الدين والثقافة لدى الجيل الثاني من مسلمي الغرب

06-09-2007

الدين والثقافة لدى الجيل الثاني من مسلمي الغرب

يحلو لكثيرين من الدعاة ووسائل الإعلام المفاخرة والاستشهاد بتزايد أعداد المسلمين في الغرب، ويجدون في ذلك سنداً يعززون به الثقة بالدين ومن المنظار الذي يدعون إليه على اختلاف رؤاهم، وإن صح استشهادهم من حيث الإجمال، فإن التفاصيل تعود على محل الشاهد بالنقض، فأن يكون عدد المسلمين في تزايد حقيقة ومعلومة مهمة لكن الأهم والأخطر هو حال هؤلاء المسلمين ومصيرهم بعد الإسلام، فما يغفل عنه الدعاة والمتباهون بهذه الظاهرة هو أن نصف الأميركيين الذين يعتنقون الإسلام على الأقل يرتدون عنه، والنصف الثاني يظل بعيداً من الجالية المسلمة.

هذه الحقائق وتفاصيلها كانت موضع اهتمام جفري لانغ JEFFREY LANG في كتابه الذي صدرت مؤخراً ترجمته العربية عن دار الفكر بدمشق (2007)، وعنوانه: «ضياعُ ديني: صرخة المسلمين في الغرب!» والذي يتحدث عن أحوال المسلمين في أميركا والذين يقدر عددهم بخمسة ملايين مسلم خمسهم من الأجانب والمهاجرين والبقية من الأميركيين الداخلين في الإسلام أو أبناء الجيل الثاني، هؤلاء الـ 80 في المئة من المسلمين الأميركيين هم موضوع الكتاب، حيث يتساءل عن دورهم وغيابهم عن المساجد والتجمعات الإسلامية، حيث لا علاقة لهم أو ارتباط بالمجتمع الإسلامي، ويستبعد المؤثرات الخارجية والاجتماعية التي تضعف دور كل الأديان نظراً لوقوف الإسلام بحزم أمام تلك المؤثرات الغربية، ويحفر في تقصي الأسباب التي تتعلق بالمسلمين والفكر الإسلامي.

مشاكل الأجيال المسلمة في الغرب متعددة المظاهر، منها الخلط بين الدين والثقافة، حتى أصبح الإسلام والثقافة متشابهين في المجتمعات الإسلامية التقليدية، واصطناع الحواجز بين الإسلام والثقافة الأميركية المعاصرة، مع انعدام التواصل مع الجيل الثاني الذي ترك تائهاً لا يعرف أين يلجأ ضمن المجتمع الإسلامي لمواجهة شكوكه وهواجسه المتعلقة بالتراث المثبط الذي يتوقعون وراثته وتوريثه لمن بعدهم، فإذا تركوا يتصارعون مع تحفظاتهم المتعلقة بالمعتقد الإسلامي الكلاسيكي أو غيره من القضايا فسيجدون من المواقع والمؤسسات ما يعزز شكوكهم، مع عدم ارتياحهم في المسجد لأنهم يرون أن شيئاً في ثقافة المسجد ليس صحيحاً، ويفتقر الكثيرون إلى الثقة في كثير من الشريعة الإسلامية التقليدية ويخفقون في إيجاد صلة بها، كل ذلك في مجتمع لا يستغرق إحياء الشكوك في الإسلام وتأكيدها وقتاً طويلاً ولا جهداً كثيراً خصوصاً أن التحيز ضد الإسلام والتحامل عليه منتشر وعميق الجذور في أميركا.

فالمسلمون المولودون في أميركا منفكون بصورة جماعية عن الجالية الإسلامية بسبب الالتباس الحاصل بين الدين والثقافة، والانقسام الموروث المتأصل في نسبة المرجعية الإلهية إلى أحكام وتفسيرات ليس لها دعم واضح في مصادر النصوص، ويعاني معتنقو الإسلام من الإحساس بعدم الانتماء إلى أي مجتمع، ويتبنون مواقف وسلوكيات غريبة عن تربيتهم وشخصيتهم السابقة، ويرتبطون ارتباطاً ضعيفاً غامضاً بالإسلام.

ومما يضاعف المشكلة أن وضع الجيل الثاني هذا لم يكن من اهتمامات المؤسسة الإسلامية الأميركية إذ لم يبحث زعماء المسلمين ولا علماؤهم هذه القضية علناً، والآباء والأمهات يفضلون عدم التحدث عن ذلك خشية الإرباك، كما أن غالبية المجتمعات في الجاليات الإسلامية لم تبتكر أي استراتيجية أو أي برامج للوصول إلى هؤلاء الشباب والشابات المغرَّبين، والمجتمع الإسلامي غارق في تجاهل مطبق.

