الدنيا رائحة معممة والانف تحري متخفي يرصد المشاعر وسيرة الاشخاص

16-06-2007

الدنيا رائحة معممة والانف تحري متخفي يرصد المشاعر وسيرة الاشخاص

استحوذت عناصر الرائحة بمؤثراتها الايحائية والنفسية المختلفة الانواع, على الكثير من فنون الكتابة الادبية, سواء الشعرية منها, ام الروائية, ام العلمية, ولطالما استخدم الشعراء والكتاب قاموس الرائحة ­ ان صح التعبير ­ في رصد حالات العشق والجمال لخطاب القلب, ولربوع الطبيعة. وقد شكلت حاسة الشم في حياة الانسان ما يمكن وصفه بالرسم البياني لمزاجه وعاطفته وذوقه وقوته وضعفه. والاهم من ذلك كله, لقراراته الاساسية التي تتعلق بالزواج والطعام والشراب والنظافة, وبمؤشري الانشراح والانقباض معاً.

تقول الباحثة منى فياض في كتابها «فخ الجسد»: «يعترف العرب بالعلاقة بين مزاج الشخص ورائحته. وتحرص الخاطبات على تأمين زيجات مناسبة, وقد يطلب العريس من الخاطبة ان تشم عروسه المقبلة, كي تتأكد من «ريحها الطيب».
وتقول ايضا: «هناك الكثير من روائح الحياة اليومية تلك التي تشير عادة الى الحميمية الاكثر سرية عند الفرد: اريج الجسد, الافراد القريبين منا, البيت, الملابس, المطبخ, كل غرفة برائحتها الخاصة, الحديقة, الشارع, التنوع الموسمي للروائح الآتية من الخارج». وفي هذا المضمار تستدل فياض بما قاله سوسكند في فرضيته حول الرائحة, اذ يدفع بهذه الفرضية الى «حافة شغف مذهل, ويجد على لسان بطله ان بإمكان البشر ان يغمضوا اعينهم امام العظمة او الفظاعة او الجمال, كما بإمكانهم عدم الاصغاء الى مقطوعة موسيقية, او الى الكلام الفاتن, لكن لا شيء يمكن عمله حيال الرائحة التي لا يمكن التخلص منها. ان من يسيطر على الرائحة, يسيطر على العالم, البشر بالنسبة اليه محدودون اذ هم يعتقدون ان بإمكانهم ان يتعرفوا بواسطة النظر الى جمال فتاة ويصفون مفاتنها, لكن يفوتهم ان كمال الجمال المفترض, يتأتى عن عطرها الرائع وغير القابل للمقارنة, عطر بشر نادرين يوحون بالحب». يقال عادة ­ تضيف فياض ­ الاذن تعشق قبل العين احيانا, ربما يجدر القول الآن «الانف يعشق قبل العين والاذن» فمن المعروف ان الانف يتذوق اكثر من الفم آلاف المرات. قد يحرك النظر القلب, وقد يثير السمع الاحاسيس, لكن الرائحة الطيبة تنفذ الى اعماق دفينة في النفس حيث الدفء وموقع الفرح. لا شيء يمكن ان يستحضر زمان ومكان العاطفة مثل الرائحة».
كتب وكتابات ودواوين قديمة وحديثة كان لسيرة الرائحة فيها نصيب اساسي في شتى ضروب الحياة, فللشوق رائحة, وللمدينة, وللمحبوب, وللبيت, وللكراهية, وللاشمئزاز, وللبساتين, وللصفات البشرية, وللصفات المجازية ايضا روائحها. وقد كان للشعر اجمل الصور التي تستعين بحاسة الشم وبالذوق الفني المستنبط من جوهر الروائح العطرة.
... ولأبي الوحش السبعي بن خلف الاسدي ابيات قال فيها:
«سقى دمشق الشام غيث ممرع
من مستهل ديمة دفاقها
مدينة ليس يضاهي حسنها
في سائر الدنيا ولا آفاقها
تود زوراء العراق انها
تعزى اليها لا الى عراقها
فأرضها مثل السماء بهجة
وزهرها كالزهر في اشراقها
قد ربع الربيع في ربوعها
وسيقت الدنيا الى اسواقها
