ماذا فعل الأيوبيون بالإسلام ؟
سامح عسكر: سؤال من صديق : كيف انهارت الحضارة الإسلامية..وما العلاقة بين ذلك وبين المدارس المملوكية والأيوبية؟
قلت: المَعلم الرئيسي للحضارة الإسلامية الممتدة من القرنين 9- 13 الميلاديين هو (الاجتهاد والعقل) وهذا يعني نبذ التقليد وعدم تصور العلم في تقليد أحد أو السير على هداه..
لو تأملت هذه الفترة هتلاقيها اجتهاد وحرية في كل شئ حتى في علم الحديث. الأئمة (البخاري ومسلم والنسائي والترمذي..إلخ) كانوا مجتهدين في مجالهم
الفلاسفة (ابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد..إلخ) كانوا مجتهدين في مجالهم. العلماء التجريبيون (كالخوارزمي وابن حيان وابن الهيثم..إلخ) نفس الشئ
المؤرخون (الطبري وابن سعد والمسعودي..إلخ) شرحه. الفقهاء السنة والأئمة الأربعة والسبعة والعشرة. مدرسة آل البيت وسائر فرق الشيعة. ظهرت كلها في هذا العصر.
كان عصر اجتهاد محض، وتفاعل ورأي ورأي آخر، لدرجة أن ما نسميهم أعظم العلماء كانوا ليهم معارضين عادي، كان هناك من يطعن في أبي حنيفة وابن حنبل والشافعي..إلخ، كان هناك من ينقد ويطعن في البخاري ومسلم ويرد عليهم فكريا ويكتب في تصويب ما فعلوه، كان هناك من يصحح روايات المؤرخين ويرد بعضها ويقبل البعض الآخر، ويفرز ويعدل..إلخ. هذه من علامات التحضر التي غابت فور سيطرة الأيوبيين على مقاليد الحكم..
بعد سيطرة الأيوبيين شرعوا في ابتكار وسيلة جديدة للعلم مختلفة عن التي كانت سائدة في عصر الحضارة وهي إنشاء مدارس فقهية سنة وتعميم هذه المدارس لتكون عنوان المجتمع، وجعل قضاة الدولة هم من خريجي هذه المدارس بالأساس، ولم يكن يُسمح لأي فقيه أو عالم في التقرب من البلاط السلطاني سوى بعد تخصصه ودراسته في هذه المدارس..
إذا ما نوعية هذه المدارس؟
هي فقهية بحتة ولم تكن لها دراية أو سعة بالعلوم الدنيوية المختلفة كالطب والفلك والطبيعة والفلسفة والمنطق والرياضيات..إلخ
انتقل المسلمون من القوة الفكرية التي كانت لديهم إزاء نشاطهم في هذه العلوم إلى (ركود) فكري مريع من أثر التقليد والخوف من الفكر والحريات، والسبب الرئيسي في ذلك أن دولة الأيوبيين كانت (عسكرية) لم تكن مؤمنة بالعلم، وكعادة أي عسكري يلجأ للدين للسيطرة والحشد، ونرى هذا حتى من الواقع المعاصر، فأي نظام سياسي عسكري لا يتخلى عن الدين مطلقا بل يستعمله في قهر خصومه، والأيوبيون كانوا من أوائل الذين ابتدعوا هذه الوسيلة في السيطرة وحشد الجماهير.
كانت التجارة بالدين شائعة في هذا العصر ولم تكن خصيصة للعصر الأيوبي ولكنها كانت ثقافة عامة، ومن علامات ذلك تسمية الأبناء باسم الدين (ناصر الدين، نور الدين، حسام الدين، صلاح الدين، شمس الدين، قمر الدين...إلخ) كانت موجة هوس ديني شبيهة بالتي عشناها في عصر الصحوة الوهابية وتسمية الأبناء بأسماء دينية رغم أنهم أحيانا يطلعوا ملحدين..!
كان الأمر بسيطا في العصر الأيوبي، ولكن بدأ معهم، لكنه استفحل للغاية في العصر المملوكي, توسع المماليك في إنشاء المدارس، وحفظوا فضل الأيوبيين في استقدامهم من آسيا الوسطى والقوقاز في تقليدهم بهذا الشئ والتوسع للغاية في بناء المدارس كالأشرفية والظاهرية والمنصورية والناصرية والمؤيدية والحجازية..إلخ واعتبار هذه المدارس ليست مجرد صروح تعليمية، بل معايير يجري من خلالها اختيار الحاشية السياسية والبلاط السلطاني وتولي مناصب القضاء والتجارة المختلفة..فتقاطرت الجماهير لتلك المدارس ودخلوها وصارت علامة فكرية منذ هذا التاريخ.
لم تكن هذه المدارس مهتمة ببناء مكتبات علمية متنوعة كالتي كانت في بغداد وأحرقها التتار، ولكن اهتمت بتصنيف كتب فقهية وحديثية وشروح لعلماء السلف وعدم الخروج عن رأيهم، لأن ثقافة النظام العسكري عززت في نفوس الفقهاء هذا الشئ (السمع والطاعة) والنظام الأيوبي هو أول من ابتدع هذا النظام السياسي في التاريخ الإسلامي وتبعه المماليك..
لاحظ أن مكتبة بغداد التي أحرقها التتار، ومكتبة دار الحكمة الفاطمية التي أحرقها الأيوبيون كانتا ثمرة من ثمار الحضارة الإسلامية لأنها ضمت عديد من شتى صنوف العلم المختلفة.
يمكن اعتبار الغزو المغولي سببا في انهيار الحضارة الإسلامية، لكنه وفقا للسياق التاريخي جاء هذا الغزو في زمن انهيار فكري وسيطرة المتشددين ورجال الدين والعسكر على الحكم، والسر في ذلك أن العسكريين النافذين (المماليك الذين استقدمهم صلاح الدين) فرضوا معاييرهم الفكرية ومنعوا استكشاف أي جديد كعادة أي عسكري نافذ خوفا من حرية الجماهير التي تعني في ذهن العسكر التمرد والانقلاب، فكانت النتيجة الفورية عزلة ثقافية هائلة وخوف من التفكير ومنع واسع للاجتهاد، وإطلاق أحكام الكفر والردة والبدعة على المختلفين بالرأي، مما أدى لصعود طبقة من رجال دين دعوا للتمسك الصارم والحرفي بكتابات الأقدمين وعدم الخروج عنها، وانتقاء منها ما يناسب فكرة السمع والطاعة لا غير..(مبدأ السمع والطاعة للحاكم المتغلب انتشر في هذا العصر)..
بدأ العصر المملوكي ومعه ثقافة نقل النصوص بدلا من نقدها، تقديس الحفظ والتلاوة بدلا من الخيال والإبداع والابتكار..انتشرت في هذا العصر حلقات ذكر جماعية لحفظ نصوص الحديث كالبخاري ومسلم، وشروح الفقه المختلفة، كان الطالب يحفظ ليترقى وبالتالي لم يفهم ما يحفظه، ولو فتحتم حضراتكم كتب التراث في هذه الحقبة المملوكية تراها تدور حول هذا الشئ حفظ وتلقين، ونقل نصوص، لا فهم وتدبر ونقد..
النتيجة: تراجع البحث العلمي واختفى دور الفلاسفة والعلماء وانحط شأن العقل، وصار كلمة "من تمنطق فقد تزندق" شائعة، رغم أنها لا قرآن ولا حديث لكنها من أقوال فقهاء العصر المملوكي..
حاليا بدأت النهضة تعود من جديد منذ القرن 19 واشتدت في بدايات القرن العشرين بظهور طبقة رجال دين ناقدين وفقهاء فلاسفة كالذين كانوا في عصر الحضارة الإسلامية، وظهر مصلحون كثيرون انتبهوا لخطورة هذا الأمر مثل محمد عبده والأفغاني ووحيد الدين خان..وغيرهم، ويمكن اعتبار أن نهضة الفكر الإسلامي وزوال آثار العصر المملوكي بدأت منذ 150 عام تقريبا ووصلت لأوجها الآن، لكنها لا زالت تمر بعقبات..إنما في الأخير هي عقبات طبيعية وليست شديدة أو قاسية كالتي كان عليها المسلمون في عصر المماليك..
إضافة تعليق جديد