حب الاستطلاع ينقذ الانسان من الفراغ والكآبة
يبدأ بالتفكير فيها فور دخوله المكتب. لا شيء يريحه ويمكّنه من تحمّل "الدوام" الطويل في وظيفته المملّة سوى معرفة انه بعد بضع ساعات سيتفرّغ لها. زوجته تتفهم هذه "النزوة" التي يعيشها منذ أكثر من 15 عاماً، وتغضّ الطرف عنها، لأنه، بفضلها، صار أكثر هدوءاً واستيعاباً للاولاد.
فادي (40 سنة) يعشق الوثائق القديمة والآثار، ويكرّس لها يومياً ساعات وساعات. يدرسها، يتاجر بها، ويزور "سوق الأحد" كل اسبوع بحثاً عن موثوقة "لقطة" أو آثار يشهد لها التاريخ، وكأنه يزور الاهل أو الرفاق. يقول ان هذه الهواية غيّرت حياته وأعطت لها معنى آخر. مذذاك وهو لا يعاني الفراغ، بل يعيش بشغف. مذذاك وهو لا يصطدم بتفاصيل الحياة الصغيرة، بل يتعالى عنها.
سُليمى (33 سنة) تتنافس في مخيلتها مع المغنية العالمية كريستينا أغيليرا. تحلم بأن تتفوق عليها تقنياً رغم ان استاذ الموسيقى يؤكد لها أنها لا تملك أي موهبة ويجب أن تعتبر نفسها محظوظة اذا صارت مغنية مرافقة في احدى الفرق المتواضعة، وان من الأفضل لها أن تبحث عن "عريس لقطة". الحقيقة لا تزعجها بل تجعلها أكثر اصراراً على تلقين "الستّ أغيليرا"، كما يحلو لها ان تصفها، درساً موسيقياً أو اثنين في المستقبل القريب. الاصدقاء "يحمون" آذانهم بأياديهم عندما يرونها، ولا يفهمون لماذا لا تركز على وظيفتها المحترمة. أما هي فغالباً ما تضحك وهي تسمع عمتها تحذّر ابنتها، (غامزة من قناة سُليمى): "شفتي يا ماما شو بيصير وقت البنت ما بتتزوج؟!!".
فادي وسُليمى قادهما حب الاستطلاع الى الهوايات. ويرى الدكتور تود كاشدان، أصغر بروفسور في برنامج علم النفس التحليلي في الولايات المتحدة، والاستاذ في جامعة جورج مايسون، ان هذه الميزة ربما أنقذت الانسان من القلق المزمن والكآبة، وربما ايضاً من الألزهايمر أو مرض الخرف المبكر.
في حديث معه عبر الانترنت، قال كاشدان انه أمضى سنوات طويلة وهو يدرس القلق الذي يلخّصه كالآتي: "إصرار الانسان على تجنّب كل ما هو جديد في حياته والتعامل مع التحديات كأنها تهدّد استقراره". وبما ان القلق، "عامل عالمي ويؤثر على كل شيء في حياة الانسان" صار كاشدان يفكر في رد الفعل المناقض له. ماذا لو قرر الانسان أن يشعر بالفضول حيال كل ما هو جديد، من جهة، وأن يبحث عن سبل جديدة توسع آفاقه وتجعله يكتشف نفسه ويتعلّم شيئاً جديداً وبالتالي يتحدى عقله، من جهة اخرى؟ الابحاث قادته الى حب الاستطلاع، "الذي يعتبر بدوره عاملاً عالمياً تجاهله الانسان واستخف به". هل يعقل أن يكون الفضول هو نقيض القلق؟ هذا بالفعل ما أظهرته أبحاث البروفسور اليافع الذي يعشق الحياة.
- نطرح الاسئلة ونستكشف كل ما هو جديد بدلاً من الاستسلام للقلق والخوف. نحاول ان نستوعب المعلومات الجديدة ونخوض التجارب كما لو كانت الحياة مغامرة فعلاً. نجد انفسنا "سجناء" عجقة السير؟ نراقب معالم المدينة أو نستمع الى الموسيقى. ننتقل بواسطة "السرفيس" لأننا لا نملك سيارة؟ نطلب من السائق أن يروي لنا خبريات ممتعة عن "الحياة في الطريق"، أو نستغلها فرصة للتأمل في الحياة. نحن متأكدون من اننا سنخسر حتماً اذا شاركنا في الماراتون السنوي؟ اقلّه نكون قد تدربنا و"تحايلنا" على إرادتنا. المهم أن نفهم ان اهتمامنا "الصغير" بمسألة واحدة ربما قادنا الى مسائل أخرى لم نحلم بها سلفاً.
