فلسطينيو اليرموك في مهب «الربيع»: نكبة واحدة تكفينا

03-05-2014

فلسطينيو اليرموك في مهب «الربيع»: نكبة واحدة تكفينا

«الرجال خرجوا مذعورين. النسوة ينتحبن ويتلفتن يمنة ويسرة خشية الإصابة بقذيفة طائشة. وما إن حططنا الرحال عند مستديرة البطيخة حتى شعرتُ بأن الفلسطينيين كُتب عليهم الشتات ثانية». هكذا تُلخص أم عمار حال النازحين من اليرموك إلى «دوار البطيخة»، بوابة المخيم عند مدينة دمشق. قبل أن تسترسل في الشرح: «رجال يبكون بما يشبه العويل، نسوة يتجمعن حول بعضهن من دون معرفة مسبقة. يتبادلن الدموع، والنظر بحسرة إلى حمّالات المفاتيح». تشهق أم عمار وتضيف: «الجميع يخشى انضمام المفاتيح الجديدة الى مفاتيح عام ثمانية وأربعين».الجوع والذل إنجازان حملهما المسلحون معهم إلى المخيم (Unrwa.org)
فلسطينيو المخيم سطروا تاريخاً آخر لنكبة ثمانية وأربعين، ففي ظهيرة 17\ 12\ 2012 ذهل سكان اليرموك، من فلسطينيين وسوريين، بأصوات تكبيرات تعلو. يقول الموظف المتقاعد أبو محمد عمايري: «زعم قادة كتائب أبابيل حوران أنهم دخلوا المخيم موقتاً، وأن انتقالهم إلى الزاهرة (الحي الملاصق للمخيم) سيتمّ خلال يومين». ليتبيّن بعدها أن من كبّروا طاب لهم البقاء في المخيم حتى اليوم. وما هي إلا فترة قصيرة من سيطرتهم، حتى شرعوا في اقتحام المحال التجارية وسرقتها، بحجة أن «أصحابها شيعة، وشبيحة، و(الجبهة الشعبية) قيادة عامة». وشيئاً فشيئاً، تخصصت كل مجموعة في نوع معيّن من السرقات. بعضها في سرقة مازوت المعامل، وبعضها الآخر في سرقة آلاتها، وثالث في سرقة كهربائيات البيوت.
بمرور الوقت، فعل الحصار فعله. ليصبح الجوع والذل إنجازين آخرين حملهما المسلحون معهم إلى المخيم. أحمد (اسم مستعار) الخارج من المخيم بذاكرة تسجيلية طافحة، يحكي لـ«الأخبار» عن أقسى المشاهد التي حملها معه: «امرأة كهلة بصحبة أولادها الأربعة، أكبرهم في الخامسة عشرة. تطلب منهم بإيماءة من يدها أن يسبقوها. ولما فعلوا انحرفت باتجاه مكب للقمامة وأخذت تنبش فيه. بعد دقائق، عاد الابن الأكبر إلى مكان افتراقهم، رآها تقعد القرفصاء، تلاقت العيون. نهضت المرأة بصمت، ومشيا. شعرتُ أن ظهر الفتى قد انقصم فعلاً».

تطويق العنق

الوثائق الرسمية السورية تفيد بأن سوريا بعيد النكبة كانت من الجهات الكبرى المستقبلة للاجئين الفلسطينيين. دخلها عام ثمانية واربعين نحو 85 ألف لاجئ فلسطيني. والتقديرات الأخيرة تفيد بأن عددهم وصل إلى نحو ستمئة ألف لاجئ يعيشون في مخيمات منتشرة في مدن سورية عدة. أكبرها مخيم اليرموك جنوب دمشق، والذي كان أكثرها «ثراء» واكتظاظاً بالسكان. فقبل النكبة الثانية تجاوز عدد سكانه 200 ألف فلسطيني، ونحو مليون سوري. «عرف المخيم في السنوات الاخيرة بقدرته الفريدة على استقطاب أصحاب الفعاليات التجارية. ما جعله أحد أبرز الأسواق في دمشق، وتحديداً في تصنيع وبيع الألبسة»، يقول الصحافي الفلسطيني يحيى الشهابي، الذي خرج من المخيم المحاصر أخيراً. ويضيف: «الرعاية الرسمية السورية استمرت، ولذلك يجمع كثير من الفلسطينيين على أن للنظام السوري أفضالاً لا تنسى في أعناقهم وخصوصاً من الناحية السياسية. كما أن الناحية القانونية لا تقل أهمية في ما يتعلق بوضع الفلسطينيين في سوريا، والتي حافظ عليها نظام الرئيس بشار الأسد، ومن قبله حافظ الأسد. بعد أن بدأها عهد الرئيس شكري القوتلي وحكومته التي أقرت القانون 260 لعام 1956، بمنح اللاجئ الفلسطيني في سوريا الحقوق والواجبات كافة الممنوحة للمواطن السوري ما عدا حقي الترشح والانتخاب». لتتتالى بعده القوانين المرحبة بالفلسطينيين، فتم مثلاً استثناؤهم من شرط الجنسية في كثير من المهن.

رد الجميل

الاعلامية الفلسطينية وسام حمود تلتقط الوجع الذي يقض مضاجع فلسطينيي اليرموك: «بعض الفصائل الفلسطينية التي احتضنتها دمشق ردّت المعروف السوري بطريقة لا تليق بمن يطلقون على أنفسهم صفة المقاومة. وساهمت في إدخال الشعب الفلسطيني كطرف في الازمة السورية، عبر استخدام ورقة المخيم. وتحول الفلسطيني إلى مشرد ونازح ولاجئ للمرة الثانية». تُعبّر حمود عن دهشتها من قدرة بعض الفصائل الفلسطينية على الاصطفاف حيثما ترى مصالحها، إذ «قرر بعضها الاصطفاف ضد حكومة دمشق، التي تعامل الفلسطيني مثل السوري في العمل والدراسة والخدمات الصحية، والتملك. حتى في المقاولات، كان كثير من المناقصات الحكومية الكبيرة يرسو على مقاولين فلسطينيين».

أشلاء القهر

أخبار اليرموك شغلت وسائل الإعلام في الآونة الاخيرة. عدد كبير من الخارجين من عنق زجاجة الحصار يرون أن الأحاديث الدائرة عن هدنة ومصالحات لتحييد المخيم عن الأزمة الطاحنة قد يصعب تنفيذها. والسبب أن المجموعات المسلحة هناك منقسمة بين مرجعيات مختلفة. فـ«أبابيل حوران» ترى عكس ما تراه «أكناف بيت المقدس». وهذه الأخيرة تختلف رؤيتها عن «كتائب الصحابة» وهلمّ جرا. كذلك، فإن عدداً من «تجار الأزمة» يريدون بقاء الحال على ما هو عليه. فهم المستفيدون من سرقة مؤن البيوت، وهم من يحتكر السكر والرز والزيت. وهم من يبيع السلع بأسعار خيالية لا تكاد تُصدق.
في الآونة الاخيرة أدخلت دفعات من السلل الغذائية، وأخرجت مئات الحالات الطبية الحرجة، لكن أزمة المخيم ما زالت مستمرة. فيما النازحون إلى الحدائق العامة وبيوت الإيواء والمدارس، تتكدس كراماتهم فوق بعضها البعض، ولسان حالهم يغصُّ بـ«نكبة واحدة تكفينا». هكذا، بات للفلسطيني حلمان يتنافسان على الأولوية: «العودة إلى المخيم، والاحتفاظ بحق العودة إلى فلسطين. إنه الربيع»!

وفاء صبيح

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...