يحمِّل جفري لانغ الجالية المسلمة والمهاجرين مسؤولية تردي أوضاع المسلمين الأميركيين، ويرى أن على مؤسسة المسجد أن تتحمل مسؤولية تضليل الملايين من المسلمين المحتملين وصرفهم عن دينهم، لا سيما وضع المرأة المسلمة التي تلجأ إلى المسجد الذي تحول إلى مؤسسة ذكورية بفعل عادات الجاليات، فالمرأة المسلمة الأميركية تشعر بأنها انفصلت عن المجتمع الذي نشأت فيه من جهة، وأنها معزولة ضمن المجتمع الإسلامي من جهة أخرى. وهن لا يُشَجَّعن على صلاة الجماعة، وليس لهن صوت مستقل في الجالية، ويحرمن من عضوية مجالس الإدارة واللجان التنفيذية، ويحط من قدر الإناث جميعاً، ويهمشن ويذللن في مجتمعاتهن الإيمانية، ويعاملن على أنهن مواطنات أقل من الدرجة الثانية في المسجد حتى ولو كن في بلدهن.

ومن أخطاء الجالية المسلمة تمييزهم بين المسلمين البيض والمسلمين السود، إذ يبدو أن المسلمين يستوحون من اعتناق الأميركيين البيض للإسلام أكثر مما يستوحونه من اعتناق السود له، ويرجع ذلك لأسباب كثيرة. لكن وعلى رغم أن تحاشي المهاجرين لإخوتهم وأخواتهم السود – وتفضيلهم للبيض على السود - ناجم عن عوامل ثقافية أكثر مما هو بسبب العوامل العرقية، فإنه إن ترك الوضع على هذه الحال، فربما يتطور إلى صراع، وتوترات عرقية حقيقية داخل الجالية.

ومن الملاحظات النقدية المتكررة أن الجالية المسلمة تسارع إلى التنديد بالظلم الذي يمارسه غير المسلمين، ولكنها لا تميل إلى الاعتراف بالأخطاء الفاضحة التي يرتكبها أبناء دينهم ولا يدينونها.

مفاتيح مشكلات المسلمين في الغرب من وجهة نظر جفري لانغ تتمثل بالتمييز بين ما هو من الإسلام وما هو من الثقافة والتقاليد، وبين ما هو جوهري وما ليس جوهرياً، فيرى أنه على المسلمين أن يكونوا حذرين من الإصرار على ما ليس ضرورياً ولا جوهرياً للإسلام، لأن مثل هذا الإصرار يضع عقبات وحوائل بين الأفراد والإسلام، إضافة إلى أن الحقيقة تصبح لديهم غامضة دونما حاجة إلى ذلك، ويلاحظ أن التقاليد والدين ممزوجان بصورة متداخلة في بلاد المسلمين حيث التقاليد والأعراف متجذرة، راسخة وشاملة للجميع.

وللقيام بهذا الفصل بين الدين والثقافة والجوهري وغير الجوهري من الدين لا بد من إعادة تقويم وفحص نقديين متقنين للفكر والممارسات الإسلامية التقليدية، ليس فقط من أجل التمييز بين ما هو جوهري حقاً في الدين فحسب، بل أيضاً لتحسين فهم الأحكام والتفاسير وآراء العلماء الأقدمين وإيصالها إلى الناس والتي ربما لا تكون جوهرية فقط بل شرعية أيضاً وملائمة لعصرنا.

ويعتقد بأن صميم المشكلة هو رفض إعادة تقويم التراث الهائل من العلم والعادات التي وصلت إلينا من أسلافنا، تقويماً نقدياً. ويرى أن المسلمين قد شلوا أنفسهم فكرياً بجعل الكم الهائل من الفكر الذي ورثوه نوعاً من المعلبات الفكرية (المحفوظات الفكرية)، حرماً مقدساً حجبت فيه الحقائق المزعجة ولا يجوز الاقتراب منه، ويؤكد أن الأزمة الكبرى التي تحل بالمسلمين اليوم هي أزمة فكر، أزمة رفض التفكير النقدي في ما يطلبه الإسلام حقاً. إن رفض العقل بسبب التقاليد والأعراف المخالفة في واقع الأمر للقرآن الكريم قد أوهن الأمة وجمدها، وأدى في أميركا إلى جعل المسلمين المولودين فيها يستبعدون المؤسسات الإسلامية في البلاد لكونها بعيدة عن واقعهم.

فالإيمان هو إيمان القلب والعقل، ولكن العقل هو الباب الذي يخرج منه الإيمان، فإذا كان المسلمون الذين نشأوا في أميركا يتسربون من الدين، فإن ذلك يعزى إلى المشكلة الفكرية، إلى الصراع بين العقل والإيمان.

ويرى أن الإجابة المبسطة للأسئلة المعقدة تزيد الشكوك، ويقول في هذا المجال: «أحياناً أفكر في أن جواباً بسيطاً (لا أعرف) يصدر عمن يعد ملاذاً في العقيدة يريح أكثر من جواب تقليدي رسمي، ربما لا يخاطب الهموم الكامنة كلها وراء السؤال».

ويستبق على الخطباء المتباهين بأعداد المسلمين الداخلين في الإسلام مقصدهم بأن خطابهم لم يكن باعثاً لدخوله الإسلام بل لو كان خطابهم هو الأسبق له لما استمر في الإسلام، يقول في هذا الشأن: «لو كان مصدري الوحيد الذي أستقي منه المعلومات حول الإسلام هو خطب الجمعة والأحاديث التي أجريها مع المسلمين، فإني سأفهم الله وكأنه قوى حاسدة متحاملة بلا حدود، تفرض علينا قرارات وأوامر فقط لاختبار مدى طاعتنا له، ثم يتربص الله بنا حتى إذا ارتكبنا أوهى خطيئة، صب جام غضبه وأقسى عقوباته علينا. أو ربما أرى الإسلام مجرد حركة سياسية مهمتها جعل المسلمين القوة الأعظم في العالم لينتقموا من الإذلال والمعاناة اللذين لحقا بهم منذ انهيار حضارتهم».

لقد اعتنق جفري لانغ الإسلام من خلال صراع فكري ومساءلة نقدية حادة لمقولات الوجود وتحديات القرآن، وقد بسط رؤيته وخلاصة تفكيره النقدي في كتابين سابقين وفي جزء كبير من كتابه هذا الذي ضمنه محاورات مطولة وإجابات لأسئلة وردت عليه في معظمها من أبناء الجيل الثاني من الأميركيين المسلمين الحائرين في دينهم والذين وجدوا في منهجه ملاذاً وبديلاً عن المساجد والمؤسسات الإسلامية الأميركية التي نفّرتهم من الدين، وهو إذ يحمل على التقاليد وإلباس الثقافة ثوب الدين ويدافع عن إمكان التوافق بين الثقافة الأميركية والدين في ما ليس متصادماً بينهما، فإنه في الوقت نفسه ليس بذلك متعصباً لثقافة مجتمعه، فـ «ليست المشاعر الغربية الحالية هي المعيارَ الموضوعَ الذي تقاس به إنسانية النظام الاجتماعي إجمالاً» كما يرى أن القرن العشرين هو أكثر القرون عنفاً.

ولئن كان يعتبر أن نغمة غالبية الكتاب متشائمة لأن خسارة الجالية المسلمة لأعداد كبيرة من المولودين في أميركا لا يمكن أن يكون سبباً للاحتفال، فإنه يعول على المسلمين الأميركيين الشباب باعتبارهم في أفضل موقع لإعادة تقويم التراث الواسع الذي ورثناه باسم الإسلام، يخاطبهم: «بما أنكم لم تنشأوا في ثقافة إسلامية تقليدية، ولأنكم تعلمتم منذ اليوم الأول في المدرسة على البحث والسؤال والنقد والتحليل، فأنتم المرشحون الأساسيون لمحاولة فصل الدين عن الثقافة، وللتمييز بين ما هو جوهري للإسلام من التفسيرات المقيدة بزمان ومكان».

أما بالنسبة الى الجالية المسلمة ومشكلات الخلاف بينها فينصحها بعدم التنازع في ما هو جوهري للإسلام لأن ذلك سيزيدهم اقتراباً من الطائفية والتنازع، وألا يطرحوا كل مسألة خلافية على التصويت لأن طغيان رأي الأكثرية ربما يؤدي إلى الانقسام كذلك، إنما ينبغي أن يكون الدافع الأول للمجتمع في أمور يكون خلاف الرأي فيها شديداً هو التوجه إلى التوافق والتسامح، والتفاهم والتكيف.

أخيراً... بوسعنا القول إن جوهر المشكلة كما شخصها جفري لانغ لا تخص المسلمين الغربيين ولا الثقافة الغربية بل هي مشكلة في العمق، فالتفكير النقدي وتقويم التراث ومراجعته ونقد التقاليد الاجتماعية الملتبسة بالدين، كانت ولا تزال من أهم أسئلة وقضايا النهضة الإصلاح والتجديد، لكن تجلي المشكلة يبدو أكثر وضوحاً واتساعاً في مجتمع تربى أبناؤه على النقد والتساؤل والبحث كما هو الحال في الغرب عموماً، لكن التحدي الحقيقي هو إلى أي مدى ستفرز النخب الغربية المسلمة مساراً جديداً في الفكر الإسلامي بعد إجهاض المسارات الأخرى في العالمين العربي والإسلامي، وهل يمكن أن نشهد خطاباً إسلامياً غربياً أكثر إخلاصاً للدين وأعمق فهماً له، هذا ما يأمله جفري لانغ الذي يسهم بجانب من هذا المسار من خلال ما قدمه من رؤى نقدية عميقة في كتبه.

عبد الرحمن حللي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...