حوارات غير منشورة مع يوسف الخال

22-04-2007

حوارات غير منشورة مع يوسف الخال

عشرون سنة على رحيل الشاعر يوسف الخال تصادف نصف قرن على صدور العدد الأول من مجلة «شعر»، التي أطلقها من بيروت شاعر «البئر المهجورة»، مع الشعراء: أدونيس، أنسي الحاج، محمد الماغوط، فؤاد رفقة، شوقي أبو شقرا، عصام محفوظ وسواهم. وكان الهاجس والطموح تأسيس روح شعرية حداثية، تساهم في بناء نهضة فكرية عربية جديدة.

ولم يكن سراً حال التناغم مع روح الغرب، توخيّاً لنص شعري إنساني كوكبي، خارج من التشرنق المحلي، عابر للجغرافيات، وصولاً الى عالمية انسانية ما، عبر الحواجز الثقافية، والبيئات اللغوية، وسائر المحظورات... فكانت ولادة القصيدة الحديثة بما لها وما عليها...

نقرأ في «مانيغستو» يوسف الخال للعدد الأول من «شعر»: «... الدعوة الملحة الى إبداع أشكال جديدة، مستمدة من عبقرية اللغة العربية، ومستفيدة الى أقصى حد، من تجارب العالم المتحضّر، دونما حاجة لأي صراع مع القديم، لأن الحياة بدأت تتجدد فينا وتجددنا...».

تعمّد يوسف الخال أن تكون مجلة «شعر»، منبراً عربياً، احتضنت صفحاتها أعمالاً لعشرات الشعراء العرب – الرواد. ففي العدد الأول قرأنا قصيدة «حكاية» للشاعر العراقي سعدي يوسف، وقصيدة «خصام» للشاعرة نازك الملائكة، وقصائد لبدر شاكر السيّاب وبلند الحيدري وفدوى طوقان وسواهم.

وعلى رغم الدعوة الى الحداثة في الشكل واللغة، لم تنقطع «شعر» تماماً عن التراث الشعري العربي وخصوصاً في أعدادها الاولى. واهتمت مجلة «شعر» بالأدب العالمي، فرفدت ترجمات من ينابيع الشعر العالمي (فرنسا – إسبانيا – روسيا – انكلترا – ألمانيا – إيران...) كموقف شمولي إنساني والتزام فكري بتناغم تجارب شعراء الأرض.

مجلة «شعر» كانت محاولة جريئة رائدة، جادة وعميقة لعصرنة الفكر العربي وتحديث الشعر وكسر النمطية والشكلانية، وصولاً الى آفاق وأمداء أخرى، ويبقى التاريخ فيصلاً.

ولد يوسف الخال ليلة الميلاد سنة 1917 في «عمار الحصن» إحدى قرى وادي النصارى (سورية)، المحيط بالقلعة التي بناها الصليبيون، وصارت تُعرف بحصن الأكراد. والده القس البروتستانتي عبدالله الخال. ثم نزحت العائلة الى طرابلس (لبنان) حيث تعلّم في المدرسة الأميركية للصبيان، وأنهى المراحل الابتدائية والثانوية... ومن الكلية الأميركية في حلب، الى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث درس الفلسفة على المفكر شارل مالك.

تسلّم رئاسة تحرير «صوت المرأة» سنة 1947 من الصحافي الأديب رشدي المعلوف وسلّمها بعد عام الى الأديب – الشاعر فؤاد سليمان صاحب «درب القمر». استقر في الولايات المتحدة (نيويورك) ضمن البعثة اللبنانية الى الأمم المتحدة برئاسة الدكتور شارل مالك. وفي أميركا كانت له علاقات متينة مع أدباء وكتّاب وشعراء أميركيين، حيث اطَّلع بعمق على التجربة الأدبية من خلال مجلة «Poetry» (بواتري) والشاعرين إزرا باوند وماكليش وسواهما... ويروي الكاتب يوسف سلامة أحداثاً طريفة عن تلك الفترة حيث كان طالباً في جامعة جورجتاون، وكان يأتي اليه يوسف الخال مع شارل مالك وهشام شرابي، يجتمعون في شقته الصغيرة، ويتحدثون في الفلسفة والسياسة (1958). كان يوسف شديد الإعجاب بالشعر الجديد في الولايات المتحدة، طامحاً الى نقل التجربة الى الشعر العربي، وكانت بدايات أحلام بمجلة «شعر» والحداثة...

في إحدى جلساتنا الكثيرة في صومعته في بلدة غزير (شمال بيروت)، سألته عن أثر رحلته الأميركية في فكره الأدبي فقال: «في العام 1948، زرت الولايات المتحدة، وبقيت هناك فترة، وكانت لي لقاءات كثيرة مع شعراء أميركا المحدثين. اتصلت بروبرت لويل وعزرا باوند وبقينا على تواصل بعد عودتي الى لبنان. هذه اللقاءات مع أدباء أميركا أظهرت لي مدى حاجتنا العميقة والملحة الى تجديد شعرنا العربي، وتأكدت بأننا متأخرون مئة عام على الأقل عن الشعر الأميركي.

ويوم عدت الى لبنان، بدأت أنشر أفكاري التجديدية في تلك الحقبة، كانت تباشير الانتفاضة على القديم بدأت تلوح في بعض الأوساط الفكرية العربية وفي العراق خصوصاً، بتأثير من كتابات الناقد – الروائي جبرا إبراهيم جبرا والمستشرق الإنكليزي دزموند ستيوارت، وكانا يدرّسان الأدب في جامعة بغداد.

ثم بدأت أسماء شعرية بالظهور، شكّلت في ما بعد الرعيل الريادي الشعري (بدر شاكر السيّاب – نازك الملائكة – عبدالوهاب البياتي – بلند الحيدري والجيل اللاحق: سعدي يوسف – يوسف الصائغ – سركون بولص...). ومن مصر أطلّ لويس عوض الذي نشر مطلع الخمسينات من القرن الفائت مجموعته «بلوتلاند»، التي تضمنت بذوراً أساسية لحركة حديثة في الشعر، بتأثير من دراسته في جامعة كامبردج. ضمن هذا المناخ خطرت في بالي أيضاً وأيضاً، مجلة «شعر». وبدأت الاتصالات بالمنارات الأدبية في العالم العربي وكانت بداية حركة الحداثة الشعرية...».

قرأت يوسف الخال في «الحرية» و «البئر المهجورة» و «قصائد في الأربعين» و «الأرض الخراب» (للشاعر ت. س. إليوت) وترجمة «النبي» لجبران قبل أن ألتقيه ذات أمسية في بيته في غزير تحت شجرة الليمون، وكانت علاقة صداقة امتدت من العام 1977 حتى رحيله في آذار (مارس) من العام 1987.

عقد من الزمن، لقاءات، أماسٍ، حلقات شعر وفكر ونقاشات – بعضها حاد – ووجوه كثيرة: شعراء، مسرحيون، موسيقيون، مخرجون، إعلاميون، وفنانون، وكان يوسف، يستمع، يتنحنح ويقول! وكان الزمن غبار حرب وتفجيرات، وأحقاداً ورماداً ودماء وتهجيراً واحتلالاً اسرائيلياً حتى بيروت، واستمر الكلام على الثقافة وهمومها محور لقاءات «الجمعة» في بيت يوسف الخال...

حوارات كثيرة مسجلة أجريتها مع يوسف – بعضها غير مناسب للنشر – تناولت آراءه في الفكر والشعر والثقافة والسياسة والانتماء والحياة والموت والمرأة، أكتبها بأمانة وعفوية كما هي مسجلة بصوت يوسف الخال، تبقى مرجعاً موثقاً لآراء الرجل...

-مساء السبت 11 نيسان (ابريل) 1981

> أين موقعك اليوم في زمن هذه الحرب؟

- أنا قاعد في بيتي، لكنني لا أتفرج. حبّذا لو أن كل لبناني يقعد في بيته ولا يتفرّج. كل واحد منا اليوم محارب، فالمسألة لا تحتمل الحياد! أنا موقعي مع لبنان.

> تعال نحلم معاً... لنفترض أنك بقدرة ما أصبحت مسؤولاً عن صيرورة لبنان. أي لبنان تريد؟

- سؤال مهم جداً، يذكرني بيوم تخرجي من الجامعة الأميركية في بيروت (1944) من دائرة الفلسفة، بإدارة المفكر شارل مالك. يومها سألني حرفياً هذا السؤال! جوابي اليوم – ومع تغيّر الظروف – مختلف تماماً. أجيب: واقع الحال أن لبنان هو جزء من المنطقة العربية، لا ينفصل عنها أبداً، نحن جزء من هذه المنطقة، عندنا كل التراث والثقافة العربية، وأنا أفتخر بهذا التراث، لأنه من زمن امرئ القيس الى اليوم، ثمة حضور عربي مؤثر وفاعل. لكن لبّ الموضوع – في نظري – أن لبنان وجد ليحافظ على قيم معينة، لا يمكن أن تنبثق إلا عن المسيحية، من دون أي تقليل من قيم الديانات الأخرى!

وأنا أريد أن نحافظ على هذه القيم. لذلك كان لبنان. هناك واجب لوجود لبنان.

> هل معنى ذلك أن للبنان رسالة حضارية معينة؟

- لا أسميها رسالة. أقول إن ثمة مسيحيين عرباً، عندهم نهج في الحياة يختلف عن سواهم، ولهم الحق أن يكون لهم مجتمع يعبّرون من خلاله عن وجودهم، بحرية كاملة وبمحبة مطلقة وتعايش وتعاون مع الجميع.

> هل تريد تقسيم لبنان، مثلاً؟

- قطعاً لا. لأن لبنان الذي أتكلم عنه يكون قد خسر كثيراً من دوره ومن معنى وجوده كأرض ومناخ لتآخي الأديان بقدسية وحرية، وأنا أعتبر أخي المسلم اللبناني أكبر ثوري في الإسلام...

> لماذا اخترت بلدة غزير الجبلية مكاناً لإقامتك؟

- أنا أؤمن بأن الإنسان مخيّر، وقادر على اختيار وتقرير ما يريد. لا أؤمن بالقضاء والقدر. لكني في المقابل مؤمن جداً بالعناية الإلهية. ربما في الأمر بعض تناقض! منذ أربعين سنة أشعر بوجود عناية إلهية في حياتي... أنا إنسان حرّ. لماذا جئت الى غزير؟ لا أعرف! ذات صباح من العام 1971، قلت لزوجتي جاءتني فكرة، لماذا لا نترك بيروت ونستقر في غزير؟ وهكذا صار.

> منذ فترة تشتغل على مشروع لغة تسمِّيها «حديثة» فيما يسميها الآخرون «محكية»، وثمة موقف من هذه المحاولة كونها محلية جداً، ولا تصل الى القارئ العربي عموماً، كما الحال مع الفصحى... ما الهدف؟ والى أين؟

- الموضوع طويل. ببساطة، في تاريخ كل لغات العالم، يكتب الإنسان كما يحكي. أنا أريد أن أكتب كما أحكي. وبعد ذلك من يفهمني فليفهم! العدد ليس مهماً! هكذا فعل دانتي مثلاً. وبعد ذلك صارت لغة إيطاليا، لأنه كتب رائعة، والأمثلة كثيرة في غير بلد.

> لا أفهم هذا المنطق. عندما نكتب يهمنا الانتشار الأقصى. لغتنا الفصحى يفهمها مئة مليون عربي، قراءة وكتابة. وهي وسيلة تواصل رائعة، لماذا التقوقع إذن عبر وسيلة لغوية تفهمها أقلية محلية؟

- أنا لا أسعى الى تشتيت العرب عبر برج بابل من اللغات واللهجات، تكفينا الخلافات الحالية وأنا أعي تماماً هذه المخاطر وأعرف كل الاعتراضات التي واجهت محاولتي. عندي، «الحقيقة» أهم شيء. أنا أسأل: هل يجوز أن تمارس ازدواجية في لغتك؟ تكتب بلغة وتحكي أخرى؟ هذا هو الموضوع!

هناك لغة عربية تطورت خلال 1500 سنة، بعد خروج العرب من الجزيرة العربية وظهور القرآن الكريم. بعد الفتح العربي، دخلت اللغة العربية بيئات مختلفة، وتأثرت بحياة الشعوب هناك، ومن الطبيعي ألاّ تبقى كما هي... هذه اللغة الفصحى والعظيمة جداً، طرأت عليها تغييرات كما حصل لكل اللغات القديمة بمرور الزمن. هذا التغيير لم نصطنعه ولم نخترعه ولا نعمل تسوية معه... لم أسمع بأن كاتباً أو مفكراً أو قيادياً يتكلم معك بالفصحى حين تلتقيه!! يحكي لغة متطورة عصرية يومية. أنا أسأل: لماذا ندرّس طلابنا الإعراب سنوات في المدرسة ثم لا يستعملونه في لغتهم اليومية؟ وإذا كان الناس يتكلمون من دون حاجة لاستعماله (صرف ونحو) ويتفاهمون في ما بينهم، فلماذا هو موجود؟ وما حاجتنا إليه؟ أنا أعتبره ثقلاً، على العربية أن ترميه عنها! وهذا الأمر سيحصل بالنهاية، مهما حاولنا التصدي والمكابرة، لأن النمو سُنّة الكائنات، واللغة تنمو أيضاً مع تطور الإنسان وترافقه... لاحظ البرامج الاذاعية والتلفزيونية، في لبنان والعالم العربي، جميعها تُقدم – تقريباً – باللغات المحلية المحكية...

> أنتَ بهذا الاتجاه كمن يدعو ويشجع الى نشوء وتكريس عدد لا حصر له من اللغات العربية المحكية. بعض الخبثاء يذهب بالتأويل، الى أسباب سياسية – ليست بتفكيرك بطبيعة الحال – لكنها نتيجة اجتماعية سياسية حتمية ستحل بالمجتمعات العربية؟

- أنا لا أشتغل بالسياسة. ولا علاقة أو هدف لطرحي بتوحيد اللغات العربية المحكية، ولا أيضاً الى تقريب لغة الى أخرى. لا أحد يحكي بالفصحى كما يكتب. حصل تغيير على اللغة، لا يجب التمسك بالماضي، لنقبل التغيير. المحكية موجودة في كل لغات العالم! سيكون فرق بين المحكيات واللغات الأدبية التي تحمل فكراً.

> ألا تحصل ازدواجية مسيئة ومبلبلة في هذا الموضوع؟

- أمر طبيعي أن يكون فرق بين المحكية التي نتداولها أنت وأنا، وبين لغة الشارع، وبين ما تكتبه شعراً وأدباً وفكراً ومسرحاً، وبين حوارنا مع صاحب الدكان أو النجار. بهذا المعنى، كل العلماء الذين درسوا هذا الموضوع، وبينهم الكاتب الفرنسي جاك بيرك، يقول ان ثمة 4 بيئات ثقافية في العالم العربي، ولكل منها لغتها المختلفة عن غيرها (المشرق العربي: لبنان – سورية – فلسطين – الأردن وبعض العراق – الجزيرة العربية والخليج – وادي النيل «مصر والسودان»... – المغرب العربي «الجزائر – المغرب – تونس»). وهنا لا بد من الإشارة الى أن الفروقات اللغوية بين هذه البيئات هي أقل من اللغات التي تفرّعت عن اللاتينية: (الفرنسية – الإسبانية – الإيطالية – البرتغالية...) وهناك تشابه بين هذه اللغات لأن اللغة الأم واحدة وهي اللاتينية. أنا أتصور مستقبل لغاتنا شبيه بما حصل في أوروبا... مثلاً المواطن اليوناني العادي لا يعرف كيف يقرأ أفلاطون وسقراط إلا إذا تُرجما الى اليونانية الجديدة. لغة شكسبير تختلف عن لغة الشعب الإنكليزي اليوم، والأمثلة كثيرة...

أما مسألة الخوف من ألا يقرأ الأديب ويفهم في البيئات الثلاث الأخرى، فهي مشكلة الكاتب الفرنسي نفسها – مثلاً – الذي لا يكتب للأوروبيين كافة. المهم أن نقبل بما تعطينا الحياة. انه ناموس التطور، والمعاندة لا تنفع!

وأذكرك بالختام بأنني مطلع الستينات فعلت الشيء نفسه بالنسبة الى الشعر الحديث عبر مجلة «شعر» ونجحنا!

> بالعودة الى مجلة «شعر» بين الشعراء الذين تلحّقوا حول مجلة «شعر» وصاروا روّاد الحداثة الشعرية في ما بعد، من كان أقربهم الى فهمك؟

- عموماً كانوا جميعاً بالجو، ربما أقربهم الى فهمي كان أدونيس وفؤاد رفقة، خصوصاً من حيث الاتجاه الثقافي والشعري. عصام محفوظ كان جيداً، كذلك شوقي أبو شقرا. أنسي الحاج الى حد ما، وكان بيننا خلاف في وجهة النظر بالنسبة الى الشعر، أكثر مما كان بيني وبين أدونيس أو فؤاد أو خليل حاوي وتوفيق صايغ. شوقي أبو شقرا، الشعر عنده فن، وهو قريب جداً من جماعة الكلام، ولا يحب المعنى بالشعر، لكنه صاحب حسّ إنساني كبير...  
 - الأحد 23/8/1981

> الفنان يعيد «صوغ» هذا العالم تبعاً لمزاجه ومنحى إبداعه. من خلال الشعر، عن أي عالم يفتش يوسف الخال؟

- كل انسان يفتش عن حاله والشاعر مثل أي إنسان. لكن تفتيشه يختلف، لأنه مختلف. الشعر موهبة تعطي صاحبها رؤية أخرى. أوافقك الرأي بأن الفنان يعيد صوغ العالم و «خلقه» من جديد! والشعر عندي هو نفاذ من عالم الظواهر الى الماوراء. إنها خصائص الشعر. في هذا العالم كمٌّ هائل من الفوضى، ويهم الشاعر أن يشذِّب هذه الفوضى وينظمها، لإعطاء أمل للإنسان بالمستقبل. الفوضى تعطّل الحياة... أنبياء العهود القديمة كانوا شعراء! ما من مصلح إلا وكان شاعراً! الشاعر الكبير هو الذي يشق دروباً ويفتح آفاقاً جديدة، ويعطي الأمل والرجاء...

> بتبسيط أكثر، لم توضح معالم «عالمك» المفقود؟

- أبحث عن عالم منسجم مع ذاته، ممكن العيش فيه.

> ما الذي يزعجك في هذا العالم؟

- (بعد إطراق طويل) كل إنسان «مزعوج»، ولا أعرف إذا كان هناك قلق كبير وآخر صغير... من خلال تجربتي الحياتية، أدركت ان القلق يتغير مع مراحل الحياة... قلقي الحالي – وقد تخطّيت الستين من العمر – هو ذاك الصراع الداخلي، في مجابهة الحياة والموت. أنا يومياً أقنع نفسي بأن الحياة موت، والموت جزء من الحياة، وعلينا قبول فكرة الموت كقبولنا الحياة... حتمية الموت صارت أمراً طبيعياً،وهذا يخفف هذا القلق المصيري... هذا على المستوى النفسي الداخلي. أما القلق الخارجي (أحوال لبنان السياسية والأمنية) فهو قلق يشترك فيه اللبنانيون، وأنا قلق على كل اللبنانيين وهذا يتعبني جداً في هذه الأيام (1981)... الحضارة الإنسانية بلغت مرحلة صارت تزعج كل الناس. الآلة قويت وكبرت كثيراً، وصارت حاجة ماسة للإنسان وتزايدت أهميتها في حياته وأصبحت تتحكم بيومياته ومفاصل حياته، وهو يلهث وراءها، لذا فهو منزعج منها وخائف، وعلى رغم أنها تسهِّل حياته فهو عاجز عن الاستغناء عنها (الطائرة – السيارة – الكومبيوتر...). في الغرب – الذي سبقنا – والذي أصبح مجتمعاً مؤللاً بالكامل، نقرأ تعليقات المفكرين وعلماء النفس والاجتماع. ونفهم معاناتهم،... خوفي من تناقص إنسانية الإنسان «في صراعه» مع الآلة.

> كيف تستشعر أثر المجتمع الآلي – الذي نحن صائرون اليه حتماً، غرباً وشرقاً – على نمو الشعر ونتاج الشعراء؟

- لا يمكن للشعر إلا أن يتأثر بهذا التطور، و «يتناغم» معه. اكثر الشعر، حالياً، صار ذهنياً، علمياً، تركيبياً وعلى حساب العاطفة. في مراحلي الشعرية الأخيرة كنت ضد الرومانسية، فقد أُتخمنا رومانسية في العشر العربي. وهذه النزعة أيضاً سيطرت على أوروبا منذ مئتي سنة الى أن قامت عليها ردة فعل عكسية. نحن أيضاً في حركة الشعر الحديث وعبر مجلة «شعر»، حاولنا في السنوات الأخيرة أن نواجه هذا المد الرومانسي – كما حصل في أوروبا – لكن النتيجة الحتمية أن الشعر صار علمياً وسمعياً... الشعر اليوم في العالم وخصوصاً في العالم الصناعي، تحول الى نوع من الصناعة. صار بلا روح. ومحاولة مزاوجة بين الكلمات فذلكة! التجديد لم يكن إلا مظهراً خارجياً... أرى روح الإنسان بدأت تخبو!

الشعر هو انعكاس للداخل. وهو يختلف عن أي نوع من أنواع الكتابة. فلا تستطيع إلا أن تعكس لا وعيك الداخلي من خلاله وأن تعرض صورة عن حالة الإنسان الذي بداخلك. «الصناعة» الشعرية في العالم الصناعي، فيها إبهار، لكنها خالية من أية روحانيات، هذا الكلام لا ينفي بالطبع وجود شعراء كبار في العالم، أنا أتكلم عن حال الشعر والشعراء عموماً...

> كيف تستشرف ملامح الشعر، نهاية هذا القرن، انطلاقاً من لبنان. هل هي محاولة تقليد للغرب، في توجهاته التحديثية، أم ترى فيها وعوداً طالعة من هنا؟

- شهد الجو الشعري في السنوات العشر الأخيرة – عموماً – انحساراً، كما في كل شيء. إذا أخذنا العالم العربي، كمسرح، كساحة، نرى كم نحن مثقلون بقضايا كبيرة. لنأخذ الصراع مع إسرائيل، هذه القضية الخطيرة والمزمنة... هي ليست برأيي مسألة اغتصاب أرض وقيام دولة غريبة (إسرائيل) وليست أيضاً مسألة جغرافيا، وليست أيضاً قضية طرد سكان أصليين، أصحاب حق من أرضهم (الفلسطينيين). مشكلة العرب الحقيقية برأيي ثقافية. إسرائيل عندها لغتها وثقافتها وطموحاتها وعقولها وتكنولوجياتها وهذا ما يخيفني!

لكن التهديد الحقيقي ليس بمصادرة إسرائيل للأرض العربية ولثرواتنا الطبيعية – وهذا خطر قائم – لكن التحدي بأن إسرائيل تريد أن تكون هنا وأن تعيش في هذه المنطقة وأن تفرض على الشعوب العربية أن تقبل بها، وبالتالي أن نتصارع مباشرة معها. هذه التحديات تواجهنا مباشرة كل يوم. أضف الى ذلك تحديات التخلف العلمي والصناعي وهي بلا شك تنعكس على حياتنا الثقافية عموماً.

> هذا إقرار بوجود صراع بين حضارتين وبأن عقلاً غريباً يحاول اغتصاب حضارتنا وتراثنا وأرضنا. كيف ترى تأثير هذا الأمر على الحضارة والفنون، الشعر خصوصاً؟

- كل الخوف أن يستنفد هذا الصراع طاقات كثيرة... ثرواتنا العربية، بدل أن تُصرف على تطوير العلوم والثقافة عموماً، تصرف على التسلح للدفاع عن النفس. وصار كل نظام عربي يبرر وجوده قياساً الى هذا الخطر، وصار الدفاع عن النفس أولوية وجودية، مع تغاضٍ مطلق عن كل الأولويات الحضارية، العلمية والتكنولوجية الأخرى، وصار الشعار التبريري: «لا صوت يعلو على صوت المعركة»!

الشعر بحاجة الى مناخ صحي كي ينمو. والشاعر لا يولد شاعراً. فهو بحاجة الى العلم والثقافة والتربية والى مناخ فكري صحي سليم.

هنا نلاحظ أن الأجيال الصاعدة تكاد تكون فارغة! في الماضي كانت الأجيال في حال أفضل من اليوم، لأن المعاناة كانت مختلفة. وهنا أشدد على ضرورة وأهمية تعلّم اللغات الأجنبية... العربية لوحدها لا تكفي، كذلك الترجمات. ثمة ضرورة لقيام مجهود عربي عام. وعلى الدول النفطية خصوصاً أن تساهم في عملية الإنماء، ومن الضرورة الملحة، تأسيس صندوق عربي للترجمة، كما فعلت بعض الشعوب في الماضي للدخول في الحضارة الأوروبية، (ألمانيا – روسيا) حيث اشتغلوا على مشاريع حضارية لنقل كل النتاج الفكري والروائع الكلاسيكية عن اليونان حتى اليوم، الى لغاتهم الأم، مع التركيز على ترجمة جديدة.

> ألا تعتقد أن الترجمة هي نصف حل للتعرف على الثقافات والإحاطة بالحضارات الأخرى؟

- الترجمة وسيلة. لاحظت خلال العشرين سنة الأخيرة (1960 – 1980) أن تعليم اللغات الأجنبية في البلدان العربية قد ضعف كثيراً، وتعلّم لغة أجنبية في غير بلد عربي، اعتبر نوعاً من السلوك الاستعماري، وهذا برأيي من عوامل التخلّف في عقل النظام السياسي العربي عموماً. وكأن المطلوب قوقعة المجتمعات العربية وجعلها في غربة عن العالم! كل المشاريع الإنمائية، تصنيع وبنى تحتية وسواها، أمور جيدة، لكن الملحّ والأساسي تنمية العقل العربي من طريق الاطلاع على النتاج الحضاري – الفكري- العلمي الإنساني، باللغة الأجنبية إذا تيسَّر أو على الأقل بلغته العربية عبر الترجمات الدقيقة.

> تكلّمنا عن انحسار الزخم الشعري في العالم العربي، هل هذا التوصيف ينطبق على لبنان؟

- بالتأكيد، مع الفارق بأن لبنان، يبقى – كما دائماً – متقدماً على سواه من البلدان العربية، لعوامل كثيرة بينها الانفتاح، والتيارات الفكرية، وقربه من البحر ومعرفة أبنائه باللغات الأجنبية... لبنان كان دوماً سبّاقاً، منذ عصر النهضة، ومع ذلك يفترض أن يكون أفضل حالاً في المجال الشعري.

> كيف تقيِّم النتاج الشعري الحالي لدى جيل الشباب؟

- ثمة مواهب صاعدة، لكن الظروف التي نعيش (الحرب) تجعلها مكبّلة الى حد بعيد. لكني وفي شكل عام، ألاحظ انعدام الجدية. يعتقدون ان كتابة قصيدة مسألة سهلة، لأنهم بلا ثقافة وبلا مراس! كان الروّاد على مستوى جيد من الثقافة والاطلاع. سافروا الى الخارج واشتغلوا على تنمية مداركهم، وقرأوا تجارب الغرب الشعرية لمعرفتهم باللغات الأجنبية. وهذا ما لا أراه في الجيل الجديد، مع الأسف... هناك توقف واستعجال لنشر بعض القصائد من دون عمق وثقافة واطلاع على ما سبق... المطلوب أن نكتب جديداً...

-الثلاثاء 2/9/1986

أجرى هذا الحوار في حديقة المنزل في يوم خريفي... وكان المرض جليّ على يوسف الخال، الوجه نحيل يميل الى الاصفرار، والصوت خفيض، منكسر!

> كيف تمضي هذا الزمن في «غزير»؟

- في الكتابة والقراءة، وبعض الهدوء والراحة، وإكمال ترجمة الكتاب المقدس.

> وتتعاطى السهر؟

- قلّما... لم تعد عندي قدرة على الفرح كما في الماضي... الظروف لا تسمح. حين أسافر للاستشفاء يظل فكري في الوطن، عند العائلة والأصدقاء. أعود الى هنا لا أجد الراحة. الفرح مفقود تماماً أنّى توجهت!

> ماذا عن سهرات «الجمعة»؟

- صارت من ذكرياتي الجميلة؟

> والزراعة؟

- المياه قليلة والماء حياة... بقدونس، نعناع... لما مرضت انقطعت عن التعاطي مع الأرض... بانتظار اللقاء معها... اللقاء الطويل!

> كيف تتعامل مع هذه الحرب التي لا تنتهي؟

- الحرب صراع طبيعي. الحياة صراع بين العناصر التي تتناقض في ما بينها. كل شيء صراع حتى في الطبيعة. الليل مع النهار، حركة الفصول، كل ما حولنا عراك! صراع الدول انعكس علينا. نحن مجتمع يجمع تناقضات كثيرة، ولم نتصرف في شكل واع، أخذنا بوعود كاذبة، وطموحات لا معنى لها، واليوم نحصد ما زرعناه!

> لماذا لا تفكر بقرية للشعراء والفنانين فقط (قرية فاضلة على غرار الجمهورية الفاضلة!).

- كم أتمنى ذلك... جميل جداً لو يكون حقيقة. (كما يقول الفرنسيون...).

> وربما كنتم تضاربتم وتقاتلتم كثيراً؟!

- ليس الى هذا الحد... أنت تعرف أننا حاولنا في الماضي. ميشال بصبوص جرَّب ذلك في مهرجانات راشانا لكن التجربة للأسف لم تستمر جربنا أيضاً في الفريكة (حيث متحف أمين الرحياني) ولم يمش الحال، أعتقد لغياب العناصر الضرورية والكافية.

> ما هو مشروعك الكبير؟

- «هل بعد عندي وقت لأفكر بمشاريع كبيرة؟! أهم مشروع حالياً، إعادة النظر بالماضي وتصحيحه، ليكون خروجي لائقاً من هذه الحياة!».

(قالها بمرارة وحزن وأطرق طويلاً... ثم انتفض فجأة ولمعت عيناه وكأنه يرفض الاستسلام لفكرة الرحيل) وقال: في الحقيقة عندي أشياء كثيرة أود إنجازها – إذا سمح الوقت – بينها: إكمال ترجمة الكتاب المقدس – «على هامش كليلة ودمنة»، هناك ترجمات لمؤلفاتي الى الفرنسية والانكليزية يجب أن أشرف عليها... هناك أشياء كثيرة... (ثم عاد الى الصمت الطويل وأضاف بصوت خفيت)، صدقني: لم أعد متمسكاً بالحياة، بمعنى أن أعيش، آكل، أشرب وأنام، أبداً... زهقت (ضجرت) من هذه الدنيا، لم أعد متمسكاً بها...

> بماذا أنت متمسك؟

- أنا متمسك بما سيبقى لغيري. أعتقد انني حققت أموراً مفيدة جداً. مثلاً فجّرت الشعر العربي – لم يكن عملاً سهلاً ، وفجرت أيضاً اللغة العربية، وكتبت بأسلوب جديد عبر ترجمة الكتاب المقدس... هذه انجازات مهمة!

> قلت انك تودّ تصحيح أمور من الماضي، أية أمور؟

- تصحيح بمعنى تجميل، أو إعادة صوغ نصوص كتبتها. على الإنسان أن يعمل طالما هو حي، ثم أنا بطبعي لا أستطيع أن أكون على الحياد. سأحاول إنجاز ما تيسر وعلى قدر ما يمنحني الوقت...

> تحكي وكأن بعضك صار خارج الزمان! ماذا عن الإنسان في رحلة عبور الزمن والمابعد؟

- لا جواب عندي محدداً... انها الأسئلة الصعبة! لكن قناعتي ان لا وجود للزمن من دون إنسان. تلغي الإنسان فتلغي معه الزمن. إنهما متلازمان.

> نلاحظ من قراءة تاريخ البشرية، وكأنه مجموعة دورات تعيد ذاتها... بمعنى أن الإنسان يدمّر ذاته (الحروب مثلاً...) موافق؟

- صحيح. كلما نما العقل البشري، ازدادت فيه روح الاستطلاع! فهو لا يحتمل المجهول! الإبداع أحد تجليات هذه الرغبة، لخلق جديد، لتوسيع آفاق المعرفة. حتى الحروب، ماذا تعني؟ أعتقد بأنها تفتح مجالات جديدة بوسائل عنيفة، وتدمير وإراقة دماء بريئة مع الأسف – راجع التاريخ -...

> لو لم تكن شاعراً، بمن كنت تحلم أن تكون؟

- هل يصح لي أن أكون شاعراً وأتردد؟! الشعر كما سائر الفنون، موهبة بحاجة الى غذاء، من ثقافة وعلم واطلاع ومراس... الفن شيء والعلم مجال آخر. هذه التكنولوجيا والاختراعات وارتياد الفضاء، كلها لا تمنح «الخلاص» للإنسان، لا بل تعطل حياته الداخلية وتوازنها!

> ماذا يعني لك «الخلاص» بالمفهوم اللاهوتي؟

- ان يرجع الإنسان الى ذاته، الى نفسه، بالأخير العودة الى الله. وحدهم المؤمنون بالله يستطيعون اجتراح حضارة! لكل حضارة ولكل ثقافة إله!

> ماذا عن حضور المرأة في حياتك؟

- صمت طويلاً ثم ابتسم وأجاب: منذ خمسين سنة يلاحقني هذا السؤال! لا أدري لماذا هذا الموضوع يطرح باستمرار؟! ثم أضاف حرفياً: «أنا رجل غير متهيّج بأي شيء. أنا معتدل، عقلاني! الصداقة أهم بكثير من الحب لأنها أبقى!».

ثم التفت وسأل: هل أجبتك؟ قلت: يعني!

> ماذا يوحي إليك هذا الطقس الخريفي؟

- من يراقب الطبيعة بعمق، يكتشف شبهاً كبيراً بين الإنسان والطبيعة... في شعري الكثير عن دورة الفصول، وأستعير كلمات كثيرة من الطبيعة (البحر – الأمواج – القمر – الأمواج – الشجر – العاصفة...) للتعبير عن اختلاجاتي الإنسانية...!

> أية مقطوعة موسيقية تحتاج الى سماعها الآن؟

- مقطوعة كلاسيكية بالتأكيد... فيفالدي مثلاً... «فصل الشتاء»... أحبّ الشتاء...

ميشال معيكي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...