فكرة دولة الخلافة في حقبتين!
فكرة الخلافة ودار الإسلام ظهرت في المئة سنة الأخيرة مرَّتين بشكل فاعل. في المرَّة الأولى، ضمن إرهاصات إنشاء الدَّولة العربيَّة وتأسيسها محايثةً للاستعمار وفي طور حروب الاستقلال. وفي المرَّة الثانية، مع بداية انهيار الدَّولة العربيَّة وتداعيها وصولا إلى أيَّامنا هذه الَّتي تشهد تمدّد داعش وسواها من حركات وأطر تسعى إلى وضع الفكرة قيد التَّنفيذ. صحيح أنَّ هناك تشابها في الفكرة بين الحقبتين لا سيّما الفرضيَّة بأنَّه يُمكّن استحضار دولة الخلافة والحكم الرَّشيد باعتبارها ذروة المجد الإسلاميّ وبنائها في زماننا هذا، استنادا إلى القرآن وأحكامه الصالحة لكلّ زمان ومكان.
لكن هناك بطبيعة الحال أوجه اختلاف واضحة. فالفكرة في طورها الأوَّل (قُطب والبنا) كانت أكثر حذرا ومراعاة لما حولها. فرغم طوباويتها إلاَّ أنَّها اندرجت ضمن الخيارات السّياسيَّة والفكريَّة والدولانيَّة الَّتي تداولتها المجتمعات العربيَّة النَّازعة إلى الاستقلال وبناء دولها. هذا، بينما ينزع أصحاب الفكرة في طورها الرَّاهن إلى عُنف مُطلق وتوحّش ـ عكس مدنية ـ يريد أن يهدم كلّ شيء لبناء كيان إسلامي الرُّوح دون رسم حدود جغرافيَّة واضحة له. على مستوى آخر، اندرجت الفكرة في طورها الأوَّل ضمن أفكار وأطروحات بناء الدَّولة والحاكميَّة فيما تندرج الفكرة في طورها الثَّاني ضمن كلّ العوامل الَّتي تشارك في إضعاف الدَّولة القوميَّة، عربيَّة كانت أو غير عربيَّة.
في مستوى ثالث، شكَّلت الفكرة في النّصف الأوَّل من القرن الماضي موديلا ما تنزع قوى في المجتمعات الإسلاميَّة إلى تطبيقه دونما الحصول على فرصة لذلك. ومن هنا صورته الَّتي بقيت جذَّابة وفاعلة في مخيّلة الجماهير لا سيّما مع تراكم الإخفاقات في الدَّولة العربيَّة. أمَّا الفكرة في طورها الحالي فقد وُضعت قيد التَّنفيذ كما تجسده داعش ومثيلاتها على الأرض في المناطق الَّتي تسيطر عليها وأكثر في التَّمثيلات المروّعة الَّتي أنتجتها لا سيّما في التَّعاطي مع غير المسلمين من أقليَّات أو مواطني الغرب المسيحيّ (قطع الرُّؤوس والتّجارة بالنّساء وإضرام النَّار في الرَّهائن وجلد المخالفين وتطبيقات الشَّريعة حرفيًّا). وبهذا، نسفت داعش في تطبيقاتها سطوة الفكرة وجاذبيتها الاحتماليَّة وإن ظلّت تجتذب تأييدا لأوساط واسعة من المؤمنين بالإسلام على هذه الطريقة الحرفية. أو أنَّ الدَّاعشيَّة كقوَّة فعليَّة على الأرض وإن حوصرت عسكريًّا وتضرَّرت كأتوتوبيا إلاَّ أنَّها لا تزال تحظى بمناصرة مُعلنة وخفيَّة من المقهورين والمهمَّشين من مسلمين في بلادهم أو في منافيهم.
إنَّ تطبيقات داعش المروّعة والتّمثيلات الَّتي أنتجتها لدولة الخلافة ـ بقيادة أبو بكر البغدادي جعلت قوى إسلاميَّة واسعة ترتدع من هذه الصيغة وتسارع في ترميم “إسلامها” وتسويقه بصيغة قابلة للتَّداول السّياسيّ. فمقابل الإسلام الدَّاعشيّ الَّذي يضع نفسه مطلقا فوق السّياسة حدَّ العدميَّة يستمدُّ شرعيته من اللاَّهوت لا من المواطنين والنَّاس مستبدا خارج المساءلة، فإنَّ حركة النَّهضة في تونس مثلا انضوت تحت لواء الدَّولة التُّونسيَّة الخارجة من حقبة زين العابدين بن علي بجولتين انتخابيتين. أي أنَّ أداء داعش أحدث خلخلة في فكرة الحاكميَّة الإسلاميَّة ومشاريع الإسلام السّياسيّ في هذا الموقع أو ذاك. ومن هنا كثرة الحديث عن النّموذج التُّركي والإسلام الأردوغاني الَّذي يرى مشروعه مطابقا لمشروع الدَّولة ومن خلالها، كنموذج مناسب للإسلام السّياسيّ العربيّ.
أعتقد أنَّ مثل هذا الحراك الَّذي نشهده ـ ابتعاد قوى الإسلام السّياسيّ عن فكرة دولة الخلافة والإسلام كما تمثّله داعش ـ سيتواصل في المدى المنظور. بل نعتقد أنَّ توجُّهات الإسلام السّياسيّ المعتدل الَّذي يقبل مفهوم الدَّولة القُطريَّة والتَّداول على السُّلطة ستتعزز في ضوء ما سببته داعش من ضرر لفكرة الخلافة. فستسعى مزيد من القوى إلى النَّأي بنفسها عن هذا النَّموذج الدَّموي وستعكف على إنتاج ذاتها من جديد بروح تتماشى مع مفهوم رفض التَّوحُّش والبحث عن المعقوليَّة.
هناك مَن يرى فكرة الخلافة ضمن الأصوليَّة الَّتي أنتجتها الحداثة. فقد ترافقت الحداثة منذ القرن الثَّامن عشر بظهور حركات أصوليَّة طهرانيَّة في مختلف المجتمعات من أوروبا وصولا إلى اليابان والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. واتَّسمت جميعها إلى رفض الواقع الاجتماعيّ بكلّ نواحيه والتَّطلُّع إلى ماضِ مُفترض تمَّ تخيُّله كحالة مُثلى للمجتمع. وهكذا فكرة الخلافة في الإسلام السّياسيّ منذ ظهور الوهابيَّة كحركة سلفيَّة تسعى إلى ردّ الحالة إلى “أصولها” والإنسان إلى جادة الصواب والصّراط المستقيم وتقترح الشَّرع والنَّص المقدَّس اللاَّهوتي نظاما وحكما وسلطة. أمَّا العولمة الَّتي قوّضت الحداثة أو تجاوزتها إلى ما يسمى أحيانا “الحداثة السَّائلة” أو “ما بعد الحداثة” فقد أنتجت الأصوليَّة من جديد في الفكر الإسلاميّ بوجه خاص. هذا، ناهيك عن منظمات النَّازيَّة الجديدة في أوروبا أو أمريكا الشَّماليَّة. فهي أيضا منظمات ذات فكر أصوليّ تنشط كجزء من هذه الحقبة ومن صُلبها واستئنافا عليها بأدواتها وما تمثّله من تكنولوجيا فائقة وثورة اتّصالات.
مرزوق الحلبي
المصدر: الأوان
إضافة تعليق جديد