التربية والحضارة
لا تكاد تخلو كتابات أي مؤلف انشغل بقضايا الإصلاح والتجديد أو التغيير في مجتمعه، من فكرة التربية، سواء عبر عنها بطريقة صريحة أو بطريقة ضمنية. ذلك أن التربية في جوهرها ترتبط بالإنسان ارتباطا وثيقا، وهي من صميم حياته الاجتماعية والثقافية.
وكتاب "التربية والحضارة" لمؤلفه الأستاذ محمد بغداد باي الباحث في علوم التربية بجامعة وهران غربي الجزائر، هو واحد من هذه الكتابات التي اعتنى فيها المؤلف بكشف طبيعة العلاقة بين التربية والحضارة، في إطار المعالجة الخاصة التي تتعلق برؤية كاتب واحد هو مالك بن نبي (1905م-1973م) الذي طالما ارتبط اسمه بمصطلح "الحضارة"، حيث مثلت مشكلاتها عنده مركز اهتماماته الفكرية فجاءت إثر ذلك كل مؤلفاته تحت هذا العنوان الجامع "مشكلات الحضارة".
وانطلاقا مما تفرضه الطبيعة النظرية للموضوع المبحوث المتعلق بضبط مفهوم غير معلن (مفهوم التربية) داخل إطار من الأفكار التي تمتاز بالتنوع والجدة في التناول طرحا ومعالجة، فإن المؤلف الذي يشغل أيضا منصب أستاذ الفلسفة بمدرسة "مالك بن نبي" الدولية الجزائرية في العاصمة الفرنسية باريس اعتمد المنهج التحليلي الاستنباطي من خلال العرض التحليلي لمجمل أفكار بن نبي المشكلة للمادة التي سيتأسس عليها هذا المفهوم.
يقرر الأستاذ محمد بغداد باي بداية أن العامل الحاسم في ميلاد المجتمعات عند مالك بن نبي يعود إلى حصول عارض غير عادي -أو ظرف استثنائي- تمثله فكرة دينية جديدة تدفع بالمجتمع الطبيعي إلى دخول حلبات التاريخ.
ويتأكد عنده اعتبار هذه الفكرة الجديدة كعامل محدد لحركة المجتمع التاريخية، عندما تنطفئ شرارة هذه الفكرة في النفوس لنلاحظ ما يلحق بهذا المجتمع من تراجع على كافة الأصعدة.
ومن ثم فإن تاريخ المجتمعات المتحركة وفق منظور مالك بن نبي يخضع لقانون دوري، أي أن الحضارة عنده تمر بثلاث مراحل تاريخية متباينة: مرحلة الميلاد والتكوين، ومرحلة الانتشار والتوسع، ثم مرحلة التدهور والانحطاط.
وهنا يشير المؤلف إلى أن منطق حتمية الحركة التاريخية هذا إنما هو خلاصة استنتاجية توصل إليها بن نبي بالنسبة للمجتمعات التي استهلكت تاريخها وفقدت مبررات وجودها، وذلك من خلال دراسة وتتبع فعالية الإنسان فيها في بعديه الفردي والاجتماعي ودرجات تكيفه.
هذه الحركة وهذا المسار الحتمي يخضع لقانون السببية الطبيعية الذي يقيدها إذا ما هي تركت لشأنها، وإذا لم تحاول المجتمعات الاستجابة للتحديات التي تعترض سيرها، أو أن استجاباتها هذه لم ترق إلى مستوى التحديات المنصوبة أمامها.
وفي هذا السياق وتوضيحا لرأي مالك بن نبي، يؤكد المؤلف أن سير الحركة التاريخية لا يخضع بالضرورة لقيود سببية مرحلية أو حتمية دائرية. وحدوثُ استثناء يخالف القانون من دون أن يستبعده نهائيا من الحساب، أمر ممكن يجعل من المراحل التاريخية السابقة الذكر قابلة للتغيير، ويمنح إنسان ما بعد الحضارة إمكانية التحرك في اتجاه التاريخ من جديد دون توقف.
وهو ما يعني أن الأمراض والسلبيات التي ورثها الإنسان ما هي إلا سمات التحقت به في مراحل تخلفه التاريخية، وليست -مطلقا- سمات طبيعية ملازمة للإنسان المسلم، حتى وإن كانت تطبعُ تفكيره وسلوكاته اليوم، إذ الأمر يتعلق بواقع متخلف ينبغي تغيره.
قبل الخوض في تحديد مفهوم التربية لدى مالك بن نبي يقف المؤلف عند نظرته إلى الطبيعة الإنسانية، ذلك أن التربية التي تقع على الإنسان يتحدد مفهومها عند صاحبها انطلاقا من نظرته إلى طبيعة موضوعه، أي الطبيعة البشرية.
الإنسان عند مالك بن نبي ينطوي على قيمتين: قيمته كإنسان، وقيمته ككائن اجتماعي. فالأولى تعبر عن حقيقته الفطرية الثابتة، أي عما يولد مزودا به من استعدادات بدنية وقدرات عقلية. والثانية تعبر عن حقيقته المتغيرة، أي عما يحدد فعاليته.
وعلى هذا الأساس فإن تصحيح معنى الإنسان هو السبب في تحريك دواليب عجلة التاريخ. وبناء على هذا الاعتبار يتحدد عند بن نبي محتوى التربية ووظائفها ومنهجها وأهدافها ووسائلها، ويتحدد بالتالي مفهومها.
إن أول ما شد انتباه المؤلف أثناء محاولته القيام بضبط مفهوم التربية عند مالك بن نبي، هو تداخل معنى الثقافة مع معنى التربية عنده، وسبب هذا التداخل أن الثقافة هي المحتوى الذي يجب أن تهتم به التربية، وهذا يدل على أن التربية عملية تثقيف متواصلة تقوم في أولى مهامها بتركيب عناصر ثقافة المجتمع في بنية شخصية الفرد، وهو ما يكسبها معنى المنهج الذي بواسطته يتم تشكيل وحدة الثقافة التي تعكس حضارة المجتمع، وذلك عبر تشكيل العوالم المؤلفة لها وتوجيهها نحو الغاية التي ترسم لها.
ويزيد كسبها لمعنى المنهج وضوحا في تشكيل عوالم الثقافة هذه وتوجيها، وذلك من خلال عملية التركيب النفسي لعناصر الثقافة -المبدأ الأخلاقي، المبدأ الجمالي، البعد العملي والجانب الفني-وترتيبها وفق ما ينسجم مع الوجهة التي يختارها المجتمع لنفسه في شق طريقه نحو الحضارة.
وعملية التركيب النفسي هذه تدل على أهمية الإنسان البالغة بالنسبة لعملية إعادة البناء الحضاري فهي تقوم بتغيير نظرته لنفسه ولأحداث التاريخ، فيتحدث بذلك موقفه ومسؤوليته إزاء وضعه المجتمعي ومصيره. وبهذا تصبح هذه العملية مرتبطة بنتاجها المتمثل في تغيير السلوك.
ولأن التربية عملية تثقيفية متواصلة يلخص المؤلف أنها ليست ظرفية تتعلق فقط بمرحلة تاريخية معينة، وإنما هي ديناميكية تتطور بتطور المجتمع، آخذة في الاعتبار كل ما ينتج عن ذلك من تغير وتحول على جميع الأصعدة، وهي بهذا تتجاوز في فكر بن نبي حدود المؤسسة التعليمية لتمس مختلف مجالات الحياة في المجتمع ومؤسساته، لتلتقي بذلك مع النظرة الحديثة إلى التربية والتي لم تقتصر -كما يؤكد المؤلف- على المدرسة وحدها ونظامها الهرمي ولا على السنين التي يقتضيها التعلم بها، بل امتدت لتشمل مجالات الحياة كلها وكامل مراحل الإنسان وجميع فئات المجتمع.
من هنا يتبين لنا أن التربية في الفكر الحديث كما في فكر مالك بن نبي، مكتسب مرن -لا وراثي جامد- توصف بالاستمرارية والقابلية للتغير والتطور.
وبناء على ما تقدم يؤكد المؤلف أنه لما كان التغيير الذي ينشده مالك بن نبي ينطوي على مفهوم عام واسع يشمل الإطار الثقافي برمته، فإن مفهوم التربية الملازم له يصبح هو الآخر مفهوما عاما واسعا، ليرتبط بنفس هذا الوسط الثقافي والاجتماعي في حركته التاريخية عبر جميع مراحل مشروع البناء الحضاري، وهذا في التصور الفلسفي العام لبن نبي.
الحديث عن الأهداف الكلية للتربية هو من صميم "فلسفة التربية" التي تتشكل في كنف فلسفة المجتمع العامة وتصوره للإنسان والحياة والكون، وبالتالي فإن أهداف التربية في فكر مالك بن نبي تبدأ أساسا من اعتقاده بأن الحضارة بناء داخلي تاريخي متدرج ومتواصل يبدأ من نقطة معينة، هي هذا الواقع الماثل بكل ما يحمله من رواسب وآفات، ومن ثم تكون فكرة التغيير هي الهدف الأول الذي لا مناص من بلوغه، وذلك بانتهاج طريقين متعاكسين تعبيرا، متكاملين مقصدا.
في المرحلة الأولى ينبغي القيام بعملية تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخلقي والثقافي مما فيه من عوامل قتالة ورمم لا فائدة منها، أي بطريقة سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي. وهذا ما يعرف عنده بالتجديد السلبي.
وفي مرحلة لاحقة ينبغي القيام بعملية تطعيم هذا الوسط الثقافي بأفكار فعالة تبعث فيه الحياة من جديد، أي بطريقة إيجابية تصلنا بالحياة الكريمة وهذا ما يسمى بالتجديد الإيجابي.
بيد أن التغيير هذا وإن كان يريده "بن نبي" جذريا لن يتحقق في نظره إلا باستعادة المجتمع لمبررات وجوده الأصلية المؤسسة على قيم الروح. هذه المبررات التي أدخلته التاريخ أول مرة، وصاغت مرجعيته الثقافية الخاصة آنذاك. لهذا نراه يتحدث عن التغيير من منطلق "إعادة البناء".
ولأن التربية بحكم طبيعتها الديناميكية لا تتحرك في فراغ، بل لا بد لها من أهداف منتقاة تسير بمقتضاها، وتتمكن من خلالها من ترجمة قدرة التصور النظري في التغيير على أرض الواقع، عدَّد المؤلف عدة أهداف جزئية للتربية منها: تنمية الوعي، وتربية الإرادة على الحق، وتكوين الذوق العام، والاهتمام بالتكوين الفني والمهني، وتقديم الواجب على الحق، وغيرها من الأهداف التي تنتهي في مجملها إلى تدريب الإنسان على أسلوب التفكير المنطقي الذي يربط الأسباب بمسبباتها، ويصله بشروط العمل الموضوعية التي تزيد من فعاليته وخبرته.
وبما أن الهدف العام للتربية لا يتوقف عند تحقيق التغيير الذي ينتهي بإقامة الحضارة وبدورها الرسالي وإنما يتعداه إلى البحث عن الآليات التي تحفظ هذا التغيير من التراجع والمجتمعَ من النكوص، يشير المؤلف إلى تركيز مالك بن نبي على التجديد المستمر للحوافز والمبررات للإبقاء على الحالة الحضارية، لأن استمرار الحضارة يدل على وجود حركة دائبة تخضع لقانون فيزيائي قوامه أن "الحركة هي التي تؤدي إلى أسبابها".
وبهذا تصبح حركة التاريخ -إذا ما تحقق هذا الهدف- غير قابلة للحتمية التاريخية، ويصبح تسريح عجلة الحركة أمرا يتعلق بالشعور العميق الذي يعتري الإنسان بثقل وضعه المتخلف وبالوعي بالذات الذي يكون سببا في تشكيل الحوافز الموقظة لتلك الإرادة النائمة، واستجابتها وتحديها للوضع المتردي.
أما عن وسائل التربية التي عول عليها بن نبي في عملية إعادة بناء الكيان الحضاري الذاتي، فقد وصفها المؤلف بأنها وسائل أولية في متناول الإنسان المسلم، إذ أنها تكون مرتبطة به في كل حين نظرا لأنه هو الذي تُعزَى إليه عملية البناء.
وتتمثل هذه الوسائل في القلب الذي يرمز إلى الضمير، واليد التي ترمز إلى العمل، والعقل الذي يرمز إلى الفكرة (التخطيط)، ذلك أنه ما من نشاط إلا ويصدر عن دوافع القلب وتحركات اليد وتوجهات العقل، ولأن الوسائل الأولية لا تفقد أهميتها مهما تقدم الإنسان في مسيرته الحضارية وتقدمت وتنوعت وسائله تبعا لذلك، ما دامت ترتبط به وبفعاليته.
ختاما وتبعا لما سبق ذكره وتحليله في الكتاب، يؤكد الأستاذ محمد بغداد باي أن الإصلاح التربوي إصلاح متكامل، وأن أي استعارة ارتجالية استعجالية دونما تخطيط فإن مردها إلى المسخ، بعد سقوطها في شباك التبعية.
سكينة بوشلوح
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد