الحلم السوري (2)
قل لي من تعادي أقل لك من أنت، ذلك أن التحدي هو ما يكشف عن قدرات الفرد وطاقاته المدمرة والخلّاقة.. فمع بداية الاستقلال اصطدم الحلم السوري بالحلم الإسرائيلي في المنطقة ففجر قواه وطاقاته المادية والفكرية والبشرية، وأدرك المثقفون الأوائل منذ أيام زكي الأرسوزي وأكرم الحوراني وأنطون سعادة ومصطفى السباعي أن الصراع مع إسرائيل هو صراع وجود لا صراع حدود..
كان حلم البعثيين أكبر من مساحة سورية، وكذلك حلم الإسلاميين، والقوميين السوريين ومن ثم الناصريين، ولم يتمكنوا من الوصول إلى أحلامهم بسبب حدود سايكس بيكو وعدم توفر الفيزا الخاصة بالولوج إلى عقول الشعوب العربية والإسلامية خارج الحدود.. الفلاحون فقط حققوا حلمهم بامتلاك أرضهم وكرامتهم والسلطة التي لم يكن لهم سابق عهد باستخدامها، لذلك حذوا حذوَ الثورات اليسارية التي امتد لهيبها عبر أرياف العالم، الأرياف التي حددت توجهات المدن في السياسة والثقافة والاقتصاد لنصف قرن من الزمان قبل أن يسقط (الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية)..
وبالعودة إلى زمن صدقي إسماعيل ويوتوبيا المثقفين والفلاحين والعسكر نلاحظ أن مؤشر البوصلة كان يتحرك على هدى الثورات اليسارية التي كانت منجذبة إلى نموذج غيفارا.. غيفارا الذي أعاد إنتاج المسيح المعاصر بآيديولوجيا غير مسيحية فأثار إعجاب وحسد المثقفين والعسكريين مدة من الزمان قبل أن يكتشفوا أن ثورة غيفارا قد حررت الشعب من الإمبريالية لتوقعه في براثن الفقر والاستبداد.. وهكذا انتهى النموذج الثورة واستمر الحالمون بيوتوبيا الوطن في التنافس مع بعضهم ومع أنفسهم حول برنامج جديد لوطن المستقبل عبر بوابة الاقتصاد، حيث صدر قانون الاستثمار مع بداية عقد التسعينات، وانتقل الحلم السوري، كما أسلفنا في الحلقة الماضية، إلى يد المؤسسات والشركات، وبدأ السوريون يتلمسون صورة حياة مختلفة بعدما فُتحت نوافذ جديدة عبر جدران الوطن.. وهكذا تراجع دور الجيش وصار الحلم بيد رجال وسيدات الأعمال ومخرجي الدراما ومصممي الإعلانات وكتاب السيناريو ومواقع الانترنت وشركات الاتصال ورجال الدين.. فكانت الانطلاقة خجولة نحو اقتصاد السوق الاجتماعي خلال عقد التسعينات بدليل صفة «الاجتماعي» التي أضيفت إلى البرنامج الوطني ( قال لي د. عبد الله الدردري في إحدى الأمسيات أن الرفاق هم من أضافوا هذه الصفة ولا علاقة له بها).
إذاً وعلى الرغم من رغبة الجميع بتحقيق الحلم السوري عبر بوابة الاقتصاد فإن المسير نحوه مازال بطيئاً بسبب عوالق مازالت تثقل حركته، أولها عدم تحقيق السلام مع إسرائيل، وثانيها محاولة الجمع بين زوجتين في البيت السوري وأعني الاشتراكية والرأسمالية.. وأرى أن الأمر سيحتاج إلى بعض الوقت، إلى حين يدخل الفريق الاشتراكي سن التقاعد حيث سيغدو الحلم السوري كاملاً بين يدي الزوجة الجديدة، وسنحاول في الحلقة القادمة تلمس شكل هذا الحلم عبر استقراء بنية الخطاب السوري الجديد..
في 20/5/1945 كتب صدقي إسماعيل رسالة إلى صديقه يقول فيها: لا بد من ظهور «الطليعة الضحية» التي تحرق نزعات الجيلين وتحترق بها... إن كل شيء ينذر بجيل جديد... ولن يكون لنا، نحن البائسين، شرف المساهمة في التبشير بهذا الجيل، لأن أشباح آكلي الأعشاب والتراب في بلادنا تطاردنا كل حين، وتربطنا بكل ما هو رجعي رابطة لها قوة الحياة...
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد