حوار مع عبد الوهاب المسيري

07-04-2007

حوار مع عبد الوهاب المسيري

صدر حديثا عن دار الفكر بدمشق كتابا هاما حمل عنوان "  (الصهيونية .. وخيوط العنكبوت) للباحث والمفكر المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري. المتخصص بالدراسات الصهيونية. وضم الكتاب مقالات عدة تتناول طائفة من الأحداث والظواهر المتعلقة باليهودية والصهيونية، وبمسار الصراع العربي ـ الصهيوني.
التقينا الباحث د. المسيري وحاورناه مطولا حول ما جاء في كتابه.
 س1: أصدرت كتبا كثيرة تتحدث عن الصهيونية والكيان الصهيوني .. فما الجديد في كتابكم (الصهيونية .. وخيوط العنكبوت) وما الذي قصدته بتعبير  "خيوط العنكبوت "؟
ج: دعني أبدأ من البداية لأبين السبب الذي دعاني لاختيار هذا العنوان لكتابي. لاحظت أن الإعلام العربي يركز على مدى "قوة" الجيب الاستيطاني الصهيوني وبطشه وقدراته العسكرية التي لا تعرف حدوداً، كما يشغل الإعلام العربي نفسه بشكل مرضي بحصر انتصارات الدولة الصهيونية، ويخفق إلى حد كبير في رصد عوامل التآكل التي تتفاعل داخله، وتدهور الحالة النفسية للمستوطن الإسرائيلي من جراء المقاومة الفلسطينية الباسلة. والمحصلة النهائية لهذا الموقف هي أن المقاومة الفلسطينية تبدو كما لو كانت معركة خاسرة لا فائدة تُرجى من ورائها. هذا على عكس الصحافة الإسرائيلية التي ترصد أثر الانتفاضة على المجتمع الصهيوني بطريقة ترفع المعنويات وتبين أن الانتفاضة ليست فعلا عبثيا، وما ورد في صحيفة "يديعوت أحرونوت" (13 يناير/كانون الثاني 2003) لا يختلف كثيراً عما جاء في صحيفة "معاريف"، إذ قالت إن الجمهور الإسرائيلي يعاني مشاعر توتر منهكة ازدادت بنسبة كبيرة خلال العام الأخير. فبينما قال 14 بالمائة من المستوطنين الصهاينة في عام 1998 إنهم يعانون من التوتر، ارتفعت هذه النسبة في عام 2000 إلى 15 بالمائة، ووصلت عام 2002 إلى 20 بالمائة، أي أن واحداً من كل خمسة إسرائيليين يعاني من التوتر.
ومن المؤشرات الأخرى تزايد معدلات السعار الجنسي في إسرائيل. فالجنس، شأنه شأن الخمر والطعام والتدخين، يُعد من الآليات التي يحاول المرء من خلالها التغلب على قلقه وعلى غياب المعنى في حياته. وقد بين استطلاع للرأي نشرته صحيفة جيروساليم بوست (26 نوفمبر/تشرين الثاني 2001) أن المستوطنين الصهاينة هم من أكثر الناس من حيث النشاط الجنسي (لا يفوقهم في ذلك سوى الأمريكيين). وقد صرح 23 بالمائة ممن شملهم الاستطلاع أن الجنس هو هوايتهم المفضلة التي يزجون من خلالها أوقات فراغهم.
ويتجلى القلق أيضاً في هبوط معدلات الاستهلاك، حيث بينت إحدى الدراسات أن الإسرائيليين بدأوا يتحولون عن نمط الاستهلاك الأمريكي (أي الاستهلاك من أجل الاستهلاك، بلا حدود وبلا سبب) إلى تبني أنماط أكثر حذراً نظراً لعدم ثقتهم في المستقبل ولارتفاع معدلات البطالة.
وجانب آخر من جوانب الظاهرة يكشفه موقف موشيه يعلون، رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي. فقد كان يمتدح دائماً قدرة الشعب الإسرائيلي على الصمود في الصراع الدائر مع الفلسطينيين، واعتاد الظهور في أوساط إسرائيلية مختلفة ليدحض نظرية "خيوط العنكبوت" المنسوبة للسيد حسن نصر الله، أمين عام "حزب الله"، ومؤداها أن إسرائيل تبدو من الخارج دولة عظمى من الناحية العسكرية، ولكن من يلمسها يدرك أنها تتفكك مثل خيوط العنكبوت. وكان يعلون يردد دائماً أن الفلسطينيين تبنوا هذه النظرية بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، وأن المقاومة الفلسطينية المسلحة ترتكز إلى حد كبير على هذه النظرية، التي ثبت خطأها، في نظره، لأن المجتمع الإسرائيلي برهن على صموده وتماسكه.
ولكن مع تصاعد معدلات القلق، اضطُر يعلون، في تصريحات نقلتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" في موقعها على الإنترنت (11 فبراير/شباط 2003)، إلى الاعتراف بأن قدرة المجتمع الإسرائيلي على الصمود محدودة للغاية، وأن هذه المحدودية تجتذب النار (أي تشجع المقاومة)، بل وأقر بصواب نظرية "خيوط العنكبوت". وقد عبر يعلون عن رأيه هذا في اجتماع مغلق أمام شخصيات من العاملين في مجال التربية والتعليم في القدس، ووصفت الصحيفة هذه التصريحات بأنها "شاذة"، وبأنها وقعت على مسامع الحاضرين "وقع الصاعقة، وهو الأمر الذي دفع يعلون فيما بعد إلى نفي تصريحاته مدعياً أنها أسئ فهمها، ومن ثم حُذفت تماماً من موقع الصحيفة.
ومما يستلفت النظر أن معظم الصحف العربية تجاهلت الخبر تماماً، بينما نشرته بعض الصحف الأخرى على استحياء في زاوية مهملة، وكأنه خبر عابر لا أهمية له، وكأنه ليس تقييماً حقيقياً لمعنويات الكتلة البشرية الاستيطانية التي احتلت أرض فلسطين صادر عن أحد أعمدة المؤسسة العسكرية الصهيونية، وكأنه ليس مؤشراً قوياً على عمق الأثر الذي تحدثه الانتفاضة الفلسطينية على التجمع الصهيوني.
س2: أشرت في الكتاب إلى علاقة الديموجرافية اليهودية بظهور الصهيونية .. هل يمكن إيضاح هذه النقطة .. ولماذا نهتم بها في الوقت الحاضر؟
ج: للإجابة على هذا السؤال يجب أن نشير إلى الطفرة السكانية التي حدثت بين يهود شرق أوروبا (روسيا وبولندا) مع تعثُر التحديث فيهما، مما أدى إلى تفاقم المسألة اليهودية، خاصة وأن الدولة الروسية القيصرية بدأت عملية التحديث بخطوات سريعة لم تسمح لأعضاء الجماعات اليهودية، المرتبطين بالاقتصاد القديم والحرف التقليدية ووظائف لم يعد المجتمع في حاجة لها مثل التجارة والربا، لم تسمح لهم بمواكبة التطور، وبالتالي أصبحوا فائضا بشريا وجماعة وظيفية بلا وظيفة. فبدأوا يتدفقون كالسيل العرمرم على بلدان وسط وغرب أوروبا، بما في ذلك إنجلترا التي كان يوجد بها نحو 25 ألف يهودي عام 1853، وصل عددهم إلى 242 ألفاً عام 1910، أي بزيادة نحو عشرة أضعاف خلال ستين عاماً في مجتمع متجانس مثل المجتمع الإنجليزي. ورغم صدور تشريعات تَحُد من هجرتهم، فإن عدد يهود إنجلترا وصل عام 1914، أي عشية وعد بلفور، إلى ما بين 250 ألفاً وإلى 300 ألف نصفهم من يهود اليديشية، أي أن عدد يهود إنجلترا من يهود اليديشية زاد خمسة عشر ضعفاً فيما يقارب أربعين عاماً.
وقد أدى تدفق يهود اليديشية إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة بحثا عن مورد للرزق إلى شعور الجماهير بأن المهاجرين اليهود يهددون الأمن الاجتماعي. وقد حاولت الدول الغربية تحويل مسار الهجرة إلى أماكن غير أوروبا، فكان هناك مشروع الاستيطان في الأرجنتين ومشاريع أخرى مماثلة، لكن استقر الأمر على فلسطين بسبب أهميتها الاستراتيجية بحيث يتم تحويل الجماعات اليهودية التي أصبحت بلا وظيفة إلى جماعة وظيفية عسكرية تحمي المصالح الغربية في المنطقة. وفي هذا الإطار، طُرحت الفكرة الصهيونية، وقد وضع هرتزل نصب عينيه الوصول إلى السلطات الحاكمة في إنجلترا لعرض المشروع الصهيوني وبالفعل، نجح أحد أصدقائه في دعوته للمثول أمام اللجنة الملكية عام 1902، حيث قدَّم حلاًّ صهيونياً مفاده تحويل الهجرة من إنجلترا إلى أية بقعة أخرى خارج أوروبا. وانطلاقاً من هذا، عُرض مشروع شرق أفريقيا، ثم صدر وعد بلفور الذي جاء انتصاراً للمنظمة الصهيونية.

س3: تدعي الصهيونية أنها "القومية اليهودية" وأنها بذلك حركة تحرير يهود العالم فما هي حقيقة هذا الادعاء؟
ج: للإجابة عن هذا السؤال، يجدر في البداية إلقاء الضوء على الدين اليهودي وبعض سماته الأساسية. فالملاحظ أن الدين اليهودي، على خلاف الديانات السماوية الأخرى، يمزج، على مستوى المصطلح على الأقل، بين فكرة "الشعب" بالمعنى العرقي وفكرة "الأمة" بالمعنى الديني. وعلى الرغم من تداخل "الزمني" بالمقدس و"القومي" بالديني في اليهودية، فقد ظلت فكرة "القومية اليهودية" إمكانية فكرية كامنة تعبر عن نفسها بشكل روحي عاطفي لا يتعدى نطاق الصلوات والدعوات، عن "اللقاء العام القادم في أورشليم". وقد ساهم إحساس اليهود بواقع حياتهم في إخماد الشعور بالانتماء القومي الوهمي، فلم يسجل تاريخ الجماعات اليهودية أية حركات منظمة للعودة لأرض الميعاد، وظل ارتباطهم بالأرض أشبه بارتباط المسيحي أو المسلم بأرضه المقدسة.
ومع هذا، يمكن الإشارة إلى سمة خصوصية انفرد بها أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي وهي تحولهم إلى جماعات وظيفية تعمل بالتجارة والربا، ومن سمات هذه الجماعات الوظيفية أنها تشعر بالغربة في مجتمع الأغلبية، ورغم أنها تستمد خطابها الحضاري من هذا المجتمع، فإنها تتصور أنها ذات هوية مستقلة وأن لها وطنا آخر (صهيون)، فتنعزل عن هذا المجتمع، وتبدأ في الإحساس بأنها "أقلية إثنية" مع أنها في واقع الأمر "جماعة  وظيفية"، مما خلق نوعا من الإبهام. ولكن حسم هذا الإبهام مع عمليات التحديث والاستنارة فقامت قيادات الجماعات اليهودية إما بإلغاء الصلوات ذات الطابع "القومي" (اليهودي)، أو تفسيرها بطريقة يطهرها من مضمونها العرقي أو الإثني، وذلك من أجل تعميق ولاء اليهودي للوطن الذي يعيش فيه وقصر انتمائه اليهودي على العقيدة اليهودية.
ولكن الصهاينة، ممثلي العقلية الجيتوية، وقفوا ضد التيار الإصلاحي وراحوا يعملون على تحويل "الإحساس الديني" بالانتماء إلى جماعة دينية واحدة والارتباط العاطفي بالأراضي  المقدسة اليهودية، إلى "شعور قومي" و"برنامج سياسي".  وقالوا إن اليهود شعب واحد بالمعنى العرقي أو الإثني، وأنهم لهم قوميتهم المستقلة. و لكن الواقع التاريخي مختلف تمام الاختلاف عن هذا التصور، فاليهود جماعات متناثرة تستمد كل جماعة خطابها الحضاري من المجتمع الذي تعيش فيه. فيهود أمريكا أمريكيون يهود، ويهود المغرب مغاربة يهود. وأكبر دليل على أن اليهود ليسوا شعبا أنه بعد إنشاء الدولة الصهيونية التي تدعي أنها دولة الشعب اليهودي بأسره، لاتزال غالبية هذا الشعب مستقرة في أوطانها الحقيقية، وأنه بعد أن هاجر أعضاء  هذا الشعب اليهودي الوهمي إلى "وطنهم القومي" اكتشفوا أنهم ليسوا يهود بشكل عام وإنما إشكناز وسفارد وفلاشاه، إلى آخر هذا الكتالوج، بل إنهم لم يتوصلوا بعد لتعريف من هو اليهودي، وأن الدولة الصهيونية لم تحررهم من الأسر وإنما أوقعتهم في فخ جغرافي وورطة تاريخية!

س4: استخدمت في كتابك مصطلح "الوعود البلفورية" وليس وعد بلفور؟
ج: مصطلح "الوعود البلفورية" يعني أن ثمة نموذجاً كامناً متكرراً في الحضارة الغربية، يجعلها تنحو منحى "صهيونياً". والوعود البلفورية هي مجموعة من التصريحات التي أصدرها بعض رجال السياسة في الغرب، التي تعبر عن هذا المنحى وجوهرها هو الدعوة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ونقل يهود العالم الغربي إليها، مما يعني تخليص أوروبا منهم، وأن لليهود حقوقاً مطلقة في فلسطين، بينما لا توجد أية حقوق لسكانها الأصليين. وكانت هذه التصريحات تهدف إلى أن يكون نقل اليهود هو مقدمة لتأسيس دولة يقوم الغرب بتمويلها ودعمها اقتصادياً وعسكرياً، على أن تكون وظيفتها هي خدمة مصالح الدولة الغربية التي تقدم الدعم، ومن ثم فإن الدولة الصهيونية هي دولة وظيفية. وهذه هي العناصر الأساسية في كل الوعود البلفورية التي تدعم هذه الدولة وتضمن بقاءها واستمرارها.
     وليس من قبيل الصدفة أن أول غاز للشرق في العصر الحديث، وهو نابليون بونابرت، كان أيضاً أول من أصدر وعداً بلفورياً، يتضمن معظم العناصر التي يتضمنها وعد بلفور، والوعود الأخرى. كما صدر وعد بلفوري ألماني في سبتمبر 1898، وكان عبارة عن خطاب من دوق إيلونبرج باسم حكومة القيصر إلى هرتزل جاء فيه أن القيصر "على استعداد أن يأخذ على عاتقه مسئولية محمية [يهودية] في حالة تأسيسها". ومن الأمثلة الأخرى على الوعود البلفورية، الوعد البلفوري الروسي القيصري. فقد قام هرتزل، بتفويض من المؤتمر الصهيوني الخامس (1901)، بمقابلة فون بليفيه، وزير الداخلية الروسي المعادي لليهود، حتى يَحصُل على تصريح يعبِّر عن نوايا الروس يتلوه في المؤتمر الصهيوني السادس المزمع عقده سنة 1903. وبالفعل، صَدَر الوعد البلفوري القيصري في شكل رسالة وجهها بليفيه إلى هرتزل، وجاء فيها:
"ما دامت الصهيونية تحاول تأسيس دولة مستقلة في فلسطين، وتنظيم هجرة اليهود الروس، فمن المؤكد أن تظل الحكومة الروسية تحبذ ذلك. وتستطيع الصهيونية أن تعتمد على تأييد معنوي ومادي من روسيا إذا ساعدت الإجراءات العملية التي يفكر فيها على تخفيف عدد اليهود في روسيا".

ويمكن القول إن الغرب لا يزال ملتزما بوعوده البلفورية ولا يزال يؤكدها، ففي المؤتمر الصحفي الذي عُقد في واشنطن يوم 14 أبريل/نيسان 2004، كشف شارون وبوش عن رسائل متبادلة بينهما قبل وصول شارون إلى البيت الأبيض تضمنت تقديم وعود وضمانات أمريكية لتنفيذ خطة شارون بالانسحاب من قطاع غزة. من بينها ضرورة تخلي اللاجئين الفلسطينيين عن حق العودة إلى أراضي عام 1948، وأن لإسرائيل الحق في الاحتفاظ ببعض "المستوطنات" (المستعمرات) في الضفة الغربية، وأنه من غير الواقعي توقع اتفاق سلام نهائي بانسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل 5 يونيو/حزيران 1967، على اعتبار أن هذه الحدود ليست مقدسة ومن ثم يمكن تجاوزها، وأن الفلسطينيين والعرب عليهم الاعتراف بالأمر الواقع الجديد.

س5: ما الذي دفع بوش لتجاوز كل هذه الخطوط الحمراء مرة واحدة دون اكتراث بالرأي العام العالمي والأوروبي والعربي؟
ج: للإجابة على هذا السؤال يمكن طرح الأسباب التالية:
1- بُنيت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على أساسين، أولهما الحفاظ على وضع التجزئة والتعامل مع كل بلد عربي على حدة وليس باعتباره جزءاً من كتلة اقتصادية حضارية واحدة، ولهذا أصرت إسرائيل ألا يتم التفاوض بينها وبين الدول العربية مجتمعة، بل أن تتفاوض مع كل دولة على حدة، وهو ما تحقق في كامب ديفيد، وهذا يعني في واقع الأمر إسقاط البعد العربي تماماً. أما الثاني فهو أن الوضع الأمثل للولايات المتحدة في العالم العربي هو ما سمي Controlled Imbalance أو "عدم التوازن المنضبط"، أي أن تكون هناك حالة عدم استقرار دائمة ولكن يمكن التحكم فيها، إما بتصعيدها أو تهدئتها أملاً في فرض الهيمنة الكاملة، وما غزو العراق ومحاولة تطويق العالم العربي استراتيجياً من داخله وخارجه بسلسلة من القواعد العسكرية، والحديث عن "الإصلاح السياسي" إلا جزء من هذه السياسة الجديدة.
2- لم تعد الولايات المتحدة تخشى من تأثر مصالحها بسبب انحيازها إلى إسرائيل، ذلك أن رد الفعل العربى يأتي دائماً باهتاً ويقتصر على مجرد إلقاء بيانات الاعتراض، وليس حتى الإدانة، أي أنه تأكد للولايات المتحدة الخضوع العربي الرسمي لها عسكرياً واقتصادياً.
3- ترى الولايات المتحدة أن إسرائيل هي أداتها في الشرق الأوسط، ومن هنا دعمها الاقتصادي والسياسي والعسكري لها، وتحالفها الاستراتيجي معها. وقد باءت بالفشل محاولة بعض الدول العربية أن تطرح نفسها بديلا لإسرائيل، كأداة للهيمنة الأمريكية، لأسباب عديدة من أهمها أن الولايات المتحدة تعرف أن النظم الموالية لها في العالم العربي مهددة دائماً بالسقوط أمام الغضب الجماهيري العربي.  وقد وُصفت تصريحات بوش بأنها "وعد بلفور جديد" وهو وصف دقيق، حيث يضع تصريحات بوش في إطارها الاستعماري الغربي الأوسع.

س6: بعد تصريح بوش بموافقته على إلغاء حق العودة للفلسطينيين، كيف ترى هذا الأمر؟
ج: عودة الفلسطينيين هي جزء لا يتجزأ من عملية نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية الاستيطانية، وحق العودة هو حق أساسي من حقوق الإنسان، وفي الميثاق العالمي لتلك الحقوق مادة تنص على حق كل مواطن في العيش في بلاده، أو تركها أو العودة إليها، وهو مرتبط بحق الملكية والانتفاع بها والعيش في الأرض المملوكة، وحق الملكية لا يزول بالاحتلال وهو مرتبط أيضا بحق تقرير المصير الذي اعترفت به الأمم المتحدة كمبدأ منذ العام 1948. وقد اعتبر السماح بعودة اللاجئين أحد الشروط التي وضعت لقبول إسرائيل عضوا بالأمم المتحدة العام 1948، فمقولة بوش ومحاولة نسيان الماضي والتطلع إلى المستقبل تزدري العقل الإنساني وتهينه، أما حكاية أن الفلسطينيين لم يعودوا راغبين في العودة فهي مسألة لا ينبغي أن يفترضها أو يفرضها أحد على أحد، وإنما يقررها كل فلسطيني بنفسه، ثم إنها أكذوبة أخرى تعمد إلى التزييف والتقليل، وساكنوا المخيمات منذ الأربعينيات شهود عملي على ذلك، فالذين طردوا وشردوا في العام 1948، كانوا آنذاك 805 آلاف شخص أما عددهم الآن فتجاوز أربعة ملايين و600 ألف شخص، وكل من امتلك منهم شيئا في فلسطين لايزال يحتفظ بأوراقه الثبوتية حتى هذه اللحظة.
وعادة ما يقول الصهاينة إن عودة الفلسطينيين ستفقد الدولة الصهيونية طابعها اليهودي، وهم محقون في ذلك، ولكن الرد على هذا أن الدولة التي تبني هويتها على التمييز العنصري لا تستحق البقاء، فالدولة اليهودية هي دولة حصرية استبعادية تسقط الحق المتعين للإنسان الفلسطيني للعودة إلى أرضه، ومع ذلك يساندهم بوش في ذلك ويدعمهم في ظل صمت عربي مستمر.
س7: في حديثك عن صراع المصطلحات والمفاهيم انتقدت مصطلح "الصهيونية العالمية"؟
ج: من القضايا المنهجية المهمة، وإن كانت تبدو إجرائية، قضية "ترجمة المصطلح". فهل نترجم المصطلح حرفياً أم نترجمه موضحين المفهوم الكامن وراءه؟ وهل يعني ذلك أننا نترجم أم نفسر، أم نترجم ونفسر معاً؟ يذهب البعض إلى أن الترجمة لابد أن تكون "أمينة" بمعنى حرفية، ولكننا لو فعلنا ذلك وأهملنا المفهوم الكامن وراء المصطلح فإننا سنمرر كثيرا من المفاهيم التي قد لا نوافق عليها.
ويتضح ذلك في ترجمة مصطلح "الصهيونية العالمية، وهو ترجمة حرفية "دقيقة" للمصطلح الإنجليزي "World Zionism". فمن الواضح أن الترجمة لم تدرك أن المفهوم الكامن وراء المصطلح نابع من أيديولوجية شاملة، لا هي بموضوعية ولا محايدة، وإنما تعبر عن آمال وطموحات ومشاريع أصحابها. فالصهيونية تدَّعي أنها تعبير عن "القومية اليهودية"، أي أنها قومية اليهود، كل اليهود أينما كانوا. وحيث أن اليهود موجودون في كل بقاع الأرض: في فرنسا والهند والصين وتنزانيا، فهي "عالمية". أي أن المصطلح يحاول إسباغ قدرٍ من الشرعية أو العدالة على المخطط الصهيوني المتمثل في اغتصاب الأرض العربية وفرض الهيمنة على المنطقة.
ولكن، لو دققنا النظر لاكتشفنا أن المصطلح الذي اختاره الصهاينة لمنظمتهم (المنظمة الصهيونية العالمية) يعكس هذا التحيز. فالصهيونية ليست ظاهرة عالمية، لأنها لا توجد في إفريقيا (باستثناء الجيب الاستيطاني السابق في جنوب إفريقيا)، ولا في آسيا (باستثناء الجيب الصهيوني في فلسطين)، ولا في أمريكا اللاتينية (باستثناء بيونس أيرس في الأرجنتين وربما ريو دي جانيرو في البرازيل). ويرجع هذا لسببٍ بسيطٍ، وهو أن الغالبية الساحقة من يهود العالم (أكثر من 90 بالمئة) تركزت في العالم الغربي منذ القرن التاسع عشر، وازداد التركز في القرن العشرين. فلا يوجد في الصين سوى عشرة يهود، ولا يوجد في الهند سوى بضع مئات. ومن ثم، فالصهيونية ظاهرة غربية تماماً وليست عالمية.
ولكن، لو دققنا النظر لاكتشفنا أن المصطلح الذي اختاره الصهاينة لمنظمتهم (المنظمة الصهيونية العالمية) يعكس هذا التحيز. فالصهيونية ليست ظاهرة عالمية، لأنها لا توجد في إفريقيا (باستثناء الجيب الاستيطاني السابق في جنوب إفريقيا)، ولا في آسيا (باستثناء الجيب الصهيوني في فلسطين)، ولا في أمريكا اللاتينية (باستثناء بيونس أيرس في الأرجنتين وربما ريو دي جانيرو في البرازيل). ويرجع هذا لسببٍ بسيطٍ، وهو أن الغالبية الساحقة من يهود العالم (أكثر من 90 بالمئة) تركزت في العالم الغربي منذ القرن التاسع عشر، وازداد التركز في القرن العشرين. فلا يوجد في الصين سوى عشرة يهود، ولا يوجد في الهند سوى بضع مئات. ومن ثم، فالصهيونية ظاهرة غربية تماماً وليست عالمية.
وينطبق نفس القول على كلمة "ستلمنت Settlement"، التي ترجمناها بحرفية مفرطة بكلمة "مستوطنة"، وهي مشتقة من "التوطين و"الوطن"، مع أن المفروض أن نترجمها بعبارة "مستعمرات استيطانية". ويزداد الأمر سوءاً وببغائية حين نتحدث عن "مستوطناتٍ غير شرعية، وهي ترجمة لعبارة "Illegal Settlements" التي تُستخدم في الخطاب السياسي الإسرائيلي للإشارة إلى المستعمرات التي تُشيَّد بدون تصريح من الدولة الصهيونية، وكأن هناك مستعمرات أخرى "شرعية"، وكأن هذه الدولة هي صاحبة الحق المطلق فيها، وكأنها لم تغتصب كل هذه الأرض التي تُقام عليها المستعمرات من العرب أصحابها الأصليين.

س8: وكيف ننظر إلى مصطلح " الصهيونية المسيحية "؟
ج: في الآونة الأخيرة، بدأ يتواتر في الدراسات العربية مصطلح "الصهيونية المسيحية"، الذي انتشر في اللغات الأوروبية وتسلل منها إلى اللغة العربية. والواقع أن هذا المصطلح يضفي على الصهيونية صبغة عالمية تربطها بالمسيحية ككل، وهو أمر مخالف تماما للواقع، إذ ليس هناك صهيونية مسيحية في الشرق. بل إن أوائل المعادين للصهيونية بين عرب فلسطين كانوا من العرب المسيحيين، وأول مفكر عربي تنبأ بأبعاد الصراع العربي - الصهيوني وبمدى عمقه هو المفكر المسيحي (اللبناني الأصل الفلسطيني الإقامة) نجيب عازوري. كما أن الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تعارضان الصهيونية على أساس عقائدي ديني مسيحي. وإن حدث تقارب ما (كما هو الحال مع الفاتيكان)، فإن ذلك يتم مع دولة إسرائيل ولاعتبارات عملية خارجة عن الإطار الديني العقائدي إلى حد كبير وفي الغرب المسيحي البروتستانتي، هناك عشرات من المفكرين المسيحيين الذين يرفضون الصهيونية على أساس ديني مسيحي أيضاً. ولهذا، فإن مصطلح "الصهيونية المسيحية" مصطلح غير علمي نظراً لعموميته ومطلقيته. ومن هنا، يجب الحديث عن "الصهيونية ذات الديباجة المسيحية، فهي صهيونية غير مسيحية بأية حال، بل صهيونية استمدت ديباجتها (عن طريق الحذف والانتقاء) من التراث المسيحي دون الالتزام بهذا التراث بكل قيمه وأبعاده، ودون استعداد منها لأن يحكم عليها من منظوره الأخلاقي.
وتستند الصهيونية المسيحية إلى العقيدة الألفية الاسترجاعية التي تعود جذورها إلى اليهودية وإلى كثير من العقائد الشعبية، ولكنها مع هذا أصبحت فكرة مركزية في المسيحية  البروتستانتية، إذ يؤمن كثير من المسيحيين البروتستانت بأنه حينما يعود المسيح المخلص (الذي يُشار إليه بأنه.. "الملك الألفي") سيحكم العالم (باعتباره الملك المقدس)، هو والقديسون، لمدة ألف عام يشار إليها أحيانا باسم "أيام المسيح" أو "الألف السعيدة"، وهي فترة سيسود فيها السلام والعدل في عالم التاريخ والطبيعة وفي مجتمع الإنسان والحيوان.
وكي تبدأ الألف السعيدة، لابد أن يتم استرجاع اليهود إلى فلسطين تمهيداً لمجيء المسيح. ومن هنا، فإن العقيدة الاسترجاعية هي مركز وعصب العقيدة الألفية. ويرى الاسترجاعيون أن عودة اليهود إلى فلسطين هي بشرى الألف عام السعيدة، وأن الفردوس الأرضي الألفي لن يتحقق إلا بهذه العودة. كما يرون أن اليهود هم شعب الله المختار "القديم أو الأول". (باعتبار أن المسيحيين هم شعب الله المختار الجديد أو الثاني)، وأن أرض فلسطين هي أرضهم التي وعدهم الإله بها، ووعود الرب لا تسقط حتى وإن خرج الشعب القديم عن الطريق ورفض المسيح (وصلبه). ومن الطبيعي، في إطار هذه الرؤية، أن ينظر إلى كل من يقف في وجه هذه العودة باعتباره من أعداء الإله والخلاص المسيحي، فأعداء اليهود هم أعداء الإله.
إذ يذهب الاسترجاعيون إلى أن اليهود أنكروا المسيح وصلبوه، وأن عملية استرجاعهم إن هي إلا جزء من عملية تصحيح لهذا الخلل التاريخي وجزء من عملية تطهيرهم من آثامهم. فاليهود ليسوا مركز الخلاص بل هم مركز الخلل وسببه، والواقع أنهم إذا كانوا مركز الخلاص، فهذا يعود إلى أنهم بإنكارهم المسيح أصبحوا مركز الخلل وسببه الأساسي وتجسيداً للشر في التاريخ. والخلاص لا يمكن أن يتم إلا بتطهير مركز الخطيئة (تنصير اليهود أو إبادتهم)، ولعل هذا التركيز على أن اليهود أصل الخطيئة يفسر أن المسيخ الدجال (الذي سيكون ظهوره أقصى درجات الشر) سيكون يهودياً (من سوريا)، وأنه هو الذي سيقود ملوك الأرض ضد المسيح في المعركة الأخيرة (هرمجدون). وتذهب العقائد الألفية والاسترجاعية إلى أن عملية الخلاص النهائي ستصاحبها معارك ومذابح تصل ذروتها في معركة واحدة أخيرة (هرمجدون)، وهي معارك سيروح ضحيتها ثلثا يهود العالم وستُخرب أورشليم (القدس).

س9: ما علاقة كل هذا بالمسيحية؟
ج: يرى الاسترجاعيون أنه كلما ازداد العنف ازدادت لحظة النهاية اقترابا، فكأن التعجيل بالنهاية لا يتم هنا من خلال فعل أخلاقي يقوم به المسيحيون وإنما من خلال تقديم قربان مادي جسدي للإله (هولوكوست) يشوى بأكمله. بل إن أبعاد هذه المذبحة ستكون أوسع مدى من المحرقة النازية، فكأن العقيدة الاسترجاعية هي عكس العقيدة المسيحية. ففي العقيدة المسيحية، يأتي المسيح وينزف دمه ويصلب ويهزم، فهو قربان يقدمه الإله فداء للبشر بأسرهم، قربان لا حاجة بعده إلى قرابين. أما العقيدة الاسترجاعية فتذهب إلى أن المسيح قائد عسكري يدخل المعارك ويثخن في الأعداء ثم ينتصر، واليهود هم الذين سينزفون، وهم قربان للرب الذي لا حاجة به إلى قرابين، ولذلك فإن ذبحهم (أو صلبهم) يشير إلى النهاية الألفية السعيدة. كما أن اليهود، حسب الرؤية المسيحية التقليدية، كانوا دعاة الإنغلاق العرقي، على حين أن المسيح هو داعية العالمية. أما هنا، فإن العكس هو الصحيح، فاليهود هم مركز خلاص العالم والمسيح هو القائد القومي الذي سيؤسس مملكته في صهيون.

انتهت حياة المسيح الأولى بإنكار اليهود له وصلبه، أما حياته الثانية فستنتهي بإعلان انتصاره وبالتدخل في آخر لحظة لإنقاذ البقية الباقية من اليهود (وإعادتهم إلى أرضهم)، فيخر اليهود أمام المسيح ويعترفون بألوهيته ويقابلونه باعتباره الماشيح المنتظر ويتحولون إلى دعاة تبشير بالمسيحية ينشرون الإنجيل في العالم، أي أن المسيح سينجح في إقناع اليهود بما فشل في إقناعهم به أول مرة. وحينما يحدث ذلك، تكون الدائرة قد اكتملت وتمت هداية العالم بأسره.
إن العقيدة الاسترجاعية عقيدة تحوسل اليهود تماماً، أي تحولهم إلى وسيلة أو أداة نافعة وأساسية لخلاص المسيحيين. ولكنها، في حد ذاتها، لا قيمة لها، فهم يستمدون قيمتهم من مقدار أدائهم لوظيفتهم ومقدار تعجيلهم بعملية الخلاص المسيحية.

س10: ما علاقة كل هذا بدولة إسرائيل القائمة الآن؟
ج: سأضرب مثلا بتيري ريزنهوفر (المليونير المسيحي الأصولي الأمريكي الذي يقوم بتمويل عملية إعادة بناء الهيكل) يرى هذا المليونير أن السلام بين إسرائيل وجيرانها مسألة مستحيلة. فهرمجدون نبوءة حتمية لابد أن تتحقق. بل ويرى الاسترجاعيون ضرورة تحريك الأمور باتجاه الحرب لإضرام الصراع والتعجيل بالنهاية (ولذا، فإن موقفهم من مفاوضات السلام أكثر تشدداً من موقف أكثر صقور إسرائيل تشدداً). ولا يختلف الأمر كثيراً بشأن حدود أرض الميعاد، فهذه الحدود معطى ثابت مقدس لا يمكن التفاوض بشأنه. كما أن حدود إسرائيل التي يتخيلها الاسترجاعيون أكثر اتساعاً من حدود إسرائيل الكبرى التي يتخيلها أكثر الصهاينة تطرفاً. فحدودها، حسب الرؤية الاسترجاعية، تضم الأردن وأجزاء من مصر ولبنان ومعظم سوريا (وضمنها دمشق)، أي أن الاسترجاعيين يرون ضرورة سفك الدم اليهودي تحقيقاً لرؤيتهم لنبوءات الكتاب المقدس.
لكل هذا، لا يرحب يهود أمريكا كثيرا بهذه الصهيونية التي تدعي المسيحية (والتي تطالب بنقلهم إلى إسرائيل ووضعهم في حالة حرب دائمة). هذا على عكس الدولة الصهيونية التي تجد أن هؤلاء الصهاينة الذين يستخدمون الديباجات المسيحية يكونون اللوبي الصهيوني القوي الذي يعيش في صلب المجتمع الأمريكي.
س11: أثير مؤخرا موضوع معاداة السامية .. كما ظهر مصطلح " معاداة السامية الجديدة " كيف تقيم هذا الأمر؟
ج: مصطلح معاداة السامية ترجمة شائعة للمصطلح الإنجليزي «أنتي سيميتزم» anti-Semitism. ونحن نفضل استخدام عبارة «معاداة اليهود» للإشارة إلى هذه الظاهرة، فهي ترجمه للمفهوم الكامن وراء العبارة الإنجليزية.
وهذا المصطلح يضرب بجذوره في الفكر العنصري الغربي الذي كان يرمي إلى التمييز الحاد بين الحضارات والأعراق، فميَّز في بداية الأمر بين الآريين والساميين على أساس لغوي. وانتهى الأمر به إلى الحديث عن تفوُّق الآريين على (الساميين) (أى اليهود)، هذا العنصر الآسيوي المغروس في وسط أوروبا، كما دار الحديث عن خطر الروح السامية على المجتمعات الآرية. وشاع المصطلح منذ ذلك الوقت وقام الدارسون العرب باستيراده وترجمته كما فعلوا مع كم هائل من المصطلحات الأخرى.
وقد اختلط المجال الدلالي للمصطلح تماماً في اللغات الأوروبية بعد ظهور الصهيونية. وبعد سيطرة الخطاب الصهيوني على النشاط الإعلامي الغربي، لم تَعُد هناك تفرقة بين ظاهرة معاداة اليهود في الدولة الرومانية وظاهرة معاداة اليهود في العصور الوسطى المسيحية. ولم يَعُد هناك تمييز بين معاداة اليهود على أساس عرْقي وبين معاداة اليهود على أساس ديني. وأصبحت معاداة الصهيونية، بل والدولة الصهيونية هي الأخرى، تُصنَّف باعتبارها من ضروب معاداة اليهود. وحينما كانت دول الكتلة الشرقية تصوت ضد إسرائيل في هيئة الأمم المتحدة، كان هذا يُعدُّ أيضاً تعبيراً عن تقاليد معاداة اليهودية الراسخة فيها. وبالمثل اعتُبر قيام فرنسا ببيع طائرات الميراج لليبيا تعبيراً عن الظاهرة نفسها. بل ويذهب أنصار هذا الرأي إلى أن نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستيطان الصهيوني تعبير عن الظاهرة نفسها. وهكذا اتسع المجال الدلالي للمصطلح واضطرب ليضم عدة ظواهر لا يربطها رابط، حتى أصبح بلا معنى، وأصبح أداة للإرهاب والقمع الفكريين.
وقد ظهر مؤخرًا مصطلح "معاداة السامية الجديدة" (أي "معاداة اليهود الجديدة") في المعجم الصهيوني وهو يشير إلى عدة مدلولات من أهمها ما يلي:
1- ما يزعم الصهاينة أنه أشكال جديدة من معاداة السامية، هي في حقيقة الأمر إعادة إنتاج للأشكال القديمة. ويضربون مثلاً لهذا بالعداء للدولة الصهيونية، فحينما ترتكب الدولة الصهيونية مذبحة مثل قانا فتدمغها معظم دول العالم، وحينما تُبنَى مستوطنة جديدة في القدس أو على حدودها وتصدر هيئة الأمم المتحدة قراراً بإدانتها، فإن هذا يكون تعبيراً عن النمط القديم: عداء الأغيار الأزلي لليهود.
2- يُستخدم المصطلح أيضا للإشارة إلى ما يسميه الصهاينة "معاداة السامية الإسلامية"، أي عداء المسلمين لليهود. وهم يرون أن هذا النوع من العنصرية آخذ في التزايد حيث ينظر المسلمون إلى اليهود باعتبارهم "أعداء الله"، وأن إسرائيل تعبير عن المؤامرة اليهودية الأزلية.
ويُفسِّر الصهاينة -كما أسلفنا- معاداة اليهود واليهودية بأنها تعود إلى كُره الأغيار لليهود عبر العصور، وهو تفسير من العمومية بحيث لا يُفسِّر شيئاً البتة. فإذا كان كره الأغيار لليهود ظاهرة ميتافيزيقية متأصلة، فإن المنطقي هو أن يُعبِّر هذا الكره عن نفسه بشكل مطلق، أي بالطريقة نفسها بغض النظر عن الزمان والمكان. ولكن تاريخ عداء اليهود تاريخ طويل ومتنوع ويفتقر إلى الاستمرار التاريخي كما تختلف دوافعه وأسبابه.
س: كيف تقيم الخطاب العربي الذي ينكر الهولوكوست، كما هو الحال في الغالب؟
ج: إبتداء أري من المهم أن نطور خطابا عربيا-إسلاميا جديدا، بخصوص كل من الهولوكوست و الصراع العربي الإسرائيلي. لقد قام الغرب بأيقنة الهولوكوست، أي حولها إلي شئ فريد، محل تأليه غير قابل للنقاش، فالأيقونة صورة يتعبد المؤمن أمامها و لا يتساءل عنها. و نحن نتورط في نوع من الأيقنة المضادة، أو الكفر المضاد بها من دون تثبت تاريخي، فإنكار الهولوكوست ليس أمرا إنسانيا أو علميا. يجب أن تكون إستراتيجيتنا في التعامل مع الظاهرة اليهودية أو الصهيونية و الإسرائيلية، و أي ظاهرة إنسانيه هي استرجاع البعد التاريخي و الإنساني.

