض فردية وجماعية، وعدد من الملتقيات الفنية، وجلّها توجّه الى الخردة ومخلّفات الصناعة، لكن الأعمال التي ضمها معرض تدوير النفايات، توسّعت موادها وخاماتها لتشمل مخلفات الزراعة، والحِرف، وحتى النفايات التي تفرزها الحياة اليومية من أقمشة، وأسلاك، وخيطان، وعلب سجائر، ومشروبات غازية، وصحف، وبذور جافة، وأغصان أشجار، و أخشاب، وزجاجات، ومكانس، وحاويات قمامة، وأعقاب السجائر.. وغيرها. ‏ تباينت أعمال المعرض صياغة فنية، وسويّة، وأهدافاً، مع أنها انضوت جميعها تحت شعار (الفن المعاصر من خلال إعادة التدوير لبيئة أفضل). 
 لقد سبق للفن الغربي المعاصر أن قدّم تجارب ومحاولات، انضوت في الإطار العام لمفهوم إعادة التدوير، أخذت مسميات عديدة منها: فن الحداثة، وما بعدها، وفن الطليعة وما بعدها، والفن المفاهيمي، والمركب... الخ، ويعتبر الفنان (دوشامب) الأب الروحي لمثل هذه التوجهات الفنية، حيث حاول تحويل الأدوات العادية المستعملة في مرافق الحياة اليومية المختلفة (بما فيها المبولة) الى أعمال فنية، إذ كان يكتفي بوضع توقيعه على السلعة المسبقة الصنع والتالفة، لتتحول فوراً الى عمل فني، معتقداً أن للفنان المعاصر كل الحق، بأن يستخدم ما يشاء، في تحقيق منجزه البصري الجديد، ومهما كان هذا العمل، فإن مجرد دخوله أروقة المتاحف وصالات العرض، يتحول الى عمل فني حقيقي. ‏

يقول أحد أنصار هذا الفن: إن هدفهم منه، الانتقام من الحياة والتقدّم والفن ذاته، وتعظيم البشاعة والنفايات والضوضاء والتلوث، على اعتبار أن الفن موجود في كل مكان، وأن الجمال والبشاعة متساويان!! وهذا ما ذهب إليه شاعر الدادا (تزارا ) عندما أعلن: (لقد حاولنا من خلال الدادا (وهو اتجاه فني معروف انطلق من أوروبا) ليس تدمير الفن والأدب فقط، وإنما بالدرجة الأولى، خفض المستوى المثالي، فنحن نريد إذلال الفن والشعر، لأن الدادا هي ضد الفن والأدب، ورغبة تدمير الفن وتعكير صفائه، والحط من مثاليته ، إنما هو نضال ضد الجمال والإتقان والأخلاق والروح، فنحن نريد إعادة الاعتبار للقباحة والبشاعة والقرف)؟!. 
 بعد الدادا ودوشامب، مارس هذا النوع من الفن عدد كبير من الفنانين، من بينهم الفنان الألماني (أود نبورغ) الذي أنجز عملاً فنياً من المبولة أيضاً، والفنان (بويس) الذي كان يقيم معارض دون أعمال فنية، والفنان (آرمان) الذي قام بوضع محتويات علبة الزبالة ومخلّفات (التواليت) كالمحارم الملطخة بدم العادة الشهرية عند المرأة، وبقايا القطن المستعمل في تنظيف الآذان، وفراشي الأسنان، في قالب من البلاستيك الشفاف، وعرضه في متحف الفن الحديث بباريس، ليتحول الى عمل فني مدهش!!. ومنهم أيضاً الفنان (هو ان لونغ) الذي قام بعرض مجموعة من الأفاعي والجرادين الحية، في قفص زجاجي، في المتحف نفسه، بل لقد ذهب الفنان (كازيروفسكي) أبعد من ذلك، إذ قام بالرسم بنفاياته الخاصة، والفنان (جورج فكان) رسم بالبصاق، واكتفى الفنان (بورا) بوضع عناوين أعمال فنية فوق جدران صالة العرض (دون الأعمال) قائلاً: (أنا لست بفنان، مع أنني فنان، وهذا هو المهم، لأن العمل الفني لم يعد له أي ضرورة)!!. ‏

