أيلول يقسو على جيوب السوريين: الإستنزاف البطيء
في سوق البالة تقضي أم فراس ساعات عدة بحثاً عن ثياب مدرسيّة مستعملة قد تناسب أبناءها الأربعة، فموعد افتتاح المدارس قد اقترب.
وتزاحم أم فراس عشرات النسوة في سوق مسقوف قرب سينما «أوغاريت» في اللاذقية، وتنبش كومة من الألبسة المستعملة. «وجدت مريولاً لابني الصغير إلا أنني لا أستطيع إيجاد بدلات المدارس لأبنائي الثلاثة الآخرين»، تقول أم فراس قبل أن تترك الدكان الصغير المزدَحِم، وتتجه إلى بسطة كبيرة على طرف السوق بحثاً عن بذلات لأبنائها.
في هذا السوق الصغير، الذي يضمّ عشرات المحلات وتفوح منه رائحة القطن والصوف البالي، لا يجد الأوكسجين طريقاً له، تمسك سيدة بيد ابنها الصغير وتجذبه بين نسوة مجتمعات لتضع بنطالاً على رجليه لترى إن كان يناسبه.
ليست وحدها أسواق البالة مزدحمة، معظم الأسواق في المدن الخاضعة لسيطرة الحكومة نشطت بشكل كبير منذ حلول أيلول، فهذا الشهر يضم موعد افتتاح المدارس بعد العطلة الصيفية، كما أن عيد الأضحى سيحلّ ضيفاً ثقيلاً على السوريين في الثلث الأخير منه.
وتقدّر أم فراس، وهي موظفة حكومية، تكاليف تجهيز الطفل الواحد للمدرسة بنحو 15 ألف ليرة سورية، ما يعني أنها ستضطر لدفع نحو 60 ألف ليرة سورية لتجهيز أبنائها الأربعة على أقلّ تقدير، وهو ما يفوق راتبها وراتب زوجها مجتمعَين. وتقول «سوق البالة قد يخفض من هذه التكاليف»، مضيفة «قبل نحو ثلاثة أعوام كنا أنا وزوجي نحتفظ ببعض المال كمدخرات لشراء منزل، الآن نفدت جميع مدخراتنا، واضطررنا منذ أشهر عدة للاستدانة، الدَّين بدأ يأكلنا».
حال أم فراس قد يلخص أحوال السوريين الذين يعيشون في مكان آمن بعيداً عن الحرب. فرغم انعدام رائحة البارود في هذه المناطق إلا أن «تكاليف الحياة الباهظة أصبحت تفوق قدراتنا»، وفق تعبيرها.
وفي سوق مزدحم يفرش أبو أنس مجموعة كبيرة من القرطاسية والحقائب. ويقول «الآن موسمها»، مضيفاً «أعمل على هذه البسطة منذ نحو 13 عاماً، الأسعار زادت بشكل جنوني، فالدفتر الواحد ارتفع سعره أكثر من 10 أضعاف، كذلك الأقلام وغيرها، كما أن جودتها انخفضت بشكل كبير».
وفي وقت يشكل فيه افتتاح المدارس، الذي سيبدأ في 13 من الشهر الحالي وفق وزارة التربية، عبئاً إضافياً على السوريين، لا يعتبر هذا الأمر وحده مصدر خنق السوريين، فتكاليف الحياة بشتى أنواعها ارتفعت أضعافاً مضاعفة، في وقت لم تشهد فيه الرواتب والأجور أي ارتفاع فعلي موازٍ. فوفق خبير اقتصادي لا يتجاوز متوسط الرواتب في سوريا المئة دولار، في وقت تحتاج فيه العائلة للاستمرار في الحياة لنحو 400 إلى 500 دولار بالحد الأدنى.
وفي هذا السياق، يقول رئيس مجلس إدارة جمعية حماية المستهلك عدنان دخاخني إن المعيشة اليومية للمواطن ارتفعت بشكل كبير، حيث باتت تحتاج الأسرة، المكوّنة من خمسة أشخاص، هذه الأيام كحد أدنى إلى 175 ألف ليرة، لتواكب هذه القفزات المتتالية للأسعار (نحو 550 دولاراً، سعر صرف الدولار في السوق السوداء وصل إلى 320 ليرة سورية). ويرى، في تصريحات صحافية، أن «الفترة الحالية شهدت ارتفاع أسعار الدواء، والكهرباء، والبنزين، والمازوت، إضافة إلى ارتفاع سعر الصرف، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الكثير من المنتجات»، الأمر الذي يفوق قدرة المواطن العادي على الاستمرار في الحياة.
الارتفاع الكبير في الأسعار وتوقف سقف الدخل عند حدّ لا يمثل ربع تكاليف الحياة الحقيقية وضع السوريين تحت ضغط البقاء والاستمرار في الحياة، فلم تعُد للكماليات أهمية كبيرة، في ظل عدم القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية. وفي هذا السياق، يقول سامي، وهو صاحب محل لبيع الأحذية، «قبل نحو عامين قمتُ بنقل ابني من مدرسة خاصة إلى مدرسة حكومية. تكاليف المدارس الخاصة أصبحت أكبر من قدرتي، والآن أصبحت تكاليف تجهيز ابني للمدرسة الحكومية كبيرة جداً»، علماً أن المدارس الحكومية تقدّم خدماتها بشكل مجاني.
وإضافة إلى ظروف الحرب، التي دمّرت وأخرجت نحو خمسة آلاف مدرسة عن الخدمة وفق تقديرات الأمم المتحدة، وحركات النزوح واللجوء الجماعيين وخروج مناطق عن سيطرة الحكومة، ما ساهم بارتفاع نسب التسرّب المدرسي، تشكل أعباء الدراسة سبباً آخر لزيادة نسب التسرّب، وفق خبير اقتصادي.
ويفيد تقرير «هدر الإنسانية»، الذي أعدّه المركز السوري لبحوث السياسات بالتعاون مع الأمم المتحدة في العام 2014، أن مقارنة المعدّل الصافي للالتحاق بالتعليم الأساسي بين سوريا والدول الأخرى يضع سوريا في العام 2010 في المرتبة 21 من بين 136 بلداً، ولكن نتيجة النزاع المسلح وانهيار الأوضاع الاقتصادية يقدر التقرير تراجع سوريا في العام 2013 إلى المرتبة 135 من بين 136 بلداً. ويشدد التقرير على أن «تدهور التعليم من شأنه أن يترك أثراً سلبياً كبيراً على جودة رأس المال البشري، الذي يشكل بدوره أحد المصادر الرئيسة للتنمية البشرية والنمو الاقتصادي».
كذلك، يفيد التقرير ذاته أن «سوريا أصبحت بلداً من الفقراء، إذ أصبح ثلاثة أشخاص من كل أربعة فقراء مع نهاية العام 2013، كما أن 20 في المئة من إجمالي السكان يعيشون في حالة من الفقر المدقع، أي لا يستطيعون تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية، ويزداد الوضع سوءاً في المناطق المحاصرة والساخنة، حيث ينتشر الجوع وسوء التغذية».
كما أدّت الحرب في سوريا، بحسب التقرير الذي أعدّ بالتعاون مع «الأونروا»، إلى فقدان فرص العمل وارتفاع معدل البطالة، ليصل إلى 54.3 في المئة، أي بطالة 3.39 ملايين شخص، منهم 2.67 مليون فقدوا عملهم خلال الأزمة، الأمر الذي أدّى إلى فقدان المصدر الرئيس لدخل 11.03 مليون شخص يتوزعون بنسب متفاوتة بين المحافظات.
أم فراس، التي لا تهمها الأرقام السابقة، تقول بعد أن تمسح عن جبينها العرق «ما أعرفه أننا نموت ببطء، أصبحنا نحسب تكاليف طعامنا ونقتصد حتى في الاحتياجات الرئيسية. أرهقنا الديَّن، ولا نعرف حتى كم سنستمر».
تضحك بصوت مرتفع لدى سؤالها عن عيد الأضحى، وتقول «عن أي عيد تتحدّث؟ هذا البنطال يستطيع ابني أن يرتديه يوم العيد، ويرتديه خلال ذهابه إلى المدرسة أيضاً، عليّ أن أعثر على ثياب مدرسية مناسبة لابني الأخير، وإلا فسأضطر للعودة إلى هذا المكان القذر غداً».
علاء حلبي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد