سوريا أمام مفترق صراع الكبار: تسوية معقدة أم استثمار في الحرب؟
أميركا لن تتخلى عن السلام، لن تتخلى عن الشعب السوري، كلامٌ من المفارقة اعتباره تهديداً. لكن في سياقه، في مضمار الصراع بالوكالة مع روسيا، هذا الاعلان ليس أقلّ من تحدٍّ يَعِد بالجاهزية لجولة حربٍ أكثر شراسة. الكلام لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، ولاستخلاص عبره، يكفي إيراد أن تحقيق السلام، وفق الأميركيين، لن يكون بغير تنازل روسي يُفسِح أمام مظلّة حظر طيران تحمي مناطق محددة لفصائل المعارضة. من يراقبون المشهدَ في الكواليس يقولون إن القادم أعظم، وتقديرُهم أن قرار تعليق محادثات أميركا وروسيا يعني أنهما قررا سلوكَ طريق الخلاف المكلف جداً للسوريين. آخرون يراقبون من الجهة الروسية، يقولون إن الباب لم يُغلق تماماً، لافتين إلى بصيص تسوية لا تزال ممكنة رغم ضعف احتمالاتها.
كلا الرأيين السابقين يجدان ما يسندهما في رسائل اللاعبين الرئيسيين. تلك الرسائل، إن وجدت حقاً، من باب عدم القطع التام، جاءت مغلّفة بطبقات سميكة من الاتهامات والمسبّات السياسية. خطاب كيري الطويل في بروكسل، أمام مؤسسة «جيرمان مارشال» الداعمة لسياسة واشنطن، يمكن الخروج به برسالتين. الأولى أنه إذا كان من عودةٍ عن القطيعة مع روسيا، فعلى الأخيرة أن تتخذ الخطوة الأولى، بإنهاء الحصار عن حلب تحت عنوان إدخال المساعدات. بالنسبة لكيري هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة. إذا اختارت موسكو عدم التجاوب، فحينها تتوعدها واشنطن بالغرق في مستنقع «ست حروب تجري في سوريا»، كما قال كيري بنفسه، ولو من باب إطلاق توصيف جديد.
ليس معروفاً حقاً إن كان في كلام كيري بالفعل إبقاءٌ لـ«بصيص أمل»، كما رأت بعض المصادر، لا سيما أنها تعليقاته الأولى بعد إعلان بلاده انهيار المحادثات مع الروس. إذا كان الأمر كذلك، فهو بالفعل كرّر، بشكل لافت، أن روسيا «تعرف تماماً ما يجب فعله»، معلقاً احتمال إعادة التواصل بخطوة يجب أن تقوم بها موسكو. الأمر بحسب كيري له بعدان، واحدٌ متعلق بإعادة التواصل، والثاني بتطبيق الصفقة الممكنة.
بالنسبة لإعادة التواصل، على افتراض أنه يعني ما يقوله، يبدو أن الوزير الأميركي يقترح مخرجاً واحداً يتعلق بفكّ الحصار عن حلب، عبر فتح ممر دائم للمساعدات الانسانية. في هذا السياق، قال كيري إن «الحل السياسي هو الطريقة الوحيدة لانهاء حمّام الدم، والحفاظ على إمكانية بقاء سوريا موحدة، لذا سوف نعمل لخلق الشروط التي تسمح بمواصلة المحادثات بين الأطراف» السورية، قبل أن يلزّم ذلك بمشروطية المبادرة الروسية لأن «روسيا والنظام يعرفان تماماً ما عليهما فعله للتماشي مع القانون الدولي وللوفاء بالاتفاقات التي صرحا علنا ومرارا أنهما سيطبقانها».
أما بالنسبة للمنتظر إذا بادرت موسكو فعلاً، فالصفقة الممكنة تستوجب تواضعا في الطموحات. هنا شدّد كيري على أن واشنطن ستواصل العمل على «وقف أعمال عدائية على امتداد البلد، يكون مستداماً وذا مغزى»، مستدركاً أن «هذا يتضمن إبعاد الطائرات الروسية والسورية في منطاق محددة، وروسيا تعرف تماماً ما تحتاج فعله من أجل تطبيق هذا الوقف بطريقة عادلة ومنطقية».
العنوان العريض لتلك الاحتمالات لم يكن فقط الدعوة الخشنة، بل أيضاً التأكيد أن عناد روسيا لن يلقى من واشنطن سوى المزيد من العناد أيضاً، خصوصاً مع تأكيد كيري أن بلاده «لن تتخلى عن الشعب السوري ولن تقطع مع مسار السلام». على هذا المنوال، يُمكن ايراد كلام كيري في وصف مدى تعقيدات الحرب السورية التي تحولت مستنقعاً لصراعات كثيرة، بما يعني أن صدارة موسكو ستُكلفها الغرق فيه. قال الوزير الأميركي إنه «أحياناً، نقول إن سوريا مكان حيث تجري ربما ستة حروب في الوقت ذاته: الأكراد ضد الأكراد، الأكراد ضد تركيا، الشيعة ضد السنة، ناس ضد داعش، ناس ضد الأسد، إيران والسعودية، الفرس والعرب، مع مجموعات (معارضة سورية) معقدة».
وشن وزير الخارجية الاميركي هجوما عنيفا على دمشق وموسكو، قائلاً انهما «رفضا الديبلوماسية من اجل مواصلة انتصار عسكري يمر بجثث مقطعة ومستشفيات تتعرض للقصف واطفال مروعين في أرض معاناة». وأكد ان الولايات المتحدة «لم تعلق جهود تنسيق التحركات لتجنب التصادم بين جيوشنا والجيش الروسي بشكل يقوي معركتنا ضد داعش»، مضيفاً «كما في السابق سنواصل السعي الى وقف دائم للأعمال القتالية عبر كل انحاء البلاد يشمل ابقاء المقاتلات الروسية والسورية على الارض في مناطق معينة».
هناك من قرأ تلك الرسائل بطريقتين مختلفتين، نوعاً ما. هناك مصادر رفيعة المستوى، قريبة من موسكو، قالت إن «الباب لم يغلق تماماً، لا يزال هناك بصيص أمل». لفتت المصادر إلى كلام كيري باعتباره إفساحاً للمجال أمام «إمكانية صغيرة ومعقدة» لاعادة التواصل مع روسيا. اعتبرت أن الأمر يتعلق ببادرة «حسن نية» تأتي من موسكو عبر السماح بمرور للمساعدات الانسانية إلى حلب. ربما من المفيد هنا التذكير أن المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا اعتبر أن المرحلة المقبلة، بعد الاستعصاء الاميركي ـ الروسي، عنوانها التركيز على جهود «الاغاثة».
كلام كيري يمكن مقاطعته، وفق تلك القراءة «المتفائلة»، مع حديث مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين. الرجل طلب عدم الولولة على قطع المباحثات كما لو أنها مسألة «كارثية»، معتبرا أن المحادثات يمكن أن تعود تحت مظلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. بدوره، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن روسيا تفضل الاعتقاد بان أميركا ستتحلى بـ «الحكمة السياسية»، بما يعني تواصل المحادثات الثنائية «في الحالات الحساسة جدا والضرورية لصيانة السلام والأمن»، طبعاً مع التشديد أنه رغم تزايد التعقيد، فإن بلاده «ستواصل دعمها للقوات الجوية السورية في محاربتها للارهاب».
لكن مصادر أوروبية، واسعة الاطلاع على كواليس تلك المحادثات، قالت إن التصريحات من الطرفين «مجرد غطاء لحقيقة أن الحرب تتجه إلى مرحلة أسوأ». المصادر لفتت إلى أن «من يمكنهما إيجاد مخرج للحرب هما فقط روسيا وأميركا، كان بإمكانهما التوصل لتسوية طبعاً في حال وجدتا أن مصلحتهما تتحقق، لذلك فتعليق المحادثات يعني أنهما قررتا فعلا أنهما الخلاف وليس الاتفاق».
القضية أبعد من أن تتوقف على شروط الصراع السوري بذاته، كما تشدد المصادر، لكنها ترى أنه من سوء حظ السوريين كيف تحولت بلادهم إلى منصة مثالية لاعادة توزين اللاعب الروسي دوليا. تقول المصادر حول ذلك «روسيا، تحديداً بوتين، تريد إقراراً أميركياً بانها لاعب مقرر من وزن الولايات المتحدة، لكنها الأخيرة مترددة جدا في السماح لهم بلعب هذا الدور، لذلك فكل الصراعات والمصالح تحضر في إطار خلاف الطرفين في سوريا».
وفق هذا المنحى، تبدي المصادر تشاؤماً كبيراً تجاه تطورات الحرب السورية. تقول حول ذلك «إعلان أميركا وروسيا أنهما قررتا الخلاف على الاتفاق يعطي الاشارة للاعبين الآخرين كي يستثمروا في صراعاتهم، لن يوقف ذلك الوضع الانساني بل سيصير أيضاً عنصراً لممارسة الضغوط»، قبل أن تضيف «الآن يمكن القول إننا أمام سيناريو مستنقع الحرب اللبنانية، حيث يريد الجميع الاستثمار، لأن قرار الخلاف بين أميركا وروسيا ليس للأسف سيئاً إلا للسوريين، فهو جيد لبزنس الحرب ولصراعات اللاعبين الآخرين».
وفق ذلك السيناريو المتشائم، يغدو حديث جون كيري عن البدائل توكيداً ليس أكثر. تقول المصادر إن أي حل سيكون فقط «حينما تخرج أميركا وروسيا إلى العالم وتقولان اتفقنا على هذا وذاك»، معتبرة أن عدم إيجاد تلك التسوية في إطار محادثات ثنائية يعني شبه استحالتها في أطر أكثر اتساعاً. الأطر التي طرحها كيري، مقابل الحديث الروسي عن الامم المتحدة ومجلسها كبديل، تدرجت بين مظلة «مجموعة دعم سوريا»، وصولا إلى أطر أخرى «أصغر» تكون متعددة الأطراف.
مع خلافات من ذلك النوع، من وزن جلوس الاميركيين والروس مختلفين على الأوزان الدولية، ليس معروفاً إن كان يمكن ترجيح تفاؤل أو تشاؤم، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق أصلاً ببصيص تسوية في مهبّ كل ريح صراعات فوق صراعات.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد