المرأة المصرية المحجبة وثوار تودوس لوس سانتوس
الجمل- ترجمة: د. مالك سلمان:
الفصل السابع من رواية "نقطة اللاعودة" لآندريه فيلتشيك
اتصلتُ على موبايل مساعد القائد الثاني فيليبي. كان الخط سيئاً جداً، فقد كانت تودوس لوس سانتوس تبعد حوالي عشرة آلاف ميل. استخدمت بطاقة التلفون واتصلت من تلفون مأجور من القاهرة القديمة. شعرت بعبثية الاتصال مع قائد حرب عصابات بهذه الطريقة ولكن هكذا تسير الأمور في العصر الحالي – فحتى الثوار كانوا متصلين بالفضاء الإلكتروني، ويستخدمون الكمبيوتر والإنترنت، ويحملون هواتف الموبايل في جيوبهم، والفلاشات حول رقابهم.
"كومبانييرو فيليبي"، صرخت.
"كاريل، كونيو! من أين تتصل؟"
"من القاهرة، كوماندانتي."
"إيجيبتو، إنتونسيس. دي نويسترو بايس فراتيرنال."
"ماس أومينوس"، قلت له.
"نحن جاهزون تقريباً"، صرخ فيليبي. "نحن جاهزون ..."
"أين؟"
"هنا. في تودوس لاس سانتوس."
"جاهزون لماذا؟"
"تعرف لماذا! ماذا تظن أننا نفعل هنا، نزرع الورود؟"
"متى؟"
"قريباً، أومبري، قريباً. حالما يخطئون ويعطوننا الذريعة. حالما نمتلك اليد الأخلاقية العليا."
"سأكون هناك"، قلت.
أشعلت سيجارة. نظرت إلي امرأة محجبة بعينيها السوداوتين الكبيرتين. كانت عيناها تحثانني على إنهاء المكالمة. لم يكن بمقدوري أن أرى سوى عينيها وكانت عيناها جميلتين. علمتني القاهرة كيف أكون خبيراً في العيون.
"سأخبرك بالأمر"، قال فيليبي. "اتصل بي بعد عدة أيام وسأعطيك تفاصيلَ أكثر. سوف نحتل الجسر قريباً. والمدينة. سوف نعلق محافظهم الخانع وحارسه الألماني السمين على أعمدة الكهرباء وسوف نرفع العلم وفي النهاية سوف نشرب احتفاءً بالنصر معاً."
"رائع"، قلت له. "فقط اعمل معي معروفاً. لا تتباهى بذلك كثيراً. أحب أن أكون الوحيد الذي يغطي هذا الحدث."
"أعدك بذلك"، قال فيليبي. "أنت فقط، ياصديقي، أنت فقط، أيها الكاراخو العجوز."
كانت المرأة المحجبة تدور حول كبين الهاتف وقد نفذ صبرها. وبينما كانت تتحرك، لمحتُ حذاءها. كان حذاءً عادياً قديماً بكعب واطئ، لم يكن أنيقاً. لم يعجبني الأمر. كنت أتوقع المزيد.
"كيف الفرفورات في القاهرة، إيرمانو؟"
"حسب. البعض محجبات."
"أعني، تحت الغطاء ..."
"بعضهن مغطى بشكل دائم"، حاولت أن أشرح له.
"تعني أنهن ولدنَ داخل ذلك الشيء؟"
"يبدو ذلك."
"ولكن ... عندما تكون معهن ..."
"أنا لست معهن."
"لست معهن؟ تعني أنك وحيد، بلا امرأة؟" صرخ غير مصدق.
"البعض عذراوات"، قلت له. "البعض الآخر محجبات. والبعض يشرمطنَ مع السعوديين الأثرياء والخليجيين الآخرين الذين يأتون هنا للتعريص والسُكر – ليحصلوا على بعض العصير، كما يقولون. وهناك بعض الروس هنا أيضاً. هل تريدني أن أكمل؟"
"لقد فهمت. ولكن لا بد من وجود بعض الأرامل هناك"، صرخ فيليبي، قائد إحدى مجموعات حرب العصابات النشطة القليلة المتبقية في أمريكا اللاتينية. "الأرامل والنساء التعيسات في زواجهن نعمة للرجال في الأماكن التي لم تتحرر بعد ..."
"... بقبضة البروليتاريا الحديدية"، أكملتُ جملته.
"صحيح، بانييرو."
"لا أفكر في ذلك"ن قلت له بسخرية. "ليس في القاهرة."
"عليك أن تفعل ذلك. أفكر بذلك في جميع الأماكن، حيثما تحرمني الأخلاق المزيفة والمنافقة وقيَم البرجوازية الصغيرة من متع الحياة الأساسية."
"لمسة شاعرية، كوماندانتي."
ابتسمتُ للمرأة المحجبة. ابتسمتُ لعينيها – الجزء الوحيد من جسمها الذي كان بمقدوري أن أبتسم له. أشاحت بوجهها. من الواضح أنني كنت أوترها. كانت تريدني أن أترك الهاتف.
بدا مساعد القائد مستعجلاً فجأة. "سأراك قريباً. اتصل بي بعد عشرة أيام وليس أكثر. سأكون قد عرفت حينها. ولكن لا تنسَ أن تتصل."
"سأتصل بك بعد أسبوع."
"سنستخدم الأحصنة"، تمتمَ بطريقة حالمة. "هذه المرة سنفعلها بالطريقة التقليدية. هجوم وجهاً لوجه، بعيداً عن تلك الأساليب الحديثة التافهة."
ودعنا بعضنا وأدركتُ كم أنا مشتاق لتودوس لوس سانتوس ومساعد القائد المجنون فيليبي ورجاله ونسائه.
وقفتُ هناك، بالقرب من الهاتف في القاهرة القديمة، متناسياً بشكل كامل المرأة المحجبة التي تدور حولي بغضب. أشعلت سيجارة. فكرتُ في الليالي الحارة الطويلة في معسكرهم، وصوت الجدول القريب، وطعم الغوافا والمانغو، والسمرة الدائمة لوجوه الفتيات المحليات. الروم الرخيص الذي كنا نشربه من الزجاجة مباشرة. الماء البارد من الجدول.
كانت الليالي حول تودوس لوس سانتوس تهمهم طويلة ومعتمة، مفعمة بالغابة. كانت زياراتي قصيرة. لم أبقَ هناك أكثر من بضعة أيام ولم يكونوا يصرون علي للبقاء. لم تكن هناك أشياء كثيرة مشتركة بيننا، ولكن في بعض الأحيان بعد انتهاء المقابلات، وتوضيب المسجلات والكاميرات، وإغلاق دفاتر الملاحظات، كانوا يسألونني عن أماكنَ نائية وكنا نتحدث عن اليابان والصين، عن إندونيسيا والهند، عن الثورة، والاستراتيجية، والهزائم. كنا نناقش المسألة الكوبية والتدخلات الغربية في كافة القارات وكانوا يحاضرونني أحياناً حول الظروف القاسية التي يعيش فيها شعبهم، أو يموتون.
كنا نشرب الروم وندخن السجائر الرخيصة. وفي إحدى المرات، جاءت فتاة إلى أرجوحتي ومارسنا الجنس لكنها كانت امرأة بسيطة وكانت ممارستها للجنس ساذجة ومؤثرة مثل أحلامها. لم يجلب النوم معها أي متعة لكنه كان مقبولاً، مثل شرب المياه العذبة من النبع وبعد ذلك لم تكن هناك وعود أو مطالب. لم تكن جنيات الثورة في تودوس لوس سانتوس من النوع الذي أحبه. كنت أفضل فتيات المدينة من اليابان، وكوريا، والمكسيك، وأسبانيا، فتيات مثقفات وصعبات المنال، متقلبات، وساخرات، ومعقدات. لم تكن البساطة تثيرني. النوم مع الفتاة كان طريقة لتجنب الوحدة، وبعد أن انتهينا طلبتُ منها أن تغادر. وبعد ذلك، استلقيت على ظهري، ورأسي يدور من الكحول الرخيص، أحاول التركيز على النجوم فوقي، على أشجار النخيل السامقة، وأنا أشعر بسكون الليل الاستوائي الثقيل.
كانت المرأة المحجبة لا تزال تنتظر لكي تجري مكالمتها. اعتذرتُ وحاولت استراق النظر إلى عينيها مرة أخرى. أشاحت بوجهها على الفور. انتابني الحزن وقد أدركتُ استحالة أي تواصل ذا معنى بيننا – كائنين بشريين يتكونان من اللحم نفسه، والدم نفسه، والعظام نفسها.
هل يمكن لأي شيء أقوله أن يفرحها؟ هل يمكنها أن تقدم شيئاً يمكن أن يضيءَ يومي؟ قريباً ستنفجر ثورة في أحد أكثر الأماكن بؤساً في أمريكا اللاتينية وسوف أذهب إلى هناك لأروي الحكاية. بعد بضع دقائق ستعود إلى بيتها، إلى حياة لا أعرف شيئاً عنها. لن تعرف شيئاً عن أشخاص مثل الكوماندانتي فيليبي، ولن يتعرض جلدها للنسيم العليل ومياه البحر المخملية. ولن تتذوق أشعة الشمس في الأبدية المظلمة للنبيذ الأحمر. لم تبدُ وكأنها تحترق بالأسئلة الضرورية حول عبثية الحياة وظلم الموت. بدت حياتُها خاوية من العواطف والشكوك. رغبتُ في أن اقول شيئاً ما لها لكنني لم أستطع التفكير بأي شيء ذات معنى.
"آسف لأنني جعلتك تنتظرين"، قلت لها وأنا أغادر المكان.
- أندريه فلتشيك، "نقطة اللاعودة" (مينستي بريس: 2005؛ 2013)
الجمل
إضافة تعليق جديد