نقد أم غزل؟ سارة شمة في نشوة المرآة

03-10-2006

نقد أم غزل؟ سارة شمة في نشوة المرآة

الجلوس أمام المرآة والتحديق فيها، يخلق متعة في داخلنا لا تقدّر، وكلما استمر هذا الجلوس والتحديق لفترة أطول، تتصاعد المتعة للوصول إلى النشوة، وفي الوصول الى النشوة يتم الوصول الى الجمال.

وهذا ماتفعله سارة شمة عندما تجلس أمام اللوحة / المرآة، وتذوب فيها الى درجة التلاشي في الذات، فلا نعرف من يتماهى في الآخر، الأصل أم اللوحة أم ما ترينا إياه المرآة. ‏

هل يمكن لعين الفنان أن تتفوق على عدسة الكاميرا؟ الإجابة على هذا السؤال ستكون بنعم أو لا، ولكن ما رأيك لو قلنا ان الفنانة هنا استطاعت ان تخرج كل أنو ثتها من داخل جسدها، تلك التي لا يمكن لأحد ان يعرف أسرارها سواها، هكذا ببساطة تفرشها أمام أعيننا، لتدهشنا، لتقول أشياء كثيرة، ربما ستكون عاجزة لو أنها جلست أمامنا وأرادت البوح بها. وهذا عمل لا يستطيع إخراجه من الجسد إلا من امتلك غروراً أو إعجاباً بالذات الى درجة التصوف والعبادة، ومن حق كل مبدع ان يكون كذلك عندما يقدم إعجازه. ‏

يراقب الفنان لوحة البورتريه بحذر لأنه يعتبر ان اللوحة الفنية جاءت لتزيح فن البورتريه الذي ينقل الواقع نقلاً أميناً دون تدخل إبداعي، انه يئد الحياة في الصمت، ربما تكون اللوحة البورتريه مرسومة لما بعد الحياة، عندما يكون صاحبها قد تحول الى ذكرى منسية فوق الجدار، محوطة بغبار خفيف يدل على رحيل أبدي وطويل. من هذا الموقف الواعي تماماً لم تنزلق سارة شمة في النقل الأمين، أو أنها استطاعت ان تسحب رجلها في اللحظة الأخيرة من فخ الوقوع في نسخ الواقع، قد يعود ذلك الى الحرفية العالية التي تتمتع بها، وهي ذاتها التي جعلتها تهتم بالتفاصيل في أدق التفاصيل، أو اقتطاع أجزاء من الوجه، أو تقريب فتحة الرؤية الى أجزاء معينة في الوجه، أوإلغاء كل ذلك بإضافة وشاح رقيق يشف عن وجوه خائفة، قلقة، متألمة، تجأر بصمت، تريد ان تسمع صوتها المكبوت الى أطراف السماء وكي تكسر المألوف وتخرج من اللوحة تعبئ نفسها في دوائر زجاجية تتحدى نفسها في إعادة الخلق، وعندما تصل الى نشوة الابداع تلتذ بتشويه الوجه والجسد، وتخرج تعابير النفس وآلامها وعذابها الى الأصابع والعينين وتقاسيم الوجه، ثم تبتهج لانتصارها فتدخن بمتعة الانتصار والتحدي، والضوء ينسكب على جسد نظيف ناضح بمتعة الأنوثة الحقيقية، والظل يكسر الرتابة وهو يهرب من الضوء، تفلت اليد من رسغها، تمتد لتمسك الفراغ، أو تستسلم لزحف الأصابع، ثم ترتفع الى الأعلى متحدية هذا الدخان الذي يلتف على بهائه وهو يتماوج الى الأعلى. 
 انفعالات مكبوتة، لا يمكن ان تسكّنها هذه الأغطية التي لا يمكن ان تدفن كل هذا الألم البشري الذي يتدفق من الوجه. كأنما عذابات المرأة عبر كل تاريخ القهر، أي دمار هذا الذي تحمله هذه الوجوه البشرية للأنثى، أي ألم هذا الذي يصر على تخريب جمال هذه الوجوه والأجساد، أي قدرة على الوصول الى سحب هذا كله من داخل النفس ونثره عذاباً فوق روح هذا الجمال؟.. إنها رحلة قلق وبحث واضطراب وعجز عن السيطرة على الانفعالات الانسانية المخزونة داخل الفنان، ثم وهو يفلتها من عقالها إلى بياض اللوحة، فتشكل دراما انسانية، إحباطات وانكسارات، آلاماً ورغبة عنيفة في الانتقام، ربما من تاريخ أو من مجتمع أو من الحياة بأكملها، تتداخل في ذلك عناصر نفسية واجتماعية، فتلغي بعض تفاصيل الوجه أو الجسد، تتشوه لتصير غريبة وهي تنقل انفعالات الداخل وتعبر عن الخوف من الآخر، مع تعدد الوجوه والأطراف، لتختلط الحقيقة بالوهم، وهنا تكمن الصعوبة في التعرف على الأصل، أين هو الوجه الحقيقي الذي كان يريده الفنان، انها البراعة المطلقة، في اختصار الوجود والكون والحياة والانسانية، في أن توضع مواجهة مع ذاتها. ‏

عندما تعبر سارة شمة الى الاخر، تختاره في أسمى تجلياته، في حالة نشوة صوفية، في استسلامه العذب للحالة التي وصل إليها. لقد اختارته ليكون الوجه الآخر للمرأة، أو هو الأنوثة ذاتها عندما تتماهى في الذكورة، وساعدها موضوع رقصة «المولوية» لاخراج حركة الجسد الى الخارج، الرأس في حالة السكون الطاغي والجسد يرقص ويرقص لإخراج الطاقات المكبوتة الى الوجه، مع حركة اليدين الرتيب، موسيقا متكاملة، تشارك مجموعة من العازفين في ترتيبها، تتألق في انسجام روحي عذب وعندما يتصاعد الإيقاع ويشتد تتداخل الأجساد في الأجساد وتتداخل الثياب وتتباعد، تدور وتدور، في حركة متماوجة، نسمع فيها صوت الموسيقا وهي تخرج الآهات من الجسد، تتداخل الألوان من الأحمر الصارخ الى الدخاني، الى الأبيض سلاح الروح.. أما الوجه الذي راح يعدّ نفسه للرحيل، فقد هدأ وأسلم نفسه لصفاء هذه الموسيقا التي راحت تملأ سكون اللوحة بوجد صوفي وراحة هادئة. لقد تعاونت الموسيقا والحركة الدورانية على إخراج الآلام من سكون الجسد لتوصله الى عالم آخر بعيد لا يمكن الوصول إليه إلا عبر جهد ومثابرة، ثم جاء الفن ليلتقط هذه الحالة في لحظة وجدها، وينقلها الى المشاهد البصير، يفتح زاوية رؤيته على مداها ويبدي اعجابه بعملية الخلق والتحدي. ‏

تجمع سارة شمة في أعمالها بين التصويرية والبنيوية الى التفكيكية وتعبر من البورتريه الى اللابوتريه، من نقاوة الصورة عند فليكس نادار الى تشوهات الوجه والأطراف عند فرنسيس بيكون، وبين كل هؤلاء تبقى بصماتها واضحة، باستلهام المواضيع ذات التعبير المشحون بالقلق والخوف والرهبة الى التصوف والانشغال بالروح وتجلياتها وشطحاتها، وها هي تمزج بين الأنوثة والذكورة في وجد صوفي عابق بالنشوة الطاغية، تختلط الأصابع بالجسد على إيقاع موسيقا الألوان الدافئة والحارة في تشكيل من المتعة التي لا تضاهى. ‏

هل تدهشك هذه المرأة متعددة الوجوه وهي تبسط أكفها في حركة حلزونية تغيب خطوطها في عمق اللوحة، وتبدأ من خارج اللوحة تمر على الوجوه المحاصرة بالأسئلة والتعب، كأنما هذا هو قدر المرأة الشرقية ان تسكن إلى خوفها وألمها، الى ما لا نهاية، تريد أن تمزق حصارها، لتخرج من جسدها الى ضياء شامل، ولكنها تظل أسيرة هذا الجسد، فتكتفي بحصارها وسجنها وتشوهاتها الداخلية والخارجية. ‏

سارة شمة، قد تكون وصلت مبكرة، ساعدها في ذلك موهبتها غير العادية وحبها لعملها الذي يشكل هاجساً حياتياً لها. تعلق لوحاتها على الجدران لتدهش وتحيّر لا أكثر. ‏

سارة شمة: ‏ ولدت في دمشق 1975، تخرجت في كلية الفنون الجميلة بالدرجة الأولى 1998، حازت على الجائزة الرابعة في مسابقة البورتريه العالمية ـ لندن ـ 2004. ‏

ونالت عدة جوائز محلية وأقامت العديد من المعارض الفردية في صالات دمشق، الكويت، تونس، عمان، بيروت، الإمارات، القاهرة. وشاركت في أكثر من عشرين معرضاً جماعياً. ‏

فيصل خرتش

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...