ممدوح عدوان مازال بيننا

06-05-2007

ممدوح عدوان مازال بيننا

بوجهه الأليف وابتسامته الباذخة، بنظرته المسمرة في الأفق والمتطلعة لعالم عادل بهي وبضحكته المجلجلة التي لم تفقد بريقها وسخريته اللاذعة والطريفة حتى في أشد اللحظات سواداً أعني فترة المرض العضال ـ أطل علينا الأديب العربي السوري المعروف ممدوح عدوان .

من خلال الفيلم الوثائقي القصير الذي أخرجه ثائر موسى بعنوان: «مازال بيننا» والذي تم عرضه مؤخراً بمديرية الثقافة في حلب فرسخ لدينا الشعور بأن الأديب وابداعه هو طاقة متجددة قادرة على تخطي الزمان والمكان، قادرة على تجاوز الموت فيما تحمله من قيم ومن رؤى.. ربما يشل الموت الجسد ولكن متى استطاع شل فاعلية وابداع وحيوية الروح!!. ‏

بهذا المعنى كان ممدوح معنا: بروحه المبدع بصخبه بمشاكسته الأليفة وبقهقهته الساخرة أيضاً.. ‏

بعد الفيلم مباشرة واحتفاء بذاكرة استمعنا الى الندوة الأدبية التي قدمها الأديب محمد أبو معتوق وشارك فيها الشاعر المبدع عادل محمود والباحث أنور محمد. ‏

في تقديمه بل ـ في مداخلته ـ تحدث القاص والمسرحي محمد أبو معتوق قائلاً: كدت ان أسأل ممدوح وأنا أرى الفيلم كيف الحال عنده؟! 
 ‏ لا شك في أن التماس مع ممدوح عدوان حتى في غيابه أمر هام ومؤثر كان الرجل شاغل زمانه ومن يجاوره ومن يسمعه ومن يتتبع أخباره أعرفه في السبعينيات، كان إذا حضر في جلسة فإن همّ الآخر الذي يجالسه ليس المشاركة في الحوار إنما الاصغاء له لأنه كان يتدفق عذوبة وحيوية ويشيع جو النكتة من خلال المفارقات. ‏

وكشف أبو معتوق في مداخلته عن شهادة شعرية مهمة للشاعر المعروف علي كنعان، وهو أحد المجايلين للشاعر الراحل في السبعينيات كنت مع علي كنعان قلت له: «لم أعد أقرأ الكثير من أشعارك.. نظر فيّ نظرةعميقة وقال: «أو لم تعرف ما الذي فعله بنا ممدوح ألم تلاحظ الأهمية الشعروية لممدوح حيث لم نستطع أن نجاريه» أضاف أبو معتوق: «عندما أصدر ممدوح ديوانه: «تلويحة الأيدي المتعبة» كنا نحس بأهمية أن نقرأ له لكي ننهض بذواتنا وتجاربنا وقد رأى أبو معتوق ان تحول ممدوح بقوة نحوالمسرح في نهاية السبعينيات: «أودى بشعريته».. ‏

ربما نتمايز في رأينا عن رأي الأديب «أبو معتوق» خصوصاً حول مفردة «أودى» ولكننا نتفق معه ومع الكثير من النقاد الذين رأوا ان الراحل الكبير قد حول جزءاً كبيراً من طاقته الشعرية الى جنس أدبي آخر هو الابداع المسرحي وما ساعدنا على هذا القول أن شاعرنا ممدوح كتب في سنوات مرضه عدة قصائد وجدانية ووجودية عذبة وشفافة أعادته الى تألقاته الشعرية الأولى في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات وهذا دليل على أنه ظل محتفظاً بحيويته الشعرية. ‏

بعد ذلك ألقى الشاعر عادل محمود مداخلة وشهادة قيمة عن حياة وتجربة الراحل الذي كانت تربطه به علاقة صداقة وثيقة وحميمة. ‏

أصاب الشاعر عادل محمود حينما ركز على واحدة من أهم خصال الراحل ومن أهم العناصر التي ساهمت بتكوين شخصيته وفرادته وأعني هنا ـ صداميته وجرأته في طرح آرائه ومواقفه دونما مواربة أو تلفيق أو مداهنة ـ وهذه الخاصية التي بدأنا نفتقدها في وقتنا الحاضر الى حد ما يعرفها جميع من التقى بممدوح أو تابع «معاركه» الأدبية والفكرية يقول عادل حول هذه النقطة: «ممدوح حاضر دائماً، كان غزير الثقافة متعدد الانتاج، سأقرأ مادة بعنوان «ساموراي الثقافة السورية» لأنه كان يتدخل بالحياة الثقافية كالياباني المقتحم من أجل تحقيق النصر». ‏

وبلغة وتواضع أحبه الحضور قال الشاعر عادل محمود إنه لن يتحدث عن ممدوح وابداعه بلغة الناقد؛ فأنا لا أدعي ذلك لكنني استطيع ان أميز بين الشعر الجيد والرديء ثم قدم بعض المقاطع الشعرية التي تصلح لأن تكون مدخلاً لفهم شخصية ممدوح قائلاً: «إن هذه القصائد فيها كمية من التفاؤل الملغوم بعدم التفاؤل». ‏

ثم قدم نبذة مختصرة عن حياته: ولد ممدوح في مصياف لأبوين فقيرين في مطلع الأربعينيات. أما وفاته فقد كانت في 20/12/2004. وهو خريج كلية الآداب ـ قسم اللغة الانجليزية وقد كان لحياته أثر بالغ في انحيازه الطبقي لعالم الفقراء والمنتجين . ‏

كان ممدوح أحد الشعراء العرب الذين انعكست كارثة حزيران 1967 على ابداعهم الشعري من أمثال: سعدي يوسف، معين بسيسو وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور. أما ممدوح فقد أصدر من وحي هذه النكسة «أمي تطارد قاتلها» و«الدماء تدق على النوافذ» ثم انحاز بشكل واضح وقوي الى المقاومة الفلسطينية. ‏

وقد شارك الراحل في حرب تشرين التحريرية وكان حينها ملازماً مجنداً في الدائرة السياسية وقد كلف كمراسل حربي في هذه الحرب وقد اندفع الراحل متطوعاً الى مناطق الخطر ورأى بعينه كم ان النصر ممكن. ‏

ثم أضاف عادل محمود منوها بروح التهكم والمشاكسة والصراحة الطريفة كان ممدوح يقول: «كنت أكتب القصيدة كأنني أحرر فلسطين وفي التالية سوف أحقق الوحدة العربية»!!.. ‏

بعد ذلك جاء دور الباحث الاستاذ أنور محمد الذي ألقى مداخلة بعنوان: «وقفة مع مسرح عدوان» وقد أشار في بداية مداخلته منوهاً الى الدور النبيل الذي قامت وتقوم به السيدة زوجته التي كانت حاضرة في هذه الندوة والتي واصلت الوفاء لمسيرة زوجها الابداعية وقد أسست لذلك داراً للنشر باسمه «دار ممدوح عدوان للنشر» ثم أشار الباحث الى أن «ممدوح» كان ضد كل أنواع الاستلاب والوحشية التي تعرض لها إنساننا المعاصر، وقد كان يلزمه أكثر من حياة، وهو يحتاج الى أكثر من جنس أدبي للتعبير عن طاقته الإبداعية ومايختزنه من أفكار ورؤى. ‏

ورأى الباحث أن الراحل كان يلتزم فلسفة «المثقف العضوي» لغرامشي، أي المثقف المنحاز للشعب والمرتبط به ارتباطاً عضوياً وثيقاً، لذا فإن مسرحياته عبرت عن افكار تعكس المزاج الجماهيري العام، الجماهير المتمردة على كل أنواع الاستلاب والفساد والذل وكل مايحط من شأن الإنسان.. وهكذا كان في مسرحيته «هاملت» مثقفاً من نار. وكان يفكر بمشروع الدولة القومية كنقيض لضيق الأفق القطري. ‏

وفي مسرحيته: «كيف تركت السيف؟» كان ممدوح يحاور أبا ذر، وأراد ان يعبر من خلال هذه الحوارية عن المقولة الرئيسية «الثيمة» لهذه المسرحية وهي أن: كل حق لايدعمه السيف أو القوة هو باطل. أراد أن يكون ممدوح ضد طواغيت المال وضد جبروته وقد سعى في مسرحه لتحطيم الأوثان فهزنا بعنف. ‏

لقد قدمت هذه الندوة جانباً من الجوانب الإبداعية المتنوعة لهذا المبدع الذي عشق الحرية ودافع عنها بكل قوته، وإذا كنّا سنتجاوز موضوع: أيهما أكثر إبداعاً: ‏

ممدوح الشاعر أم ممدوح المسرحي فليس هذا مدار بحثنا الآن، إلا أن مايمكن التأكيد عليه في هذه المناسبة هو أن الراحل كان واحداً من أبرز المثقفين السوريين منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن وأن عطاءه الغزير والمتنوع شاهد ملموس وحي على صحة هذا القول فقد ترك لنا ممدوح ذخيرة ثقافية وإبداعية: «85 كتاباً، و15 مسلسلاً تلفزيونياً، إضافة الى روايتين». ‏

ولابد من الإشارة في خاتمة هذه المقالة الى الموقف الصلب والمتماسك الذي كان عليه حينما واجه المرض العضال بصلابة قل نظيرها، بروح واثقة تريد «قهر الموت» ولم نلحظ موقفاً شبيهاً له سوى عند المبدع الكبير الراحل، سعد الله ونوس، صاحب المقولة التاريخية الشهيرة «الناس محكومون بالأمل». ‏

ممدوح عدوان «مازلت بيننا حقاً» وإبداعك ومواقفك زوادة لمن يريد مواصلة السير على طريق الحرية، والإبداع، والإنسان. ‏

‏ ناهض حسن

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...