الاغتصاب من منظور نسوي: التأويل وأركان الجريمة
لا يلبث الجدل القانوني والمجتمعي حول قضية الاغتصاب أن يهدأ حتى يُثار ثانية لأسباب مختلفة؛ مثل الدعاوى القانونية التي أخذت تنهال على المنتج الهوليوودي «هارفي واينشتاين»، بداية من عام 2017، تتهمه بالاغتصاب والتحرش الجنسي بعشرات الممثلات والعاملات بصناعة السينما على مدار العقود الثلاثة الماضية. وقد شجع ذلك الكثيرات من الضحايا اللاتي التزمن الصمت سنوات خشية التكذيب، على الجهر بما لاقين على يد نجوم وشخصيات مرموقة، مما أثار التساؤل ثانيةً حول معايير الإدانة بالتحرش الجنسي بشكل عام، والاغتصاب بشكل خاص.
في الواقع، كانت قضية الاغتصاب في الغرب محل اهتمام الحركة النسوية بمختلف أطيافها منذ نشأتها، وقد كافحت طويلًا لإدخال إصلاحات تشريعية هامة. فلا ننسى أن اغتصاب النساء كان يُعد يومًا جريمة في حق الأب أو الزوج، لا في حق الضحية نفسها، إذ هي إحدى أملاك الذكر، تخضع لولايته، لا كيان إنساني مستقل له حقوقه القانونية المحددة.
كذلك كان للحركة النسوية الفضل في اعتبار إكراه الزوج لزوجته على الجماع نوعًا من الاغتصاب المُجرَّم. إلى جانب ذلك، خضعت تفاصيل التقاضي والشهادة والأدلة المعتبرة في قضايا الاغتصاب، لدراسة ونقاش مجتمعي وقانوني مكثف. وفي السياق القانوني، ترتبط جريمة الاغتصاب بثلاثة مفاهيم رئيسية تشغل أغلب الاهتمام، وتختلف التيارات النسوية معًا حول تعريفها وشروطها وجدواها. هذه المفاهيم الثلاثة هي انتفاء «الرضا» (consent)، و«القصد الجنائي» (mens rea)، و«العنف».
انتفاء الرضا
رضا الأنثى بالعلاقة الجنسية أهم ما يميز بين العلاقة الرضائية والاغتصاب، ومجرد النظر في لفظة «الاغتصاب» يثبت ذلك، فلا يُغصب الإنسان إلا على أمر لا يقبله. فمن البديهي أن حرمة الإنسان محفوظة، لا يحق لأحد انتهاكها إلا برضاه، ويشمل ذلك ماله وممتلكاته، وجسده بلا خلاف. لكن خصوصية العلاقة الجنسية، ونفسية المرأة وسلوكها -سواء كان مرجع ذلك إلى فطرة أو خصيصة نوعية أو تنشئة اجتماعية- تجعلها أقل صراحة في إبداء الرضا وأميل إلى التورية، مما جعل البعض يرى أن مجرد غياب الرفض أو المقاومة دليل على الرضا. وهو ما انتقدته النسويات، تجنبًا للضرر الذي قد يسفر عنه، فالمرأة التي لم تميز الغرض الجنسي من سلوك ما لأحد الذكور، لن تبدي رفضًا أو مقاومة ساعتها، لكن هذا لا يعني الرضا.
كذلك حرصت النسوية على رفض المنظور التقليدي الذي يرى في ملابس المرأة وسلوكها وعلاقتها بالذكور وتاريخ ممارساتها الجنسية، دليلًا على الرضا المبدئي بالدخول في علاقة جنسية. فأصرت على أن الرضا لا يثبت إلا بسلوك إيجابي يصدر عن المرأة. لكن ذلك لا يفهم على إطلاقه، فكثيرًا ما تضطر المرأة إلى التظاهر بالرضا، قولًا وسلوكًا، تحت التهديد، خوفًا من ضرر مادي أو مهني، على سبيل المثال. خاصة مع ارتياب النسوية في المجتمع الأبوي الذي يمنح الرجال –في الأغلب– سلطات متنوعة، أحيانًا اجتماعية وأخرى اقتصادية أو غيرها، على النساء.
أما «ميشيل أندرسون»، القانونية الأمريكية، ورئيسة جامعة بروكلين، فتنتقد مفهوم الرضا ذاته، لاستنبطانه اعتقادًا بأن المرأة مفعول به على الدوام، لا يُتوقع منها المبادرة، بل يبادر الذكر فتستجيب هي بردة فعل خجولة. وطالبت أندرسون بتبني نموذج آخر، محايد وصريح، قائم على المحاورة بين الطرفين.
القصد الجنائي
عادة ما يهتم القانون بتوفر القصد الجنائي، فمجرد الإجبار على الممارسة الجنسية لا يكفي لإثبات جريمة الاغتصاب؛ أي أن الرجل في بعض الحالات لا يُعد مغتصبًا إذا كان يظن أن المرأة متقبلة للعلاقة، حتى إن كان مخطئًا.
في الواقع، تتعدد الآراء حول الشروط التي يُعد فيها هذا الظن الخاطئ مقبولًا. فيزعم البعض وجود نوع من الممارسات والأجواء التمهيدية التي عادة ما تعبر بها النساء عن استعدادهن لممارسة الجنس. إذا توافرت هذه الممارسات، يكون توهم الرجل هذه الموافقة خطأً متفهمًا.
لكن البعض يرى أن هذه الثقافة تختلف كثيرًا ما بين المجتمعات المختلفة والأشخاص أحيانًا. لذا يتوجب التعبير صراحة عن الاستعداد للعلاقة بشكل صريح. بينما رفض تيار نسوي أي اعتداد بالقصد الجنائي مطلقًا، مثل «كاثرين ماكينون»، الأكاديمية والناشطة الأمريكية، التي رأت في ذلك منحًا لتصورات الرجال حول رغبات المرأة سلطة الحكم عليها، إن كانت قد تعرضت للانتهاك أم لا، رغم ما تحمله هذه التصورات من موروثات الثقافة الذكورية والمشاهدات الإباحية.
دفع ذلك بعض النسويات إلى المطالبة بتدشين «معيار نسائي» في قضايا التحرش والاعتداء الجسدي والاغتصاب، لاستحالة التوصل إلى معيار محايد يقبله الجنسان؛ نظرًا إلى التباين الثقافي والسلطوي والاجتماعي بينهما.
العنف
استخدام العنف أكثر المعايير الثلاثة إثارة للجدل. فإجبار الزوجة على الجماع -على سبيل المثال- رغم ما فيه من استخدام للعنف، لم يكن اغتصابًا في نظر القانون لفترة طويلة، باعتبار عقد الزواج موافقة ضمنية دائمة على ممارسة الجنس. وترى «تريسي ويست»، الكاتبة والأكاديمية الأمريكية، أن المطالبة بدليل على عدم رضا المرأة بالممارسة الجنسية، رغم التيقن من اللجوء إلى العنف، يحمل افتراضًا ضمنيًا بأن النساء تقبل الممارسة الجنسية العنيفة كقاعدة عامة.
إلى جانب ذلك، قد تُكره النساء على ممارسة الجنس دون استخدام للعنف، بسبب تهديد أو تضليل ما. لذلك، تميل التيارات النسوية إلى رفض اعتبار العنف شرطًا لإثبات جريمة الاغتصاب، مطالبات بالاكتفاء بانتفاء الرضا. إلا أن بعض النسويات كان لهن رأي مختلف، إذ طالبت ماكينون، بإلغاء معيار عدم الرضا، والاكتفاء بالعنف معيارًا لجريمة الاغتصاب، أو لعل لفظة «الإكراه» هي الأكثر ملاءمة هنا، إذ أكدت أن استخدام العنف مجرد واحد من طرق عدة قد يستخدمها الرجال للإكراه.
على الجانب الآخر، اقترحت «جوان ماكجريجور» وغيرها، اعتبار كل من الممارسة الجنسية دون رضا المرأة، والإكراه على الممارسة بالقوة جريمتين منفصلتين. ولا شك أن ذلك سيضمن ارتفاعًا كبيرًا في نسبة الإدانات في قضايا الاغتصاب.
بشكل عام، تختلف قراءة التيارات النسوية للاغتصاب اختلافًا كبيرًا، فترى النسوية الليبرالية فيه اعتداءً فرديًا يقع ضرره على فرد واحد، بينما ترى فيه النسويات الأكثر راديكالية وسيلة للهيمنة والقمع الذكوري المميزة للمجتمعات الأبوية، تستهدف الإضرار بالنساء كجماعة لا أفراد.
ظهر ذلك مع الموجة النسوية الثانية، التي اعتبرت الاغتصاب مشكلة ثقافية وسياسية، مما شجع على انتشار مفهوم «ثقافة الاغتصاب»، وهو وصف للمجتمعات التي يلقى فيها العنف ضد المرأة عامة، والعنف الجنسي خاصة، نوعًا من التسامح وربما التأييد، حتى يوشك الفارق بين العنف والجنس أن يتلاشى، كما يجري تقديمه في الأفلام الإباحية. لذلك، تربط كثير من التيارات النسوية، خاصة الأوروبية، بين نوعية المحتوى الإباحي المقدم وانتشار جرائم الاغتصاب والعنف الجنسي.
إضاءات
إضافة تعليق جديد