بعد تركيزه طوال ست سنوات على هذه الظاهرة، يعترف كاشدان بأنه لا يزال أمام علم النفس الحديث الكثير من الابحاث ليفهم كيف يؤثر حب الاستطلاع ايجاباً على الانسان، ويؤكد ا ن التعامل مع المواقف الجديدة من مبدأ الاكتشاف لا يمكن أن يضر بالانسان. وان لم تنفعه التجربة الجديدة فإنها في أسوأ الحالات "تزوّده" قصصاً مسلية يرويها للعائلة والاصدقاء، وتجارب تشعره بأنه عاش حياة غنية، مليئة بالحكايات. الوقت سيبرهن لنا اذا كان الفضول - حب الاستطلاع، يعالج بطريقة مباشرة الكآبة المزمنة، ولكن الاكيد، وفقاً لكاشدان، ان نسبة كبيرة من عذاب الانسان النفسي تعود الى كونه يقوم بمعظم النشاطات في حياته وكأنه غافل عنها. لا يعي ماذا يفعل لأنه يتصرف كالآلة. جسده حاضر وعقله في مكان آخر، ولا يوظف تركيزه على اللحظة التي علينا أن نحترمها اذا كنا سنحيا حياة غنية. حب الاستطلاع يجعلنا نتوق الى استيعاب كل لحظة نعيشها لأننا متأكدون من انها ستعلّمنا الكثير، وستوصلنا الى اللحظة التالية التي تحمل معها تجربة جديدة وافكاراً جديدة.
"أن ننغمس كلياً في اللحظة يعني أن نشارك كلياً في الحياة"، والانغماس في الحاضر ينبع من حب الاستطلاع، من التوق الى معرفة ما يخبئه لنا القدر. ومن هذا المنطلق يقول علم النفس الحديث ان الفضول قد يأتينا من خلال رغبتنا في أن نحيا حياتنا اليومية بشغف ومن خلال رغبتنا ايضاً في متابعة الهوايات. "فنحن نملك الفرصة في كل لحظة ان نشجع حب الاستطلاع لينمو في داخلنا، في الطفولة كما في الشيخوخة".
وأظهرت الابحاث ان المسنين الذين يتعاملون مع الحياة بفضول وشغف والذين يمارسون الهوايات، هم أقل عرضة للموت المبكر من الذين لا يهتمون بالحياة وبالتعّلم، بصرف النظر عن صحتهم الجسدية، اذ انهم اضافة الى تعلقهم بالحياة ربما كانوا أكثر انفتاحاً في تعاملهم مع واقعهم، وربما لأنهم ايضاً ساهموا بطريقة غير مباشرة في استمرار نمو أعصاب الدماغ، وتالياً يحاربون الامراض التي "تجتاح" الدماغ. كما ان المسن المزوّد حب الاستطلاع لديه فرصة أكبر في التخلص من العزلة، اذ ان النشاطات التي قد يختارها اسلوباً في حياته ربما تقرّبه من آخرين، ومن هنا العلاقة بين الفضول والتأثير الايجابي على الحياة الاجتماعية. والعائق الذي ربما منعنا من "الالتحام" بحب الاستطلاع، بحسب كاشدان، هو الخوف من خوض المجهول ومن الوقوف وجهاً لوجه وبشجاعة مع المواقف غير المألوفة: "يخشى البعض أن يضع نفسه في مواقف ربما شعر من خلالها بالضعف أو بقلة ثقة بالنفس". ولكن الذي يطمح الى حياة متنوعة تقدم له السعادة لا بد له من أن يبحث عن المواقف الجديدة وعن التجارب الغريبة "من غير اعتبار للنتائج".
نرسم وإن كنا نسبب "العار" للفن الاصيل، نغني وإن كانت "أوكتافات" الصوت تخفق في "تلبيتنا"، ندرس الابراج وإن كان البعض يهرب من سؤالنا المألوف: "شو برجك؟"... تود كاشدان يرى ان لا حدود لما نستطيع ان نصل اليه اذا تسلحنا بصفة يدرسها علم النفس الحديث بعدما أرهقه التدقيق والتعمق في الخوف والقلق، صفة تدعى حب الاستطلاع.
هنادي الديري
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد