أوراق من حرب تشرين

05-10-2006

أوراق من حرب تشرين

فجأة ارتطمت قذيفة صاروخية معادية  بجسم الطائرة، وهي عائدة من مهمتها في أجواء الاراضي المحتلة خلال حرب تشرين التحريرية، وشيئاً فشيئاً أخذ صدر الطيار يعلو ويهبط. وجسم الطائرة هو الآخر يفعل الشيء ذاته، محرك الطائرة الحربية يلهث والطيار يلهث، ومع كل زفرة كانت الدماء تتسرب من صدر الطيار المزروع بالشظايا.
 مازال لدى الطيار ( نورس) بعض القوة ، على الرغم من إصابته غير المميتة ، ولكنها ستكون بالغة الخطورة إذا استمر النزيف على هذا النحو دون توقف .
 سمحت له القيادة بمغادرة الطائرة والقفز بالمظلة، إذ كان هذا هو الخيار الوحيد المتوفر امامه ، تساءل كمن يحدث نفسه بحيادية مشوبة بمشاعر نكران الذات:
 وهل جربت فعلاً كل الخيارات القابلة للتطبيق؟ كم هي نادرة، وبعيدة عن الواقعية.
 وبدأت تنتاب الطيار حالات من الاغماء المتقطع، وهو يقود طائرة توشك محركاتها، هي الأخرى على التوقف... تمكن من السيطرة على ألسنة النيران المشتعلة بالطائرة عبر جهاز الاطفاء الآلي ، وبذلك تغلب على احتمال انفجار الطائرة، ألقى نظرة سريعة فيما حوله : كل شيء مضرج بالدماء... وجه الطيار وثيابه ولوحة القيادة ، وبدأ سيل من الدماء يتسرب حول قدميه.
 توهم أن غريزة حب البقاء المهيمنة على مركز حماية الحياة القابع بين تلافيف دماغه، ستضطلع - لامحالة- بمهمة شحن الجسد بالعناصر التي تخثر الدماء حول الجروح على نحو يسهم في توقف النزيف الحاد.
 يبدو من تكرار غياب الطيار عن الوعي انه لا بد من القفز بالمظلة ، تذكر علاقات المودة التي تربطه بهذه الطائرة ذات المرونة العالية ، والمستجيبة لسيطرته المطلقة عبر كل المهام النبيلة التي تمكن من الاضطلاع بها منذ بداية حرب تشرين التحريرية، وخلال الاشتباكات السابقة مع العدو الصهيوني: كيف احكم بالاعدام على طائر رائع كهذا؟!
 استحضر الخبرات التي اكتسبها عبر المعارك التي خاضها منذ تخرج في الكلية الجوية حتى الآن ، وحاول استثمار المعارف التي زوده بها المدربون، وتلك التي حصل عليها خلال الدورات التدريبية والمحاضرات الدورية .
 ومع هذا عاد او يكاد الى نقطة الصفر، فما يزال صدره يعلو ويهبط، وجسم الطائرة يفعل الشيء ذاته، كائنان متلاحمان منصهران في بوتقة الصراع المرير مع الموت ، انسان وطائرة.
 حاول استخدام آخر سهم في جعبته عبر الصعود الى الاعلى وقد بدت فكرة الارتفاع كوميض نجم تلألأ قليلاً امام عينيه عبر عشرات السنين الضوئية، ففي الطيران خلال الطبقات العالية من الجو تتوفر لدى الطيارإمكانية الزحف او الهبوط التدريجي في حال توقفت جميع المحركات عن العمل، بحيث يتمكن من مغادرة اجواء المناطق المحتلة على الاقل، ضغط بإصبعه بكل ما يستطيع من قوة على زر التسلق، ولكن الطائرة بدت وكأنها تراوح في المكان دون ان ترتفع قيد شعرة، فمحركاتها تلهث وأنفاسها تتقطع ، وصدر الطيار يفعل الشيء ذاته.
 لابد في هذه  الحالة من القفز بالمظلة ، هذا هو الحل الوحيد المتوفر امامه، وفكر الطيار فعلاً بمغادرة الطائرة إلا انه تذكر فجأة كم كان دائماً على استعداد للموت ألف مرة بدلاً من الهبوط في ارض يحتلها عدو تحتقره البشرية جمعاء:
 صحيح أن هذا العدو لن يستطيع ان ينتزع مني كلمة واحدة تتعلق بأسرار الوطن ولكنه سيتمكن - إذا ما وقعت في أسره- من الحصول على اسرار الطائرة من اجزائها المتناثرة على الارض .
 لم تعد تتنافر في رأسه الافكار المتصارعة ، لقد قرر ما يتوجب عليه ان يفعل وانتهى الامر: لابد من تأجيل القفز بالمظلة بعض الوقت، ريثما يغادر الاجواء التي يسيطر على ارضها العدو، وحين تجاوز هذه الاجواء بجهد أشبه بالمعجزة ، تنامى لديه الطموح نحو الافضل، لاحت امام عينيه بارقة امل صغيرة جداً، ولكنها شديدة اللصوق بشغاف قلبه:
 كم هو رائع لو تمكنت من الحفاظ على هذه الطائرة... فكر بامكانية الهبوط الاضطراري على اسفلت احد الخطوط البرية المنتشرة في المنطقة ، إلا انه وجدها متخمة بالسيارات المدنية والعسكرية المتجهة الى الجبهة او العائدة منها:
 استبعد هذا الحل الكارثي ، واصبح يقاوم الاغماءات المتقطعة التي تنتابه أكثر من ذي قبل ، مستعيناً بصور اطفاله، بروعة وطنه الكبير الجدير بكل تضحية.
 تلألأ أمام عينيه أمل جديد: ماذا لو حاولت الهبوط على هذا المدرج الزراعي المهمل الذي كانت الطائرات تستخدمه اثناء قيامها برش حقول القمح بالمبيدات الحشرية ، سمحت له القيادة بهذه المغامرة مادام غير قادر على الوصول الى المطار، وحين قام بمناورة شاقة ليتمكن من الوصول الى بداية المدرج، لم يعد يحتاج الى مزيد من الهبوط، كانت اغصان بعض الاشجار تكاد ترتطم بأجنحة الطائرة، وحين اصطدمت عجلات الطائرة بالمدرج المترب، غابت الطائرة عبر كومة متحركة من الغبار، وغاب الطيار تماماً عن الوعي ، وانطلقت لملاقاته مجموعة من سيارات الاطفاء والاسعاف .
 لقد كانت مهمة جسورة ، أداها عاشق حقيقي لوطنه، والعشق لا يصح إلا للجسورين ....
-  كُلفت إحدى وحداتنا المقاتلة بمهمة تحرير المنطقة (ع) خلال حرب تشرين التحريرية ، فتسللت الى هناك مجموعة صغيرة بمهمة استطلاعية قبل القيام بالتمهيد المدفعي، وأثناء رصد المنطقة وتجميع المعلومات المناسبة عن الاسلحة والقوى الحية المعادية المنتشرة هناك، أصيب أحد مقاتلي المجموعة بجراح بليغة ، فكلف المقاتل ( نبيل ) بمهمة تضميد جراح المقاتل وإخلائه الى اقرب نقطة طبية، وتابعت المجموعة مهمتها الاستطلاعية.
 أشار المقاتل الجريح طالباً من زميله ( نبيل ) ان يقترب منه ففعل ، صرخ الجريح بأقصى ما يستطيع من قوة ، فبدت الكلمات أشبه بالهمس وهو يتمتم:
> أرجوك يانبيل تابع مهمتك مع المجموعة ، فلا فائدة ترجى مني.
> >  احتج المقاتل نبيل قائلاً : جراحك ليست من الشدة بحيث تجعلك متشائماً الى هذا الحد.
>  وهذه الدماء المتدفقة من شراييني الممزقة؟!
> >  ألاتراني أضمد جراحك ، ها هو النزيف قد توقف او يكاد.
