يلمسون حذاء الرقيب لتظهر صورتهم على جلده اللماع

24-03-2007

يلمسون حذاء الرقيب لتظهر صورتهم على جلده اللماع

واصل الرقيب العربي تضييق الخناق حتى بات الطبخ والابراج أكثر الكتب مبيعاً في المعارض. هذه الحصيلة تترسّخ عاماً فعاماً ويُتوقّع استمرارها. وهي تطيح فكرة كرّرتها الراحلة مي غصوب ذات التجربة العميقة في مجال النشر. ومفادها أن هذا الطراز من الكتب يحضّ على اعتياد المطالعة، ويمهّد الطريق الى كتب أخرى. ما حصل أن قارىء ذلك اللون من المعرفة أكل الطعم ودعس المصيدة. ولبثت لوائح المعارض هي نفسها.
نتيجة كهذه لا تُغضب الرقابة. وقد ألِف لسان السلطة مَثَل "سدّ الباب الذي تأتيك الريح منه تسترح"، أو "لا تنم بين القبور كي لا تحلم احلاماً مزعجة". فالأمن الثقافي فوق كل اعتبار. ومن تسوّل له النيّة العبث به لن يفلت من العقاب. فباب السجن مفتوح أو النفي والتكفير وقطع مورد الرزق. والأمثلة وافرة. ولا يزال آخرها متداولاً الى الساعة.
وليس صعباً استدراج الرقيب الى الفخ الذي ينصبه كاتبٌ يدرك أن المصادرة ستخدمه وتخدم كتابه. خصوصاً إذا كان راغباً في التقدّم الى الواجهة ونيل الاعتراف. وفي المقابل، هنالك من يستعطي قرار المنع ويفعل المستحيل لبلوغ مراده. تفيد الأخبار أن كاتباً عاد الى بلاده خائباً بعدما خذلته الرقابة. فقد بذل جهداً واستعان بوسطاء كي يُصادَر كتابه الجديد. عفا الرقيب وابتُلي القارىء بأدب متدنٍّ جداً. فلو حدث المنع لما غادر صاحبنا لبنان مثلما دخل. جاء مغموراً، وكان رحل اسماً علماً. فللكتاب الذي يُصادَر في بيروت أصداء ليست متوافرة في سائر العواصم.
وعلى مقلب آخر، يدين الكثير من "المبدعين"، أدباً ومسرحاً...، للرقابة في ترسيخ مواقعهم، وفي طيران شهرتهم. ولولاها للبثوا مغمورين الا في أحيائهم، وبين الجيران. فلا حصر للكتب التَفهة التي فشا رواجها، وتلقفتها الأيدي غداة إعلان منعها. ولا عدّ للمسرحيات والأفلام التي ازدهر الاقبال عليها، بعدما أصلتت الرقابة المقصّ على نصوصها، حذفاً وبتراً.
وكاذبٌ مَن يرفع الصوت محتجاً وممتعضاً، كلما اشتهى مقصّ الرقيب صنيعه الفني. يتمَسكن المدّعي كي يتمكّن. أمنيته أن يأخذ المقصّ راحته. والنتيجة معروفة: مقالات مندّدة بالقمع، بيانات نائحة على حرية التعبير، لقاءات مستنكرة...
الوقائع المنقضية في مناسبات مماثلة لا تزال في الذاكرة.
إن بعض الكتّاب يتملّكه حسد جمّ حين يُصادَر كتاب يحمل توقيع سواه، خصوصاً اذا واكب المصادرة ضجيج. ولعل وقوف الغُيُر، ومعظمهم متخاصمون حتى آخر الحقد، وراء صاحب الكتاب الممنوع، نوع من اخفاء الغيرة، ومشاركة خبيثة في مناسبة كثيراً ما تمنّوا أن يكونوا هم نجومها.
ويزعم كتّاب أن مخفراً يقيم على الدوام في رؤوسهم، ورقيباً يتجول بين اوراقهم والسطور، يعطي هذه الكلمة الضوء الأخضر، أو يحجبه عن تلك الفكرة. في حين انهم، في واقع الأمر، يسعون الى استفزازه بغية ان ينزلوا ضيوفاً في قائمة "المغضوب عليهم" أو "الممنوعين". يدقّون رؤوسهم بالمسائل الحسّاسة، التي هي، غالباً، متصلة بالموضوعات الدينية والسياسية. فيكتبون ما قد يثير حفيظة هذه المرجعية أو تلك، طمعاً ببعض البروز. لديهم موهبة اكتشاف القضايا التي لا يمر التطرق اليها مرور الكرام. ونصب عيونهم قاعدة "خالف تُعرَف". ذلك، طبعاً، يؤمّن لهم قسطاً من الشهرة، فتصبح كتبهم ذائعة، رغم أنها رديئة وصالحة للبيع بالكيلو.
ينبغي لمثل هؤلاء أن يُشبعوا حذاء الرقيب لحساً يجعل وجوههم تظهر واضحةً على جلدته اللمّاعة. ولمزيد من العرفان بالجميل، لا ضير إنْ قبّلوا يده وجهاً وقفا، علماً أن بعض الذين يحلّون ويربطون في منابر عدة، يبزّ أعتى الرقباء بطشاً وديكتاتورية. وقد يبدو الرقيب، أياً تكن قسوته، تلميذاً وديعاً مقارنةً بأحدهم.

جورج يرق

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...