الشاعرة السورية أمل جراح في ذاكرها الثانية

07-02-2007

الشاعرة السورية أمل جراح في ذاكرها الثانية

تطبيقاً للحديث النبوي القائل "لكل امرئ من اسمه نصيب"، هو اسم أمل جرّاح الذي يجمع متناقضين، تماماً كصاحبته: شاعرة أمضت حياتها تحت مشرط الجرّاحين. قيل عن أمل التي تحلّ ذكراها الثانية هذا الشهر إنها شاعرة الألم، وقيل إنها شاعرة المصالحة مع الموت الذي نجحت في إقصائه، حتى وهي فيه، إلى المقاعد الخلفية بحسب بول شاوول ذات تأبين، وقيل أيضاً إنها أميرة الحزن. لكن المرأة التي "جاءت إلى العالم متكئة على قلبها"، بحسب تعبير محمد علي شمس الدين، كانت شاعرة فقط. شاعرة من حيث أن الشاعر كائن لا يعقد هدنة طويلة مع عدوّه الشخصي: الموت. لم تكن أمل جرّاح شاعرة الموت يوماً بل تعاملت معه ومع تباشيره، التي رافقتها طويلاً، كما تتعامل مع ظالم لا يعرف سوى الغدر حتى لو بعث ألف إنذار، معبّرة عن مفاجأتها بالقول: "كنت أنحني على القلب المتعب/ فأسمع هديره الفاجع/ الآن ما الذي حصل؟/ أي صخرة دخَلَت/ من أي ثقب؟". سايرت الشاعرة موتها من دون أن تستسلم له يوماً، قالت عنه: مرايا، وقالت: عشيقٌ من حجر، لكن إصبعها ظلّت تشير إليه بالاتهام: قاتل.
أمل جرّاح، المولودة في مرجعيون لأبوين سوريين عام 1945 عرّفت نفسها يوماً بالقول: "أنا واحدة من مئتي مليون إنسان عربي، طفلة، وإن كنت أقترب من خريف العمر، بريئة، طيّبة إلى حدّ البله، وعفوية إلى حدّ التطرّف. أنا امرأة من دمشق". بدأت ابنة دمشق مشوارها الأدبي في بيروت، التي اختارت أن تدفن فيها في ما بعد، في السبعينات عندما اشتركت في مسابقة للرواية أجرتها مجلة "الحسناء"، أثناء فترة صدورها لدى دار "النهار"، وفازت بالدرجة الأولى. كانت روايتها الأولى بعنوان "خذني بين ذراعيك"، وقررت لجنة التحكيم المؤلفة من جبرا ابرهيم جبرا وأنسي الحاج ويوسف الخال ورفيق خوري منحها الجائزة الأولى نظراً الى موضوعها الجريء وأسلوب معالجتها العميق لعلاقة ملتبسة بين أب وابنته. لكن هذه الرواية لم تنشر قط وظلّت محفوظة في أدراج الشاعرة لأنها "كانت تغوص في المحرّمات" بحسب تعبيرها. بعد ذلك، انتقلت جرّاح من الرواية إلى الشعر، فنشرت أولى قصائدها في ملحق جريدة "النهار" الثقافي بتشجيع من الشاعرين أنسي الحاج ويوسف الخال. أما أول مجموعة شعرية لها فحملت عنوان "رسائل امرأة دمشقية إلى فدائي فلسطيني"، مستوحاة من الأجواء التي أعقبت هزيمة حزيران 1967. بين هذه المجموعة والمجموعة الأخيرة التي تحمل عنوان "بكاء كأنه البحر" وصدرت بعد وفاتها، نلاحظ كيف تجوهر أسلوب الشاعرة فباتت لها بصمتها الخاصّة والمميزة. وفي المدّة الفاصلة بين هذين المجموعتين، أصدرت جرّاح بيانات احتجاج شعرية كثيرة ضد الموت الذي يتربّص بها، هي المصابة بمرض في القلب منذ الصبا. هذه البيانات كانت على شكل قصائد، نشرت الشاعرة بعضها في جريدة "النهار" التي شهدت انطلاقتها حصراً، وجمعتها في دواوين "صاح عندليب في غابة"، "صفصافة تكتب اسمها"، و"امرأة من شمع وشمس وقمر".
بين دمشق، بيروت، ولندن، امتدّ مشوار جرّاح الشعري والحياتي. استقرّت في العاصمة اللبنانية بعد زواجها من الروائي والقاصّ ياسين رفاعية، قبل أن تضطرّ إلى المغادرة الى لندن، بسبب ظروفها الصحّية وظروف الحرب التي عصفت بالبلاد. هذه الحرب تركت في نفس الشاعرة ندوباً لا تمحى، وبرز أثرها الواضح في مجموعة كبيرة من قصائدها، فقد وصفت مشهد القتل اليومي بالقول: "الباعة يصعدون إلى الفضاء/ يتركون على الأرصفة قلوبهم المثخنة"، جامعةً بين قدرها الشخصي وقدر المدينة التي تحب: "لا أريد أن أعرف/ كيف يذهب السيف إلى الخاصرة/ أريد أن أمشي وحيدة".
عندما قرأ الشاعر نزار قباني نصوصها كتب لها: "أمل جرّاح. قرأت أكثر ما كتبتِ. أشعارك برارٍ من العشب، والحزن، والصوفية، والطفولة. أنصحك ألا تستمعي إلى نصيحة أحد. إكبري على كيفك. أزهري على كيفك. براري العشب لا تحتاج إلى خبير زراعي كي تكون جميلة". هي سمعت هذه النصيحة جيداً، فتميّزت قصائدها بالصدق والعفوية أولاً، من دون أن يعني ذلك ابتعادها عن النقد الذاتي الدائم، أو غياب همّ الإتقان لديها.
قبل وفاتها بمدّة قصيرة، نشرت قصيدة "مملكة من خشب"، لكنها أصرّت على تغيير عنوان هذه القصيدة لتصبح "القصيدة الأخيرة"، عند إعادة نشرها ضمن ديوان "بكاء كأنه البحر". في هذه القصيدة الحزينة تخاطب جرّاح أشياء منزلها كما لو كانت جزءاً منها، تاركةً للجماد أن يتغلّب على وجودها الإنساني الآفل، من خلال إطلاق اسم "مملكة من خشب وأبواب" على المنزل الذي يحتويها، ناقلةً ببراعة إحساس المريض بالعالم الخارجي:"أين سأذهب هذا الصباح/ الشارع الطويل/ بين غرفة النوم والحمام (...)/ أقيم في بيت مليء بالطرقات والحارات/ لا أستطيع التجوال فيها". المرأة التي أدركتها اللحظة الفاصلة بين البياض (بياض المستشفى) والسواد (عتم القبر)، ذهبت إلى الموت بعنفوان شاعرة: "كل شيء يهتزّ/ في داخلي/ يا الله/ أطلق سراحي"، رافضةً فكرة الشيخوخة: "ما أصعب أن يتجعّد وجه/ ويصبح كل هذا الصبا/ عصا تتكئ على عصا". تلك الدمشقية التي قالت يوماً إن الصمت اكتمال الكلام، شبّهت حياتها بالجلسة القصيرة في مقهى محاذٍ للمقبرة. مضت، بعدما أعلنت: "زهرة على أناملي تلك الحياة". مضت الشاعرة ولم تدرك أنها نسيت أناملها أيضاً مع زهرتنا، زهرة الشعر.

زينب عساف

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...