س: هل تعتقد أن الهولوكوست هي إحدى الأساطير التي روجتها الصهيونية لابتزاز العالم؟
ج: الإجابة بنعم ولا. إنكار الإبادة هو رد فعل بدائي وبسيط. لقد قدم الصهاينة الهولوكوست باعتبارها حادثة فريدة غير زمنية مطلقة، وقد فعلوا ذلك بأن نزعوها من سياقها التاريخي بحيث ننظر لها من الداخل فقط، من منظور غربي وصهيوني حتى يمكنهم توظيفها. وهذا هو جوهر ما سميته الحقائق الكاذبة. ولذا فالطريقة العلمية الإنسانية الوحيدة أن ننظر لهذه الظاهرة من الداخل ومن الخارج في نفس الوقت، وذلك عن طريق وضعها في كل السياقات الممكنة. وقد وضع الفريد روزنبرج، الزعيم النازي، مفتاح الفهم في يدنا بأن وضع الفكر النازي في سياقه التاريخي الصحيح. ففي أثناء محاكمته في نورمبرج صرح بأن نظرية التفاوت بين الأعراق هي جزء لا يتجزأ من الفكر الغربي. فأشار إلى أنه تعرف لأول مرة على مصطلح "الإنسان الأعلى" (السوبرمان) في كتاب عن الاستعماري الإنجليزي كتشنر، وأن مصطلح "الجنس المتفوق" أو " الجنس السيد" مأخوذ من كتابات العالم الأمريكي الأنثروبولوجي ماديسون جرانت والعالم الفرنسي لابوج، وأن رؤيته العرقية هي نتيجة أربعمائة عام من البحوث العلمية الغربية. ومن المعروف تاريخيا أن هتلر تشرب كثيرا من آرائه من الدراسات الإمبريالية/ العنصرية التي انتشرت في أوربا آنذاك كالميكروب لتبرير المشروع الإمبريالي الغربي. والرؤية الصهيونية الخاصة بالشعب اليهودي باعتباره شعبا مختارا أ و شعبا له حقوق مطلقة تنبع من هذه الرؤية الغربية.

س: هذه نقطة في غاية الأهمية، هل يمكن أن تزيدها إيضاحا؟
ج: لابد أن نضع الإبادة النازية في سياق الحضارة الغربية وهي حضارة إبادية لا تتردد في إزالة الآخر من طريقها (فهو من الناحية العرقية يشغل مكانة أدني، ولذا لا يستحق الحياة). ووقائع الإبادة المختلفة في التاريخ الغربي الحديث عديدة ابتداء من إبادة الهنود الحمر في أمريكا الشمالية (في القرن السادس عشر) حتى فيتنام والبوسنة في القرن العشرين. وهتلر نفسه، كان في أحاديثه الخاصة كثيرا ما كان يبدي إعجابه بالمستوطنين الأمريكيين البيض وطريقة "معالجتهم" لقضية الهنود الحمر. وقد صرح هتلر في إحدى خطبه أن الحرب التي تخوضها ألمانيا ضد عناصر المقاومة في شرقي أوربا لا تختلف كثيرا عن كفاح البيض في أمريكا الشمالية ضد الهنود الحمر. ومن هنا كان هتلر يشير إلى أوربا الشرقية بحسبانها أرضا عذراء" أو "صحراء مهجورة"، تماما كما كان الصهاينة يتحدثون عن "أرض بلا شعب" وعن فلسطين بحسبانها "صحراء ومستنقعات". إن الاتجاه الإبادي وثيق الصلة ببعض الاتجاهات الفكرية الأساسية في الحضارة الغربية مثل العلم المنفصل عن القيمة - الفلسفات المادية والداروينية والنيتشوية - المشيحانية العلمية (أي ادعاء أن العلم قادر على حل المشكلات). المهم في كل هذا أن النظر لظاهرة الإبادة من الداخل ومن الخارج يعمق من رؤيتنا لها ويعطيها بعدا تاريخيا وحضاريا يتجاوز الأحداث المباشرة، ويحررها من التفاصيل والمناسبة المباشرة، كما يجعلنا نراها داخل نمط عام (نموذج) بحيث تتحول من الإبادة النازية لليهود، أي جريمة ارتكبها النازيون، والنازيون وحدهم، ضد اليهود، إلى الإبادة النازية بحسبانها تبديا لنمط عام في الحضارة الغربية الحديثة.

س: بعد أن وضعنا الإبادة النازية ليهود أوروبا في سياقها الحضاري الغربي العريض، ما هي الخطوة التالية؟
ج: لابد من وضعها في سياق أقل عمومية وهو السياق الألماني (تدهور الاقتصاد الألماني- الاتجاهات العامة للثقافة الألمانية آنذاك). إن الإبادة لم تطل اليهود وحدهم وإنما طالت العجزة والأطفال والمعوقين والشيوعيين والغجر وأعضاء النخبة البولندية وأسرى الحرب، بل وأحيانا الجرحى الألمان، أي أنها جزء من موقف نازي عام، ليس موجها ضد اليهود، واليهود وحدهم، وإنما كان موجها ضد الآخر (أي آخر) الذي قد يقف في طريق النازيين. وهذا يسقط احتكار اليهود للإبادة.
يجب التأكيد علي أنه لم تتم إبادة اليهود وحدهم، وإنما تم إبادة الغجر وأعداد كبيرة من البولنديين، وقد فقد الاتحاد السوفييتي ما يقرب من 20 مليونا. نحن نتحدث عن عشرات الملايين الذين أبيدوا، مما يبين وحشية التشكيل الحضاري الألماني النازي الذي هو جزء من التشكيل الحضاري الغربي.
بل يمكن أن يزداد الأمر خصوصية ونضع الإبادة النازية ليهود أوربا في سياق ألماني يهودي: رفض اليهود الاندماجيين للنازية وترحيب الصهاينة بها - التعاون بين الصهاينة والنازيين - الصهيونية في علاقتها النظرية والفعلية مع النازية! وسنكتشف كثيرا من حقائق التعاون بين النازيين والصهاينة مثل معاهدة الهعفراه بين النازيين والصهاينة التي أنقذت الجيب الصهيوني من الهلاك، إذ إنه كان يعاني من توقف الهجرة الاستيطانية ومن تدفق رءوس الأموال، الأمر الذي تكفل به النازيون (نظير أن يقوم الصهاينة بكسر طوق المقاطعة اليهودية للبضائع الألمانية). ولهذا قال أحد المعلقين، إذا كان هرتزل هو ماركس الصهيونية (أي منظرها)، فإن هتلر هو لينينها (أي من حول النظرية إلى واقع سياسي).
إن محاولة النظر لإشكالية الإبادة من الداخل والخارج، والمزج بين الخاص والعام، تغير الرؤية وتضع قضية الإبادة على مستوي تحليلي جديد تماما، يولد أسئلة مختلفة عن تلك التي يطرحها الصهاينة، والتي تحدد الأجندة البحثية والأجوبة التي ستتوصل إليها. فقضية ستة الملايين، وهل هو رقم صحيح أو لا، تصبح قضية ثانوية، إذ إن ثمة نمطا إباديا غربيا عاما موجها ضد الآخر.

س: لماذا الحديث عن الألمان فقط، وعن هذه المذابح بالذات وإهمال كل ما قامت به الحضارة الغربية من مذابح وفظائع؟
ج: الغرب يتهم الألمان وحدهم حتى لا تواجه الحضارة الغربية نفسها وحتى تنسى ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر، أي تنسي طبيعتها الإبادية. التركيز على الألمان هو للهروب من الجرم، وهذا ليس ناتجا عن ضغط يهودي أو صهيوني، وإنما هو جزء من منظومة حضارية كاملة.
س: كيف تصف الفكر التآمرى؟
ج: الفكر التآمرى فكر كسول ولذا يميل إلى التبسيط والاختزال. إنه فكر يفسر كل شئ، و ما يفسر كل شئ بنفس السبب أو الأسباب لا يفسر شيئاً على الإطلاق، فبدلا من أن يكد الباحث ويجتهد ويبحث عن الأسباب وهى بدلا من أن يحاول اكتشاف العلاقات المتشابكة في الواقع وهى عملية فكرية مركبة، فإن أصحاب فكر المؤامرة، لأنهم كسالى يبحثون عن الراحة و الدعة، يواجهون الواقع بصيغ إدراكية بسيطة وبقوالب لفظية وصور نمطية جاهزة فيقولون دائماً "اليهود هم السبب". وقد لاحظت أنه عندما يُكتشف فساد أحد الوزراء عادة ما تسرب إشاعة أن أمه يهودية، كما لو أنه كانت أمهات كل الوزراء تقيات ورعات لأنتهي الفساد في مصر! فكرة الحكومة العالمية اليهودية التي ستسيطر على العالم لا توجد أية قرينة على وجودها. عندما ننظر إلى سلوك يهود أمريكا سنكتشف أن دعمهم للدولة الصهيونية لا يختلف أبدا عن دعم أي أمريكي (لإسرائيل). في الواقع دعم الحكومة الأمريكية لإسرائيل يفوق بمراحل دعم يهود أمريكا لها. فأين هذه الحكومة الخفية؟ وحسب معلوماتي استنادا إلى ما قرأت في جميع المراجع أن هذه "وثيقة" مزورة. وأنا في نهاية الأمر أقول – من منظور إسلامي– هل من المعقول بالنسبة لنا كمسلمين أن نفترض أن سلوك كل يهودي مقنن حسب ما جاء في البروتوكولات؟ أليس في هذا إسقاط للقيمة الأخلاقية والمسئولية الخلقية. وأنا كمسلم من الضروري علي أن أفترض أن كل إنسان مسئول عما يفعله. أما هذا الأسلوب في التفكير، فهو تفكير أعتقد أنه في جوهره علماني، أن نقول إن البشر يعكسون المادة أو يعكسون هذه المؤامرة أو هذا المخطط. هذا إعفاء للإنسان من مسئوليته الخلقية المتمثلة في المقدرة على الاختيار بين الحق والباطل وبين الخير والشر.

س: لماذا كنتم من أكثر رافضي الترويج لـ "بروتوكولات حكماء صهيون"؟
ج: هذه وثيقة مضحكة وأعتقد أن من يروج لها لم يقرأها، الوثيقة تقول "نحن الذين دبرنا الثورة الفرنسية" والمعروف أن الثورة الفرنسية قامت لظروف اجتماعية وسياسية محددة لعب الماسونيون دورا فيها دون شك، لكن الماسونية تختلف من دولة لأخرى. فالماسونية في فرنسا كانت تحمل لواء الفكر الحر الاستناري، إلى جانب أن إحدى نتائج الثورة الفرنسية أنها أدت إلى دمج يهود فرنسا وصهرهم إلى درجة أنهم كانوا يشيرون إلى فرنسا باعتبارها الدولة التي تأكل اليهود.
وتذهب البروتوكولات إلى أن اليهود سوف يتعاونون مع الماسونيين ثم يقتلوهم بعد ذلك وأنهم سيسيطرون على جميع الحكومات حتى الحكومات المعارضة لهم. واليهود هم الذين أدوا إلى ظهور الرأسمالية بكل بشاعتها والبلشفية بكل إرهابها وهم الذين أسقطوا الدولة العثمانية (من خلال يهود الدونمة) وهم الآن يحركون اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية حتى يرغمون هذه الدولة العظمى (المسكينة التي لا حول لها ولا قوة والتي تود أن تعيش في سلام داخل حدودها!) على تحقيق مآربهم في السيطرة على العالم!
والبروتوكولات تروج للمقولات الصهيونية الأساسية فهي تتحدث عن اليهود بشكل عام، وعن الشعب اليهودي ككتلة متماسكة تتحرك في إطار تاريخ يهودي واحد، ولذا فهم يتحدثون عن "الشعب اليهودي عبر التاريخ" والحديث عن الوحدة اليهودية هو جوهر الصهيونية (ومعاداة السامية). كل هذا بدلا من رؤية أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم جزءا من تواريخ بلادهم وحضاراتها. تتحدث البروتوكولات عن أن اليهود هم مصدر كل الشرور لأن الشخصية اليهودية شخصية شريرة بطبيعتها. ولا يدرك التآمريون أنهم بذلك يسقطون في مقولة تحليلية صهيونية ومعادية للسامية في ذات الوقت. فالحديث الصهيوني عن العبقرية اليهودية لا يختلف عن الحديث العنصري عن الجريمة اليهودية، فكلاهما يرى أن العبقرية والإجرام متأصلان في الشخصية اليهودية. ورغم التعارض الظاهري بين المفهومين إلا أنها في واقع الأمر ينطلقان من نفس مفهوم الوحدة اليهودية. ومن الواضح أن يهودية اليهودي ليست مسئولة عن إجرامه أو عبقريته لأنه لو كانت يهودية العبقري اليهودي مسئولة عن عبقريته، فيهودية المجرم اليهودي مسئولة عن إجرامه، وكلاهما مناف للحقيقة! فأينشتاين لم يظهر بين يهود اليمن أو أفغانستان، ولكنه ظهر داخل الحضارة الغربية، ونفس الشيء ينطبق على المجرمين فلو أن يهودية المجرم اليهودي هي المسئولة عن إجرامه لسمعنا عن المافيا اليهودية في اليمن، بينما نحن لا نسمع عن المافيا اليهودية إلا في الولايات المتحدة، مما يعني أن ما يحدد عبقرية اليهودي أو إجرامه الظروف الحضارية والاجتماعية السائدة في مجتمعه، وهو في هذا لا يختلف البتة عن بقية البشر.
البروتوكولات تتسم بنبرة طفولية ساذجة. فكبير الحاخامات الذي يقرأ البروتوكولات على الحاخامات. يقول: "نحن دعاة الشر". ولكن من ذا الذي يكون شريراً ويقول أنا شرير؟ ثم إذا كان شريرا فلم يخبر باقي الحاخامات بهذا وهم يعلمون هذا أساسا؟ ثم هناك نقطة مهمة لم كتبت البروتوكولات بالروسية وحاخامات روسيا كانوا لا يعرفون الروسية أساسا؟ وكان لدى الدولة الروسية القيصرية برنامج اسمه "الترويس" خاص بتعليم أعضاء الجماعة اليهودية اللغة الروسية، حتى يتم دمجهم في المجتمع الروسي. فغالبيتهم كانوا يتحدثون اليديشية (وهي رطانة ألمانية) بالإضافة إلى أنه إذا كانوا ينتوون كتابة وثيقة سرية فلم لا يكتبونها باللغة "الآرامية" التي كان يجيدها معظم الحاخامات، أو حتى اليديشية التي كانت تجهلها البيروقراطية الروسية. كما كان يمكن كتابتها بطريقة الجماتريا التي تستخدم الحروف ومقابلها العددي. ويلاحظ أن البروتوكولات ليس فيها أي إشارة ذات طابع يهودي، مما يدل على أن كاتبها لا يعرف شيئا عن اليهودية. وهناك إشارة للإله الهندوكي فيشنو!
البروتوكولات تفسير تآمري مريح، والتفسير التآمري مريح لأنه يفسر كل شيء، أنا شخصيا عندما أفقد نظارتي في المنزل أقول لزوجتي مازحا إن اليهود هم الذين أخذوها حتى أريح نفسي، ولا تتهمني هي بالإهمال! والتفسير المريح أسوأ من الجهل، فعلى الأقل عندما تجهل شيئا فأنت تعرف أنك لا تعرف، أما التفسيرات الاختزالية التآمرية فهي تخلق وهم المعرفة.

س: إذن فأنت ترى أن "بروتوكولات حكماء صهيون" وثيقة مزيفة، بعد أن استقر في ذهن القارئ العربي عموماً أنها وثيقة حقيقية. حتي ولو لم يكن لها قيمة تفسيرية؟، ألا تري أن ما تقدمه هو محاولة لتقديم رأي موضوعي حول قضية خلافية، دون اعتبار للجوانب العملية، ألا يمكن القول أن للبرتوكولات لها قيمة تعبوية؟
ج: لقد قمت بدراسة هذه الوثيقة بعد أن وضعتها في سياقها التاريخي المحدد. وقد فعلت ذلك التزاماً مني بالقيم العلمية، وكذلك بالقيم الإسلامية؛ فالإنسان يجب أن يبحث وأن يكدَّ ليصل إلى الحقيقة. والمسلمُ الحقُّ لا يمكنه أن يكيل التهم لأحد دون أساس. كَما أن المسلم لا يؤمن بأن الهُوية الدينية، يهوديةً كانت أم مسيحيةً أم إسلاميةً، متوارثةٌ. فالهُوية المتوارثة هذه مسألة مادية عنصرية، حتمية، تقع في إطار الحتميات المادية. كما أنني أطرح رأيي هذا في البروتوكولات كمحاولة لتحرير العقل العربي من التخاذل والهزيمة، والتهويل من شأن اليهود حتى لا ندخل الحروب، فمن لا يدخل الحروب لا ينكسر ولا ينتصر، فهو "شيء" بين الأشياء!

و البروتوكولات –مع الأسف-  تحولت في العقل العربي إلى ما يشبه "الصِّيغَة السحرية" التي تفسِّر كل شيء، ويؤكد كل من يشير إليها أن ما جاء فيها "قد حدث بالفعل"، وهذا أكبر دليل – في تصورهم – على مقدرتها التفسيرية. وقد أدمن العرب (وغيرُهم) تعاطيها، كما يتم تعاطي الأفيون، لاستعادة شيء من التوازن أمام الهزائم المتلاحقة التي حاقت بنا نحن العرب! فكيف نفسِّر هذه الهزائم إلا بتأكيد أن عدونا شيطان رجيم يمتلك قوى شيطانية عجائبية، وأنه قادر – والعياذُ بالله – على كل شيء؟! ولا يتورع عن فعل أي شيء ولكنك أمام الشيطان لا تملك إلا أن تستعيذ بالله ثم تفر، أَو – على الأسوأ –، تستلم له.
   إن الخطاب التآمرى خطاب انهزامي، وهذا ما حدث لنخبتنا الحاكمة التي شعرت بالهزيمة من الشيطان الذي لا يقهر فوقعِّت وثائق الاستسلام وهى تحاول الآن أن تقنع المقاومة أن تحذو حذوها. إن شيطنة العدو (أي تحويله إلى "ظاهرة شيطانية") يدخلنا في طريق الهزيمة المظلم، أما لو افترضنا أنه بشر، فإنه يمكننا التعامل معه: يمكن أن نحاوره بشكل عقلاني إن كان ذلك ممكنا، أو نطلق عليه النار إن اضطرتك الظروف إلى ذلك! والعقل العربي يفضل "شَيْطَنة اليهود"  حتى لا يتعامل معهم، إن سِلْماً أو حرباً. وبالنسبة لكثير من "الباحثين" أصبح الاقتباس من البروتوكولات هو جَوهر التأليف لديهم، فمثل هذا الاقتباس يكفيهم مؤونةَ البحث وعناءَ الإبداع.

س: ما سر شيوع البروتوكولات؟
ج: البروتوكولات كانت شائعة في العالم الغربي في أواخر القرن التاسع عشر. وقد كتبها شخص مهووس اسمه سيرجى نيلوس يقال إنه كان عميلا للبوليس السري الروسي، الذي ساهم في ترويج هذا الكتاب في روسيا القيصرية، التي كانت تعاني من الاضطرابات الاجتماعية بسبب تعثر الحديث فيها. وكانت الحركة الثورية آخذة في التصاعد بسبب تفاقم أزمة الحكم القيصري، وكانت العناصر اليهودية موجودة بشكل ملحوظ (وعلى سبيل المثال 30% من كل المساجين السياسيين في ذلك الوقت كانوا يهودا). وكتاب مثل البروتوكولات يعلق كل شيء على شماعة اليهود الأمر الذي كان يفيد الحكم القيصري المستغل الباطش. ومن الملحوظ أن البروتوكولات تمجد الحكم الشمولي والإقطاعي وتحذر من الديمقراطية!
وانتشرت البروتوكولات في أوروبا الغربية التي كانت تعاني من أزمة اقتصادية ونسبة بطالة عالية، وكانت الهجرة اليهودية من شرق أوروبا تتدفق على أوروبا الغربية، وأعضاء هذه الهجرة لم يكن عندهم كفاءات تؤهلهم إلى الانخراط في المجتمعات الحديثة في غرب أوروبا، ولذا انخرطوا في وظائف هامشية مثل السمسرة والدعارة والشحاذة، كما كانوا يهددون الطبقة العاملة لأنهم كانوا يقبلون أي أجر يعرض عليهم. في هذا الإطار تأتي البروتوكولات لتفسر كل شيء.
إلى جانب عنصر مهم آخر ساعد على انتشار البروتوكولات وهو وجود اليهود في الأحزاب الشيوعية والرأسمالية في ذات الوقت وهو ما أعطى إيحاء بأن ذلك الانتشار يعني توزيعا للأدوار بين اليهود من أجل الهيمنة على العالم. الفكر التآمري دائما ما يجد بعض الأحداث في الواقع تساند رؤيته، ولكن هذه الأحداث تفسر الجزء ولا تفسر الكل.
أما سبب شيوعها في العالم العربي فيرتبط بالهزيمة وبالتراجع الذي حدث. فالعقلية التآمرية أو لنقل الفكر التبسيطي قادر على تفسير كل شيء بحيث إنه عندما يحدث لنا أي شيء: هزيمة عسكرية – فساد أخلاقي- انتشار الأمراض يصبح السبب البروتوكولات. عندما يتهم شخص بالرشوة يقفز التبرير: من المؤكد أن قريبه يهودي. المسألة بالنسبة للتفكير البروتوكولي واضحة جدا ولكنه وضوح ناجم عن الكسل الفكري وتستند إلى عدم فهم للواقع وبالتالي فهو مضلل. ولكنه تفسير جذاب لأنه يفسر كل شيء ببساطة.

س: تحدثت أيضا عما سميته مرض "النصوصية" كأحد أسباب انتشار البروتوكولات؟
ج: النصوصية هي محاولة تفسير سلوك اليهود وأن تقرأ الواقع الاسرائيلى في ضوء ما جاء في العهد القديم والكتب المقدسة اليهودية الأخرى (التلمود - كتب القبالاه - وبعض الجهابذة يضمون لذلك بروتوكولات حكماء صهيون بحسبانه كتابا مقدسا باطنيا عند اليهود). وتنطلق محاولة التفسير من تصور مفاده أن سلوك اليهودي هو تعبير عضوي مباشر عن بعض نصوص العهد القديم والتلمود والبروتوكولات، وأن ما جاء في هذه الكتب يتحقق بحذافيره. وكأن واقع الصهاينة ويهود العصر الحديث سواء أكانوا في أمريكا أم جنوب أفريقيا أم إثيوبيا لا يختلف عن واقع العبرانيين القدامى أو يهود الصين في القرن الخامس عشر، وكأن ما ورد في العهد القديم والتلمود إن هو إلا مخطط يهودي قديم، يعبر عن جوهر يهودي ثابت، وأن من يريد أن يفهم اليهود والصهيونية ويتصدى لهما عليه ألا يضيع وقته في قراءة الواقع وتفاصيله، وإنما عليه أن يذهب إلى أحد هذه الكتب (خصوصا البروتوكولات، فهي قصيرة وواضحة وسهلة وتأخذ شكل مخطط واضح) وسيجد فيها تفسيرا لكل شيء بل تنبؤا بكل شيء ونبوءات توضح ماذا سيحدث في المستقبل.

ومثل هذا النموذج الاختزالي لا يتنبه إلى أن علاقة الإنسان بالكتب المقدسة التي يؤمن بها علاقة مركبة إلى أقصى حد، فهي ليست علاقة سبب ونتيجة. كما أن مسألة التفسير مسألة حيوية في تحديد هذه العلاقة، فيمكن أن يكون التفسير حرفيا مغلقا، ويمكن أن يكون مجازيا منفتحا. فتفسير الصهاينة لنص ما يختلف عن تفسير اليهود الإصلاحيين له. وأخيرا لا يدرك هؤلاء التآمريون أن غالبية اليهود في العصر الحديث لا تؤمن بهذه الكتب أساسا ولا تقرؤها.
وقد استشرى مرض النصوصية وانتقل من اقتباس العهد القديم إلى اقتباس أي تصريح صهيوني وتصديقه والإشارة إليه بشكل يعده جزءا من المخطط القديم ومن الواقع الذي يتشكل في الحاضر، أي محاولة لتجاوز هذه الادعاءات بالدراسة والتأمل. فعلى سبيل المثال، حينما صرح أحد الصهاينة عام 1983 بأنه سيتم توطين مليون يهودي في الضفة الغربية قبل نهاية القرن الحالي، ارتجف الإعلام العربي هذه التصريحات ونشرها بموضوعية متلقية بلهاء، دون أن يخضعوها للاختبار، ودون أن يسألوا بعض الأسئلة البدهية: من أين سيأتي هذا الصهيوني بكل هؤلاء المستوطنين؟ وبحلول عام 1988 كان عدد المستوطنين لا يزال لا يتجاوز 130 ألفا، وأدلى المسئول الصهيوني نفسه بتصريح مليوني آخر، ومرة أخرى ارتجف الإعلام العربي ونشر تصريحه ببغائية مذهلة. ولعل هجرة اليهود السوفيت من أهم الشواهد على هذه ظاهرة. إذ كانت الصحف العربية تنشر "توقعات" الصهاينة بهجرة الملايين، وكأنها حقائق، في الوقت الذي كان عدد يهود الاتحاد السوفيتي لا يتجاوز مليونا ونصف المليون!
المطلوب هو أن نخضع مقولات الصهاينة للتمحيص والتساؤل، فلا نهون ولا نهول ولا نكتفي بالتلقي السلبي والرصد الآلي. فنبين أن بعض هذه التوقعات الصهيونية الوردية قد أطلق حتى يمكن لإسرائيل الحصول على بلايين الدولارات من الولايات المتحدة، وأن كثيرا من المهاجرين "اليهود" ليسوا بيهود، بل مواطنين عاديين أرادوا أن يجدوا طريقة للخروج من الاتحاد السوفيتي.

س: ما هو في تصورك مستقبل المشروع الصهيوني؟
كل الأنظمة السياسية في العالم تواجه إشكالية الشرعية السياسية فالنظم العربية على سبيل المثال تواجه إشكالية الانتقال من نظم شمولية إلى نظم ديموقراطية منفتحة، وهذه إشكالية خاصة بالشرعية السياسية ولكنها لا تواجه شرعية الوجود. أما الكيانات الاستيطانية فتواجه مشكلة الشرعية السياسية تجاه المستوطنين الصهاينة أما تجاه الفلسطينيين فهي تواجه شرعية أخرى وهي شرعية الوجود، أي حقهم ومقدرتهم على البقاء في الأرض التي احتلوها. والانتفاضة تطرح هذا وبحدة، وهي إحدى إسهامات الانتفاضة الكبرى.

استولى الصهاينة على الأرض الفلسطينية وطردوا أهلها، ولكنهم لسوء حظهم لم يبيدوهم، والتاريخ أثبت أنه لا يمكن لأي جيب استيطاني إحلالي أن يستمر دون إبادة السكان الأصليين، أي أن مشكلة شرعية الوجود لاتزال مطروحة دون حل، تقف اللاءات الصهيونية الأربعة (لا فك للمستوطنات- ولا انسحاب لحدود 67- لا تقسيم للقدس- لا عودة للفلسطينيين) حائلا دون حلها وتتصاعد الانتفاضة يوما بعد يوم ويدخل الجميع في طريق مسدود لا يحسمه سوى الحوار المسلح. ويتصاعد اليأس الإسرائيلي الذي يتضح في المرحلة الشارونية 
أي محاولة حسم الصراع عن طريق البطش وهم يعلمون مسبقاً أنه لم يحدث في التاريخ إن هزمت حركة تحرير شعبية.  بدليل تصرفاتهم العبثية التي يعلمون مسبقا أنها لن تجرى قتيلا اغتيال الشيخ ياسين وعبد العزيز الرنتيسي إقامة سور الفصل العازل الانسحاب من غزة ثم دخولها عدة مرات كل هذه الأفعال لم تضف لهم إلا المزيد من عدم الأمان والمزيد من العنف لذا نجد موضوع نهاية إسرائيل مطروح على الوجدان الصهيوني منذ عام 48، أي منذ البداية. وهو ما أسميه "هاجس النهاية".
س: تتحدث عن "نهاية إسرائيل"، فهل يمكن أن تبين لنا ماذا تعني علي وجه الدقة؟
ج: حينما أتحدث عن نهاية إسرائيل ففي ذهني ما حدث في جنوب أفريقيا، إذ تم القضاء على النظام العنصري من خلال المقاومة المسلحة ولم يتبع ذلك مذابح جماعية أو إبادة، وحل سلام قائم على العدل. فقد قاوم الأفارقة وجاهدوا وبعد سنوات من الحوار المسلح بدأت الأقلية البيضاء تدرك أنه لا يوجد حل أمني عسكري، فاستسلم النظام العنصري فدخلوا في حوار نقدي مع المقاومة بقيادة مانديلا وأنتهي الأمر بتسليمه مقاليد الحكم، على الرغم من أن النظام العنصري استمر ما يقرب من أربعة قرون، ولم يكن يعتمد على الخارج (كما هو الحال مع الدولة الصهيونية). وبعد سقوط النظام العنصري ظهر نظام جديد أستوعب المستوطنين البيض الذين تحولوا إلى مواطنين في دولة متعددة الأديان والأعراق والإثنيات وفتح أمام الجميع الفرص دون تفرقة على أساس اللون أو الدين. وفي الانتخابات الأخيرة في جنوب أفريقيا كانت الأحزاب السوداء تحاول الحصول على أصوات المواطنين البيض والعكس. وهذا يعني أنه ظهرت مصالح ورؤى تتجاوز حواجز اللون. بل أن وفد الجنوب الأفريقي الذي ذهب إلى المونديال كان يضم كلا من دي كلارك الرئيس السابق للنظام العنصري ومانديلا زعيم المقومة والرئيس السابق للمجتمع الجديد.
وأتصور أن نفس المتتالية يمكن أن تتحقق في فلسطين المحتلة، فمن خلال تصاعد الحوار المسلح سيصبح الجيب للصهيوني مكلفا بالنسبة للدولة الراعية وسينال الإرهاق من المستوطنين الصهاينة وسيدركون أن الحل الأمني العسكري لا طائل من ورائه وأنهم لا مجال أمامهم إلا أن يتخلوا عن عنصريتهم وعزلتهم الصهيونية وعن يهوديتهم المزعومة (فاليهودية شيء والصهيونية شيء آخر). فتبدأ الأصوات تتعالى داخل الكيان الصهيوني ويبدأ المستوطنون يبحثون عن متتالية جديدة تضمن لهم ولأولادهم البقاء. وتبدأ الدولة الراعية في إعادة حساباتها. ولذا علينا أن نقاوم وأن تستمر المقاومة وأن نرسل في ذات الوقت برسائل للمستوطنين، خاصة اليهود الشرقيين، أن الحل العربي لمسألة الاحتلال والاستيطان الصهيوني ليس الإبادة، كما تزعم القيادة الصهيونية، وإنما فك الإطار العنصري وإنشاء مجتمع جديد على أسس إنسانية ديمقراطية. وهذا يعني أن الدولة الصهيونية التي تدعي أنها ليست دولة لمواطنيها الذين يعيشون داخلها وإنما دولة لكل يهود العالم الذين يعيشون خارجها عليها أن تغير رؤيتها وتنظر لنفسها باعتبارها دولة توجد في الشرق الأوسط وأنها جزء حضاري منه، وأنها دولة لمواطنيها وأن تكف عن الحديث عن حق العودة لليهود بعد ثلاثة آلاف عام (والذين لا تود غالبيتهم في العودة) وتنكر هذا الحق على الفلسطينيين الذين طردوا منها منذ عدة سنوات (ويقفون يقرعون بوابات الكيان الصهيوني)، وأن تكف عن الحديث عن الأزمة الديموجرافية، أي الخوف من أن يصبح العرب هم الأغلبية في الكيان الصهيوني وعن الترانسفير كحل لأزمتها الديمواجرافية هذه، وعن التهييج من أجل هجرة اليهود الروس ودفع الرشا لهم حتى يتركوا أوطانهم ويستوطنوا فيها، وأن تتوقف عن تهويد الهنود الحمر في بيرو ثم تنقلهم إلى المستوطنات في الضفة الغربية وعن بناء السور العنصري، وعن الحديث عن أن القدس هي عاصمة إسرائيل الأزلية. هذه الرؤية الجديدة يجب أن تترجم نفسها إلى خطوات إجرائية محددة، إذ يجب أن تعلن هذه الدولة إنها دولة لكل مواطنيها وحسب وليس لما يسمى بالشعب اليهودي وانطلاقا من هذا تلغي قانون العودة العنصري والقوانين العنصرية الأخرى مثل دستور الصندوق القومي اليهودي الذي يدعم الجيب الاستيطاني ويعمق من عنصريته والذي تحرم قوانينه علي غير اليهود أن يمتلكوا أرضا ملك الشعب اليهودي أو العمل فيها، أي أنها تمنع العرب من مواطني الدولة الصهيونية أن يمتلكوا أرضا تمتلكها الوكالة اليهودية (حوالي 90% من أراضي فلسطين المحتلة). ومثل هذه القوانين العنصرية تجعل من مقولة يهودي مقولة قانونية، أي أن العنصرية الصهيونية جزء من البناء القانوني للدولة الصهيونية. وهذه هي إحدى سمات الجيوب الاستيطانية الإحلالية. إن التمييز العنصري ليس مجرد فعل يقوم به العنصريون المتعصبون وإنما هو جزء من البناء القانوني يعاقب كل من يتجاوزه أو يخرقه. وعلى هذه الدولة أن تتوجه لقضايا الحل النهائي فتفك المستوطنات في الضفة الغربية وتقبل بحق العودة للفلسطينيين وترجع الأرض التي سلبت من أصحابها لهم. هذه هي الطريقة الوحيدة لتحرير فلسطين وأيضا تحرير المستوطنين الإسرائيليين، لأن المنظومة العنصرية تفرض عليهم سجنا من نوع ما. إذا أنجز ذلك فإنه يعني سقوط النظام العنصري وقيام مجتمع جديد مبني على العدل. أعتقد أنه يمكن  حينذاك أن نعلن أننا على استعداد للعيش في سلام معهم وسيكون سلاماً دائما وعادلا، دائما لأنه عادل، لأن ما ينجز الآن هو سلام مبني على موازين القوى، مما يعني أنه مجرد هدنة أو تهدئة يلتقط فيها كل طرف أنفاسه ليحارب مرة أخرى لتعديل موازين القوى لصالحه.
ويجب أن نطمئن المستوطنين الصهاينة أن ما يطلبه العرب هو إعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي أي القضاء على استيطانية وعنصرية الدولة الصهيونية وليس القيام بمجازر أو مذابح، وأن من يود منهم سيصبح مواطنا في المجتمع الجديد (متعدد الديانات والأعراق والإثنيات) وأن المستوطنين الصهاينة الذين ولدوا على أرض فلسطين رغم أن آباءهم قد جاءوا كمحتلين ومغتصبين. ليس لهم وطنا آخر، ويجب أن نتعامل معهم من هذا المنطلق. واستيعابهم ليس مشكلة على الإطلاق، فالعالم العربي يتميز بوجود أعداد كبيرة من الأقليات الدينية والإثنية، وقد تعايشنا كلنا في هذه المنطقة بحد أدنى من الاحتكاك والتوتر. كما أن الدولة الصهيونية تستوعب ألاف المهاجرين، مما يعني أنه بوسع الدولة الجديدة أن تكون قادرة على استيعاب كل الفلسطينيين الراغبين في العودة وكل الإسرائيليين الراغبين في البقاء.
وقد يكون من المفيد الإشارة في هذا السياق، إلى أن الشيخ رشيد رضا دخل في مفاوضات مع الجانب الصهيوني في مطلع القرن المنصرم. فأشار إلى أنه مدرك تماما لأهمية رؤوس الأموال والخبرات التي سيأتي بها المهاجرون اليهود، وقال إن العرب يمكن أن يرحبوا بها وبهم، على شرط أنه حين تستقل فلسطين وتصبح دولة ذات سيادة أن تكون الدولة الجديدة دولة ديموقراطية، دولة مواطنيها، لكل مواطن صوت (وهذا هو الحل جنوب الأفريقي)، ولكن حاييم وايزمان، أول رئيس للدولة الصهيونية، والذي كان طرف في هذه المفاوضات، عاد إلى منزله وكتبت في مذكراته أن هذا هو سلام المقابر، وهو بالفعل سلام المقابر لأي تصور عنصري للدولة الجديدة فالنهج الديموقراطي الذي يضمن المساواة بين الجمع يؤدي إلى إسقاط الإطار الصهيوني العنصري والإصرار على أن تكون الدولة الجديدة دولة يهودية خالصة، دولة لكل يهود العالم.
س: من قراءتك المجتمع الإسرائيلي من الداخل، هل ترى أصواتا إسرائيلية يمكنها تبني صيغة مثل صيغة جنوب أفريقيا؟
- اليسار الصهيوني لم يصل بعد إلى هذه القناعة. أعتقد أن السبب هو أن الدول العربية لا تساند الانتفاضة بما فيه الكفاية. ولو تم ذلك فإن الرسالة سوف تصل لهم كما حدث في جنوب أفريقيا. العالم الغربي ظل يساند جنوب أفريقيا حتى السبعينيات ومع تصاعد المقاومة تخلى عن النظام العنصري وبدأ في مقاطعته. وأتصور أن الدول العربية يمكن أن تقوم بشيء مماثل.

س: لكن أوضاع الدول العربية أقرب إلى "الشرذمة" التي لا تساعد على تحقيق هذا الهدف؟
ج: فعلا ومن هنا عظمة الانتفاضة التي استمرت لأن الجميع كان يتوقع نهايتها بعد عدة شهور أو عام وتتحول إلى ذكرى حزينة يحتفلون بها احتفالات رسمية فخمة تلقى فيها الخطب والمراثي. لكن خاب ظنهم والحمد لله.


سيرة ذاتية
ـ عبد الوهاب المسيري مواليد دمنهور بمصر العربية عام 1938 .
ـ حاصل على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي والأمريكي المقارن من الولايات المتحدة الأمريكية .
ـ رئيس وحدة الفكر الصهيوني وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.
ـ مستشار ثقافي للوفد الدائم بجامعة الدول العربية في هيئة الأمم المتحدة. 
ـ أستاذ الأدب الإنكليزي والمقارن بجامعات عين شمس والملك سعود والكويت.
ـ مستشار أكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. 
ـ عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بواشنطن.
ـ له مؤلفات متميزة كثيرة بالعربية والإنكليزية تتناول بحوثا عن اليهودية والصهيونية وتاريخهما وفكرهما وأزماتهما وإشكاليات العنف والتحيز القائمة فيهما. 

أجرى الحوار: وحيد تاجا

المصدر:" الموقف الأدبي " عدد نيسان 2007

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...