لا تسأم العيون والأنوف من
رؤيتها يوما ولا انتشاقها».
... وللصفدي ابيات يقول فيها:
«اقول وحر الرمل قد زاد وقده
وما الى شم النسيم سبيل
اظن نسيم الجو قد مات وانقضى
فعهدي به في الشام وهو عليل».
ضمن هذا الاطار, يعي العلماء مع تطور الابحاث في كل مجالات العلم, وخصوصا في مجال الابحاث التي تتعلق بأعصاب الحس والتذوق, ان للأنف دورا حيويا ليس فقط في سياق شم الروائح بأطيابها وبمنفراتها, وإنما ايضا له دور مهم في مضمار «تلقف» النكهات. وفي ذلك تقول منى فياض في كتابها المذكور اعلاه: «كشفت آخر الابحاث العلمية حول اعصاب الحس والتذوق, ان اللسان لا يستطيع ان يميز سوى بضعة احاسيس, مثل الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة, في حين ان الاحساس بآلاف الانواع من نكهات الطعام وشذى الاشياء يعود الى عمل الانف. ويمكن ان يدلنا فقدان المزكوم القدرة على تذوق الطعام او التمييز بين انواعه المختلفة على الدور الكبير للشم في التذوق. برهنت الابحاث على ان البشر, مثل الحيوانات اللبونة, باستطاعتهم التمييز بين آلاف الروائح. والرائحة عامل اساسي في جميع انواع الاتصال البشري, خصوصا في الاتصالات الاكثر حميمية. فالطفل يعثر على ثدي الام عن طريق الشم. وقد اكتشف الباحثون ان الشم يلعب دورا رئيسيا في اختيار الازواج بين النساء والرجال في بعض القبائل البدائية. وعندما يكره احد الزوجين رائحة الآخر فإن العلاقة محكوم عليها بالفشل. ويفضل الكثير من الناس التحكم برائحتهم, وعدم تركها للمصادفة, وهذا ما يفسر لماذا تحقق تجارة العطور الارباح الهائلة.
وفي ذلك كتب ابن حزم عن التعطر عند العاشقين: «وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر, مرشوشة بماء الورد, وقد جمعت في اصلها بالمصطكي وبالشمع الابيض المصفى».
ومن الكتابات التي سبرت اغوار الرائحة ومعانيها ذات الوجه الآخر للحب وللعطر وللنشوة, نقرأ من كتاب «عاشقة في محبرة» للاديبة غادة السمان ­ ص 107 ­:
«هل كنت ذات يوم عاشقة مجنونة الطيش
هل ركضت خلف رائحتك في الليل
كالكلاب البوليسية, وتلصصت على سيارتك وهواتفك ونسائك؟
ورصدت أنفاسك كمؤسسة مخابرات محنكة تصيرها العاشقة»؟
ونقرأ ­ ص 54­ ما يدل على شم جغرافية الغربة, وغربة التاريخ:
«تعبت من رائحة شم الصراصير
في المصاعد الخشبية العريقة, الضيقة كالتوابيت...
تعبت من السجاد العفن الفاخر
في البيوت المصغرة كأسنان المحتضرين,
وروائح النفتالين تفوح من نوافذ بلا شمس...
وأحجار المباني الصلدة بالغطرسة, المحيطة بي
شواهد متعددة الاشكال على قبري...
تعبت من رائحة «ماء جافيل»
في ملاءات فندق الغربة».
كما ونقرأ لغادة ­ ص 65­ ما يدل على شم الانتقاد المردود على صاحبه. اذ تقول:
كان يشتم لي
«المؤثرات الغربية» في ادبي...
عبثاً حاولت اقناعه,
بأنني استعمل احيانا بعض ادوات الغرب
ليزداد قمر وطني سطوعا
لكنه تابع انتقادي
وهو ينفث في وجهي سجائره «الاميركية»...
ويتأزم داخل قميصه «التكساسي»...
ويكرع اقداح الويسكي «البريطاني»...
ويضرب الارض بحذائه الايطالي»...».
