ما هو لون الله؟
الجمل- ترجمة: د. مالك سلمان:
نظف البروفسور كوهن نظارته بغطاء الطاولة الوسخ. أفرغ بيرته وطلب زجاجة أخرى. كنا في خمارة يمنية، تحت الأرض، في مكان ما من القدس، بعد إغلاق "لا بيل" عند منتصف الليل. لم تكن هناك نساء برفقة كوهن الليلة. وإن لم تخني ذاكرتي، كانت المرة الأولى التي يأتي فيها لوحده.
"ما هو لون الله؟" سأل كوهن.
لم تكن لدي أية فكرة. لم ألتق بالله من قبل، ولم أعرف إن كان يخطط هو للقائي. لم أفكر من قبل بلونه. أو فيما إذا كان له لون. لم تكن لدي أدنى فكرة حتى إن كان موجوداً أم لا.
"وهل له لون؟" تساءلت. "يمكن أن يكون بلا أي لون، كما هو بلا أي شكل."
"أزرق"، قال كوهن. "يمكن أن يكون أزرق، أو ربما يكون أخضر. ماذا لو كان أزرق؟"
"لا أعرف"، قلت له. "سيكون ذلك مقبولاً. الأزرق ليس سيئاً."
كانت الخمارة اليمنية مكونة من عدة طاولات وجدران رطبة. كانت عريناً غير شرعي للمقامرة، أحد تلك الأماكن التي كان يحب كوهن أن يختمَ فيها حفلات شرابه. كان الجو فيها حاراً ورطباً، يعبق بالدخان والضجة.
"إنهم يقتلون بعضهم البعض بسبب الله مرة أخرى"، تابع كوهن. "كما كانوا يقتلون بعضهم البعض لقرون طويلة. المسيحيون يقتلون الوثنيين، المسلمون يقتلون الشمال أفريقيين، ثم المسيحيون يقتلون المسلمين والمسلمون يقتلون المسيحيين. وبعد ذلك، الهندوس يقتلون المسلمين والمسلمون يقتلون الهندوس، بينما كان المسيحيون يقتلون كل من يجدونه في طريقهم. ومن ثم المسلمون يقتلون المسلمين: الشيعة يقتلون السنة وبالعكس. الكاثوليك يقتلون البروتستانت وبالعكس. الكاثوليك والبروتستانت يقتلون اليهود. اليهود يقتلون المسلمين والمسلمون يقتلون الكفار."
"لايبدو أن اليهود يقتلون الآن بسبب الله"، قلت له.
"بلى. كن على ثقة من أنهم يفعلون ذلك. ربما ليس بسبب ربهم هم، بل لأنهم لا يحبون الطريقة التي يراه فيها الآخرون."
"أو يرونها هي"، أضفت.
"تماماً. أو يرونها هي. ليس هناك أي حرب تقريباً لا يخوضها الناسُ نيابة عن الله. على كل حال، أود أن أسألهم إن كانوا يعرفون لونَه. كلهم مقتنعون أنهم يعرفونه، ويمكنهم أن يحددوا الكائنَ الذي تكلمَ من خلاله. لكنهم لا يعرفون لونه حتى. غريب."
"غريب جداً"، وافقته الرأي، وأنا أشرب عرقَ "الأوزو" المخلوطَ بالماء.
"أتساءل كيف يمكنه أن يتحملَ ذلك – كل ذلك القتل باسمه. الأمر يتطلب جرأة كبيرةن أليس كذلك؟ كان النازيون يقولون ’غوت ميت أونس‘ قبل أن يذبحوا نصف أوروبا. وقبل أن يسقطوا قنابلهم الذكية المعتوهة، لم يكن قادة أمريكا ينسونَ عبارتهم الشهيرة "فليبارك الله أمريكا". هل تعرف ماذا يفعل الباكستانيون قبل أن يطلقوا القذائفَ على المواقع الهندية؟ بدلاً من ’نار!‘ يصرخون ’الله أكبر!‘ ومن ثم ’بوووم!‘"
نظرت حولي. كانت امرأة شابة ترتدي أساورَ ذهبية ثقيلة تقدم الطعامَ الملون. كانت هناك لوحات سياحية لصحراء سيناء معلقة على الجدران. كان دهان السقف باهتاً ومتآكلاً.
"كوهن"، قلت له. "لقد تعبت. يجب أن أعود إلى الفندق. علي أن أغطي تلك الفوضى في الخارج غداً."
"وعماذا ستكتب هذه المرة؟" سألني.
"لا أعرف. أي شيء أقع عليه. أي شيء يحدث."
"مهما يكن الذي ستكتب عنه، لا تنسَ أبداً أن لا أحد منهم يعرف أيَ شيء ذا أهمية. كلهم يتظاهرون أنهم يعرفون ..."
"كوهن"، قلت له، وأنا في غاية الإعياء. "إنهم يريدون استعادة أرضهم فقط."
"ربما يكون هذا الجزء صحيحاً"، قال معترفاً. "ويجب أن يستعيدوها. ولكن يجب أن يطالبوا بها باسم العدالة البسيطة، وليس باسم شيء لا يعرفون حتى لونه."
لم تكن لدي الرغبة في التواجد هنا. قبل خمس سنوات كنت مستعداً للذهاب إلى أي مكان على هذه الأرض، طالما هناك شيء جدير بالكتابة عنه. أما الآن فقد بدأت أختار الأماكن. الحروب هي نفسها، في نهاية المطاف، وكذلك معاناة الناس الذين يعيشون هذه الحروب. كنت قد مللت إلى حد التخمة من الحروب. فقد كتبت ونقلت الأخبارَ من كل زاوية في هذا العالم لأكثرَ من عشر سنوات. كتبت كتباً. صنعت الأفلامَ الوثائقية. لم يتغير شيء. موجات العنف الجنوني نفسها، البيوت المحروقة نفسها، المدن المقصوفة، نساء يبكينَ وهنَ يركعنَ وسط الشوارع المدمرة، مشاف بلا أدوية ودم ضمادات.
بينما كنت أقطع معبرَ رفح إلى سيناء المصرية، حاولت ألا أنظرَ إلى أبراج المراقبة الإسرائيلية والمصرية المثيرة للإحباط واليأس، والأسلاك الكهربائية ذات التوتر العالي. تم إغلاق مطار غزة الجديد بسبب الانتفاضة، ولم تكن بطاقة الطائرة التي اشتريتها إلى القاهرة تساوي الآن أكثر من قيمة الورق الذي طبعت عليه.
رشيتُ سائقَ حافلة سياحية تعج بالسياح اليابانيين المذعورين لكي أضمنَ مقعداً للمدخنين في الصف الأمامي، وبينما أخذت الحافلة بالتحرك، أخذت أراقب بلا أية مبالاة الطريقَ المستقيم الممتدَ أمامنا، وهو يخترق كثبانَ الرمال الرتيبة في صحراء سيناء.
*
حاولت استرجاع الأحداث الأخيرة.
قبل ذلك بيومين، وبعد أن تركت كوهن، راقبت الجنودَ الإسرائيليين وهم يتجمعون في الساحة المحاذية لحائط المبكى. كان الوقت ليلاً. شكلَ ثلاثون منهم دائرة، حيث تلقوا التعليمات الأخيرة من قائدهم الذي صادف كونه فتاة شابة جميلة في أوائل العشرينات من العمر.
كانت أصوات الطلقات تأتي بشكل واضح من الطرف الآخر للجدار، من القسم المسلم، حيث كانت القبة المضاءة لقبة الصخرة تخترق السماءَ الداكنة الصافية فوق مدينة القدس.
كان الجنودُ الإسرائيليون شباناً صغاراً وكان البعض منهم خائفاً. رأيت واحداً منهم يغطي أنفه بيده وكان الدمُ يسيل من بين أصابعه. لاحظ زملاؤه ذلك وقدموا له الماءَ من مطراتهم وربتوا على كتفيه، قائلين كلمات تشجيعية بالعبرية لم أتبين معناها.
أخذت عدة صور للجنود، وسيارات الشرطة التي أغلقت جميعَ مداخل الساحة، والمسجد خلف الحائط، وأخيراً الفتاة القائدة. التقطت صورتها عندما رفعت الريحُ شعرَها الداكن، كاشفة بشكل كامل عن وجهها، فابتسمت، فأنزلتُ الكاميرا ونظرنا إلى بعضنا البعض لعدة ثوان. كنا نقف وسط الساحة الخالية، وسط مدينة القدس المقدسة، أمام حائط المبكى. كانت هناك أضواء خضراء تنير قبة الصخرة وقد بدا القمر والنجوم في أعالي السماء كضرب من الخيال ثم سمعتُ دويَ الطلقات مرة أخرى، قادمة من الجانب الآخر. أعجبتني الفتاة ورأيتها تبتسم لي، لكنها أشاحت بنظرها ورفعت عينيها مرة أخرى، لكنها نظرت أمامها هذه المرة، إلى رجالها الواقفين حولها وهي تقول لهم شيئاً بالعبرية، تلك اللغة القاسية الجميلة التي رغبت دوماً في فهمها، ثم شكل الرجالُ رتلاً وتوجهوا نحو الجسر، صوبَ المعبر الذي يؤدي غلى قبة الصخرة، صوب الطلقات، والانفجارات المتفرقة والصرخات. تبعتهم بعينَي حتى اختفوا.
نظرت حولي وكان "المسجد" لا يزال هناك، وكذلك الحائط اليهودي. كانت الضابطة الإسرائيلية، التي كان شعرها يتدلى على بزتها العسكرية، قد ذهبت. أشعلت سيجارة وفكرت فيها لبعض الوقت، في ثدييها الناهضين اللذين كان بمقدوري أن أشعر بهما تحت بلوزتها. حاولت أن أتخيلها وهي تنتعلُ الصندلَ الصيفي الخفيف بدلاً من الحذاء العسكري الثقيل.
شعرتُ بالحزن، وأنا أتخيلها تمارس الجنس بينما كنت أستلقي في السرير وأقرأ سيلين، ولكن لم أكن أنوي الذهابَ إلى هناك، إلى الجانب الآخر. كنت قد رأيت كل شيء حتى الثمالة مرة بعد أخرى إلى درجة أن فضولي كان قد تبخرَ الليلة. سيختبؤون خلف عدة زوايا بالقرب من قبة الصخرة، وهم يطلقون الرصاصَ المطاطيَ على حشد من الفلسطينيين الذين يرمونهم بالحجارة. وفي لحظة ما سيفقدون أعصابَهم ويطلقون الرصاصَ الحي وسوف تسيل الدماء على الشارع الحجري.
سرتُ عبر المدينة القديمة المهجورة نحو "بوابة دان" و"شارع يافا"، متجاوزاً الزقاقات المعتمة الضيقة وأبواب الدكاكين المغلقة. كانت عيناها جميلتين لكن الكثير من نساء العالم يمتلكن عيوناً جميلة – وتساءلت إن كانت أقدام النساء تصدر رائحة كريهة أيضاً بعد حشرها عشر ساعات في الأحذية العسكرية الثقيلة. تساءلت إن كانت خائفة، إن كانت تنتابها الشكوك، إن كانت تشعر بالأسى. أملتُ تلك الليلة ألا تُقتَل. أملتُ ألا تقتلَ أحداً في تلك الليلة.
في اليوم التالي عند الساعة الرابعة حلقت الحوامات الإسرائيلية فوق "نقطة تفتيش إيريز"، وهي ترش شارع غزة الرئيسي بالرصاص والصواريخ، تضرب السيارات، وتدمر مساكنَ اللاجئين المتهالكة. انفجر "القطاع" بالاحتجاجات العفوية الضخمة ونشبَ قتالٌ بمحاذاة الطريق وهرعت سيارات الإسعاف الفلسطينية عبر طرقات مدينة غزة المهجورة وصفاراتها تعوي، وعجلاتها تثير الغبار.
أمضيتُ الصباحَ كله في مركز الخليل المحترق على "الضفة الغربية"، ثم عبرت عند "نقطة تفتيش إيريتز" إلى "القطاع" بعد الظهر. وفجأة كانت هنا مرة أخرى: واحد من الأماكن الأكثر بؤساً على وجه الأرض، معتقل البؤس البشري القذر الذي يعج بالغبار – مدينة غزة.
أخذت صوراً للمتاريس، للنيران والحوامات وبعد ذلك للرجال الجرحى المحمولينَ إلى سيارات الإسعاف. وخلال ساعة واحدة فقط كان حذائي وبنطالي الجينز مغطيين بالغبار وكان العرق يتصبب من وجهي المحترق، وكان علي أن أنظف عدسات الكاميرا ونظاراتي كل عشر دقائق.
كان مقر "الأونروا" فارغاً، فقد كان الجميع يعملون في الميدان بكل ما أوتوا من طاقة. توجهت مباشرة إلى "مشفى شيفا".
كان حشد من الفلسطينيين الصامتين يقفون أمام البوابة الرئيسية – معظمهم من النساء الشابات والرجال العجائز – وشقيت طريقي إلى غرفة الطوارىء، مروراً بعدد كبير من المتطوعين، والممرضات والأطباء، وأنا أبدل الأفلام، وأغير العدسات وأثبت الفلاش على الكاميرا، وأتصبب عرقاً وأشتم في الحر الجهنمي.
تعثرتُ بنقالات مغطاة بالدماء – دماء على البلاط، وعلى الجدران، وفي كل مكان. سمعت أحداً يصرخ زتوجهت مباشرة إلى غرفة الجراحة وكان هناك رجل فلسطيني على السرير، وجهه يتلوى من الألم، عارياً ومشعراً ومصاباً في بطنه. وبالقرب منه، وخلف ستارة بلاستيكية كان رجل آخر يعوي، كان قضيبُه منتصباً وأزرقَ، أزرق داكناً وأحمرَ، بدت خصيتاه مسحوقتين، وقد غطاهما طبيبان بالأدوية. كان الرجل قد أصيبَ برصاص مطاطي. حقنه الطبيبان بشيء ما في ذراعه لكنه استمر في الصراخ وقد تطلبَ الأمر أربعة ممرضينَ لتثبيته بينما دفعني شخص ما إلى الداخل وصرخ بي: "صور هذا – صور ما يفعلونه بشعبنا"، فأخذتُ حوالي عشرين صورة، ولكن فقط لوجه الرجل ثم استهلكت ما تبقى من الصور على رجل آخر خلف الستارة مغطى بالدماء وعلى وجوه الأطباء والممرضين المنهكة وعلى كل تلك الدماء المنتشرة على الأرض والجدران.
كل بضع دقائق كانت سيارات الإسعاف تُحضر مصابينَ جدداً إلى غرفة الطوارىء، بعضهم جرحى، والبعض الآخر محروقاً، وكان بعضهم ميتاً.
كان علي الخروج من المشفى بسبب الروائح والحرارة. فكرتُ أن الظروف ستكون أفضلَ على الطريق بين إيريتز ورفح، حيث اندلع القتال الحقيقي. حتى هناك لم أجد متنفساً، فقد كان الهواء ثقيلاً، ويبدو أن الطيارين الإسرائيلين لم يكونوا يكترثون لأي شيء، فقد كانوا يطلقون النار على كل شيء يتحرك على الأرض بينما كان الجنود ينتقلون من الرصاص المطاطي إلى الذخيرة الحية.
كتبتُ تقريري منتصف الليل في فندق فاخر بشكل غريب على الشاطىء.
جلستُ وحيداً إلى الطاولة المطلة على البحر، ولكن عندما وصل الطعام لم تكن لدي رغبة في الأكل. كان رأسي ثقيلاً، وشعرت بالجفاف والإعياء. كان عليَ نقلُ أفلامي إلى نيويورك.
*
دخلت الحافلة إلى الباخرة وعبرنا قناة السويس، تاركينَ آسيا وراءنا. استغرق العبور خمس دقائق فقط. لم يبدُ الجانبُ الأفريقي مختلفاً: صحراء ... وبلدة قروية مليئة بالغبار كنوع من الواحة الخضراء الصغيرة بمحاذاة الطريق العام. لم تكن لدي أدنى فكرة لسبب ذهابي إلى القاهرة، إلا لأنه كان الطريق الوحيد للخروج من غزة. كانت الحافلة متوجهة إلى هناك وكانت الحافلة مبرَدَة ولم يعترض السائق على تدخيني للسجائر.
- أندريه فلتشيك، "نقطة اللاعودة" (مينستي بريس: 2005؛ 2013)
الجمل
إضافة تعليق جديد