وقام الفنان (دونواييه) بعرض 24 لوحة فارغة من أي شكل أو لون قائلاً: (ليس لي أي هدف من ذلك سوى أن تكون اللوحة الفارغة معلقة هنا على الحائط، فأنا أعرض نيتي في تكوين هذا السطح فقط، لأن اللوحة تأتي من لا شيء، وإذا أتت من شيء ما، فهي لن تكون لوحة)؟!. ‏

أصبح اليوم لهؤلاء الفنانين أشباه وقرائن في دول العالم كلها، ومنها دولنا العربية (لاسيما مصر ودول الخليج العربي) علماً أن هذا النوع من الفن، تراجع وتقلّص الى حد كبير، في الدول الغربية، لمصلحة الاتجاهات الكلاسيكية والواقعية، وحول هذا يقول (إيليل) في كتابه (امبراطورية اللامعنى): (إن الفن الطليعي في أزمة حقيقية، وهو يتفجر ويتناثر في كل الاتجاهات، وهذه الشجرة لم تعط أي ثمرة سوى الفوضى والعقم والتناقضات. هذا الفن لم يعد يبحث عن إعطاء لذّة وفرح وحلم الرؤية الجمالية للمشاهد، بل صار يهتم بالبشاعة والقذارة والجنون والعفن والسادية). ‏

ويرى (بيل) أن فن الطليعة (يكرر ويعيد ما طرحته الدادا في بداية القرن العشرين، فتحول الى طقوس رخيصة وظلامية متخلّفة). أما (ناتالي هينيش) فتقول: (نأسف لعمل فني لا يستجيب لتطلعات الجمال، بل على العكس يبحث عن البشاعة، هذا الفن المنعزل عن المجتمع عادي جداً وغير نظيف). ‏

وتسأل الناقدة الفنية (كاترين مييه): (أين هي الآن هذه الطليعة، لم يعد لها وجود. لقد ذابت كما ذابت أعمال الفنان الطليعي (سالمون) التي نفذها على الثلج والرمل. أما فنانو العالم الثالث فهم في يأس أمام متاحفهم المفلسة ماديا)!!. ‏

وحول التجارب العربية الطليعية، يقول الناقد الفرنسي (جاكوماتي): (لقد جاء الفن الطليعي العربي الى البيناليات ليبيع الماء الملوث في حارة السقايين. إن المتذوق والمشاهد العربي لم يعش تطورات الفن التشكيلي المختلفة، من كلاسيكية، وباروك، ورومانطيقية، وواقعية، وانطباعية... الخ. فكيف يستطيع القفز واجتياز القرون ليتمثل عبثية فننا الطليعي، وتقبل تقلّبات مدارسه وتناقضاته المختلفة، لاسيما بعد أن تحوّل الى ترف ثقافي مرفوض عندنا)؟! ‏

عملية إحياء هذا الفن ونشره في بلداننا العربية، لها أسباب وأهداف ودوافع خبيثة، باتت معروفة ومكشوفة، لكن الفن الذي طمحت جمعية حماية البيئة السورية الى تحقيقه، من خلال مسابقة وورشة عمل تدوير النفايات، يختلف تماماً عن الفن الذي بدأه (دوشامب) وسلالته. ففي الوقت الذي جاء فيه فن الطليعة وما بعده، تتويجاً لحالة من البطر الحضاري الغربي، والفراغ الروحي، والتوجهات السياسية الخبيثة، والغايات التجارية المشبوهة، جاءت تظاهرة إعادة التدوير السورية مشروطة بالعمل على ابتكار وإنجاز أعمال فنية، تُظهر مواهب وأفكار ووجهات نظر أصحابها من جهة، ومن جهة ثانية، التركيز وتسليط الضوء على ضرورة حماية البيئة، بتخليصها من كميات كبيرة من النفايات التي يمكن الاستفادة منها، والتي تساهم بتراكمها في زيادة الضغط والعبء على النظام البيئي، وتالياً تحريض من يعنيه الأمر، لاعتماد طرق صديقة ورفيقة بالبيئة، في أساليب تعاملهم مع النفايات المختلفة. ‏

طموحات جمعية حماية البيئة السورية، وحلمها النبيل هذا، جاءت في وقت تحوّلت فيه دمشق وباقي المدن السورية، الى حالة مزرية من التلوث البصري، بهمة مرشحي مجلس الشعب وزلمهم المعتمدين للترويج لهم، ما يحتم على الجمعية والمنظمات الشعبية وكل صديق للبيئة، المبادرة لمكافحة حالة التلوث البصري هذه، وبالسرعة الممكنة!!

د. محمود شاهين

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...