وللشاعر جوزف صايغ قصيدة قرأناها في ديوانه «الارض الثانية» ص ­174 ­ نقتطع منها المفردات التي تستعار من عناصر الرائحة والطيب للحديث عن اثر الانسان وذكراه بعد الرحيل. وفيها يقول:
«نعيش في خطرات الحرف
فوق هوى المقال
ما ردَّنا عن دُرِّه خطر
اغلى علينا من الاموال ما بقيت
توهمات الهوى
والكأس
والوتر
يقال عنا, غدا, انا لاأغنية
عشنا, وعاشت على ترجيعها العصر...
واننا قد مضينا مثلما نشم
بمرج ورد, فعاد الطيب ينتشر».
ويقول صايغ في لحظة العناق ­ ص 105 ­:
«هل درى, من بعد ما اشبعني ضماً وشما,
هل درى اني له صرت, كهم الحسن هما؟
منذ ما قطف من ثغري, وباسمي الحسن سمى
ذلك الشاعر لم يعلم, ولا الشعر ألما
انه, في قامتي, كل جمال الارض ضما!».
واللافت ان العديد من امهات كتب التراث العربي يغتني بمقاربات فنية ووجدانية وتحليلية لكل انواع الروائح وعناصرها المختلفة الاشكال والاسماء, نذكر من هذه الكتب, «كشف الاسرار عن حكم الطيور والازهار» لمؤلفه عز الدين بن غانم المقدسي المتوفى سنة €678 هـ€, وقد جاء في متن كتاباته: «انتهيت الى روضة رق اديمها, وراق نسيمها, ونَمَ طيبها ونما خصب رطيبها, وغنى عندليبها وتحركت عيدانها, وتضوعت ازهارها...»... €الخ€.
... وأنشد يقول:
«ألم تر ان نسيم الصبا
له نفس نشره صاعد
فطورا يفوح وطورا ينوح
كما يفعل الفاقد الواجد».
وبالعودة الى كتاب «فخ الجسد» ­ص259 ­ نقرأ تحت عنوان «الرائحة موصل كيميائي: عرفت العلاقة بين حاسة الشم, وبين المنظمات الكيميائية للجسد, منذ فترة قصيرة فقط. ولقد برهنت الدراسات المعمقة المتعلقة بهذه المنظمات ان الاتصال الكيميائي خصوصا, يثير ردود فعل عالية الانتقائية,. هكذا تؤثر الرسائل الكيميائية في شكل هرمونات, على خلايا معينة ومبرمجة مسبقا على الاستجابة, بينما لا تتأثر الخلايا المجاورة. ان الرسائل الكيميائية المرسلة من الجسد تبلغ مستوى من الدقة والحصرية في مستوى تنظيمها وتعقيدها بحيث تتجاوز كل الاجهزة الاتصالية التي استطاع الانسان اختراعها حتى الآن, اتعلق الامر باللغة المحكية او المكتوبة او الرياضيات.
ونقرأ تحت عنوان «رفض الرائحة» ­ ص 262 ­ «الانسان الحديث يقرف من جسده ومن الروائح المنبعثة منه, عكس الانسان البدائي, او المنتمي الى الفئات الشعبية, الذي لم يكن يشعر بالاشمئزاز امام الجسد. وحتى الآن هناك شعوب او فئات شعبية تتناول الطعام بالايدي ومن الوعاء نفسه, وتتلامس وتتقارب مما يعبر عن قبول الجسد وقبول روائحه وافرازاته. يبدأ «سوسكند» روايته «العطر» كالتالي: «وفي الحقبة التي نتحدث عنها €القرن الثامن عشر€ كانت تسود المدن روائح غثة بالكاد يمكن تخيلها للعصريين امثالنا, الشوارع تفوح برائحة الزبل. خلفية المنازل تفوح برائحة البول, بيوت الادراج تفوح برائحة الخشب العطن وبعر الفئران. المطابخ تفوح برائحة الملفوف الفاسد ودهن الخروف».
... وأخيرا من قال ان الانف مجرد عضو بسيط الاهمية؟ الدنيا رائحة معممة... والانف اشبه بالتحري المتخفي الذي تبنى على احكامه سيرورة المشاعر, وسيرة الاشخاص والامكنة.
 


غادة علي كلش

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...