>  وبركة الدماء هذه، وخبط الجريح بيده الى جانبه حيث يتدفق الدم ، فتطايرت قطرات الدماء وانتشرت على وجه نبيل وثيابه.
> >  سأحملك الى اقرب نقطة طبية، وهناك سيكون كل شيء على ما يرام، سنخيط الجرح، ونعوضك عن الدماء التي فقدتها.
>  دعني أمت بهدوء ، والتحق بمجموعتك.
> >  رد المقاتل نبيل باصرار وحزم:
  لا استطيع ان أخالف امراً عسكرياً كلفني به رئيسي.
 في هذه الاثناء غاب المقاتل الجريح عن الوعي ، حمله المقاتل نبيل عبر السفوح الجبلية المتخمة بالصخور ونبات العليق الشائك، حتى وصل به الى النقطة الطبية، ومن هناك انطلق عائداً الى وحدته الاصلية وفق التعليمات التي زوده بها قائد المجموعة.
 وصل الى الوحدة ليلاً، وبعد قليل عادت المجموعة الاستطلاعية من مهمتها فقام قائد المجموعة بتفقد عناصره ، وفوجىء بما لم يكن يتوقعه:
ـ أين بندقيتك؟ صرخ موجهاً السؤال للمقاتل نبيل .
 هي ذي ، أجاب المقاتل نبيل، وهو يرفع البندقية الى الاعلى مزهواً بنفسه كونه ليس من النوع الذي يمكن ان يهمل سلاحه او يفقده وحين احتكت يده بحامل البندقية الكتاني ، قرب فجأة البندقية من عينيه، ورغم الظلام ، وفي هذه اللحظة فقط أدرك انه يحمل سلاح المقاتل الجريح، وان بندقيته ماتزال هناك في عمق الاراضي المحتلة الى جانب بركة الدم التي تشكلت من نزيف المقاتل الجريح، فقد نسيها هناك في زحمة انشغاله بتضميد جراح رفيقه.
 هزّ قائد المجموعة رأسه وقد أدرك أن منطق الحياة قد فعل فعله، وأن رغبة نبيل الجامحة في انقاذ رفيق السلاح الجريح بالسرعة القصوى ، جعلته ينسى بندقيته ربما ليخفف من عبء حمل مقاتل وبارودتين اثنتين عبر أرض جبلية وعرة ، مما قد يؤدي الى عرقلة ايصال الجريح الى النقطة الطبية في الوقت المناسب .
 - احتفظ ببندقية رفيقك ريثما يشفى، أنهى قائد المجموعة الحديث بهذه العبارة ، دون ان يبدو عليه انه سامح نبيل على هذا الاهمال .
 سمح للمجموعة الاستطلاعية بالاستراحة بعض الوقت ، ريثما يقدم قائد المجموعة تقريراً وافياً عن مهمته لقائد الوحدة وعند الفجر صرخ أحدهم:
 - المقاتل نبيل غير موجود
 * كيف ؟ تساءل قائد المجموعة بحزم وهم يستعدون للانطلاق لتنفيذ مهمة استطلاعية جديدة.
 - منذ ساعة وأنا أبحث عنه دون جدوى.
 * همس معاون قائد المجموعة : لعله هرب ؟!
أردف قائد المجموعة: قد يكون هذا صحيحاً من وجهة النظر العسكرية، فغياب المقاتل - اثناء الحرب - دون إذن رسمي يفترض مثل هذا الاعتقاد .
 ولكنني اعرفه ، اعرف كل عناصر مجموعتي ، فليس بينهم من يلتفت الى الخلف .
 وقبيل انطلاق المجموعة لتنفيذ مهمة جديدة ، ظهر المقاتل نبيل هكذا فجأة وكأنه انبثق من الارض كان يحمل بندقيته بالاضافة الى مسدس غنمه من سائق دبابة اسرائيلي قتيل ، كان حامل السلاح المضاد للدروع في مجموعة الاستطلاع قد دمرها في طريق عودة المجموعة من مهمتها .

إبراهيم محمد إبراهيم

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...