هل التنبُّؤات ضرورية للعلم؟
على الرغم من أن الماضي يبدو كمكان غريب، فالمستقبل هو مكان أكثر غرابةً وغموضاً، مكان مليء بالاحتمالات والوعود، والمآسي والأحزان، ولطالما سعى الناس للحصول على لمحات منه. ولأن علم الفلك من تخصصات العلم لا التنجيم، وأحشاء الحيوانات أمر يتعلق بعلم الأحياء لا بالتكهّن بالطالع، فإن التفرس في المستقبل أمر أساسي للعلم.
ما هو العلم حقًا؟
تبدو العلوم المادية مكوّنة من جزءين أساسيين، هما التجارب التي تجمع البيانات حول الكون المحيط بنا، والنظرية التي تحاول وضع معنى رياضي لهذه المرصودات. في الحقيقة، يتضمّن التعليم الجامعي في موضوع مثل الفيزياء محاضرات عن نظريات رياضية مبهمة أحيانًا، مترافقة مع وقت يُقضَى في المختبر بمعدّات لا تعمل مطلقًا بشكل صحيح.
لا شك في أن النظرية والتجربة هما جانبان ضروريان في العلم، فعملية مقارنة الاثنتين ـ عبر تحديد مسؤولية معادلاتك الرياضية في إنتاج معلومات مشوّشة ـ هي عملية ضرورية، وبالنسبة للعديد من الناس، أصبحت لغة الإحصائيات والاستدلال ونماذج المقارنة هي لغة العلم.
لكن غالبية الأقطاب العلمية تعتقد أن المنهج العلمي هو نهج «اغسل، ثم اشطف، ثم كرّر»، مترافقًا مع الخطوات العملاقة للتجربة والنظرية، فعلى ما يبدو، تؤكد النظريات عبر البيانات التجريبية، وفيما عدا ذلك فإنها تُنقض وتُلقى في سلة المهملات.
يمكن أن تكون عملية العلم الحقيقية فوضوية جدًا، لكن سؤالنا الأساسي هو حول التنبؤ العلمي في ما إذا كان يصمد أمام البيانات الفعلية ويوافقها؟ لنفرض أنك طوّرت نظرية علمية، ربما طريقة جديدة لوصف الجاذبية وكيفية تفاعلها مع العالم الكمومي، إن أول سؤال يجب أن يطرحه أي عالم نظري هو إن كانت هذه النظرية تتوافق مع كمّ البيانات الكبير الذي حصل عليه العلماء على مدى التاريخ. إن كانت نظرية الجاذبية الكمومية الجديدة الخاصة بك تتنبّأ بأنك إن ألقيت كرة 10 مرات، سترتفع للأعلى مرّة واحدة من أصل 10 بدلاً من سقوطها للأسفل، فمن الواضح أن نيلك لجائزة نوبل عليه أن يؤجل قليلًا.
تهتمّ الخطوة التالية في ما إذا كان بإمكان نظريتك الجديدة الاستمرار في تفسير العالم عندما تأتي بيانات جديدة. كلما كثرت البيانات، بشكل عام، تزداد الدقة ويقل الشك، ويمكن أن تزول الإشارات والدلالات الظاهرية عند الوصول إلى وضوح تامّ في النتائج، وغالبًا ما يحصل ذلك عند حدوث سبق علمي جديد، حيث تكون التجارب صعبة والمخاطرة مرتفعة. وحصل مثال جيد على ذلك عند اختفاء فائض الفوتون الثنائي (di-photon) مؤخرًا في مصادم الهادرونات الضخم (Large Hadron Collider)، وهو إشارة غير متوقعة لجسيم جديد، والذي من الممكن أن يكون مؤشرًا على حقبة من الفيزياء الجديدة.
تأتي بعد هذا تنبؤات التجارب التي لم تنجز إلى الآن، ألا وهي عواقب نظريتك الجديدة التي لم تختبر قط. وهنا يتوضح كل شيء حول نظريتك الجديدة، حيث تخبرك الحسابات الرياضية أنك إن أجريت تجربة جديدة، فإن أجزاء صغيرة من الكون سوف تُكشف.
في السنين الأخيرة، شهدنا اكتشاف بوزون هيغز، ورصد لايغو للأمواج الثقالية الناتجة عن تصادم ثقبين أسودين، وهما ظاهرتان جرى التنبؤ بهما قبل عقود من النجاح في رصدهما.
تضيف هذه التنبؤات الناجحة (أي التي ثبتت بعد مدة) أهمية أكبر للنظريات الكامنة خلفها، فالنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات وصف آلية هيغز وكذلك نظرية أينشتاين النسبية العامة للأمواج الثقالية، لكن لا يوجد هناك أي دليل يؤكد صحة أي منهما، وبينما يحاول العلماء التقدم بالنظرية وابتكار تجارب جديدة، فإننا نعلم أنهم سيفشلون في النهاية، ذلك لأن العالم الكمومي والعالم الثقالي غير متوافقين، وحتمًا سينفصلان يومًا ما في مكانٍ ما.
وهذا يأخذنا إلى الجزء الأكثر إثارة في التنبؤ العلمي، وهي التنبؤات الفاشلة التي تضيء الطريق. يصف توماس لفينسون بدقةٍ في كتابه «Hunt for Vulcan» كيف أن فشل ميكانيكا نيوتن في تفسير مدار عطارد قاد أينشتاين لابتكار نظريته عن الجاذبية، وكيف أن ماكس بلانك وثق فعله اليائس في تكميم الكون (تطبيق النظرية الكمومية على الكون) لتفسير الإشعاع الآتي من الأجسام الساخنة. إذاً كما نرى، في كلتا الحالتين قاد الفشل في العلم لتحقيق ثورة جديدة.
نحن نعيش في عصر مهم، حيث يوصف كل من العالم الكمومي والعالم الكوني بنماذج قياسية هي عبارة عن أسس رياضية تستمر بالإتيان بتنبؤات قوية ودقيقة، أما بالنسبة للأسئلة فهي مستمرة، لكن كذلك يستمر النموذج القياسي في خدمة العلم، لكن كما رأينا، فإن هذه النماذج القياسية تتعارض مع بعضها في نهاية المطاف، ولا بد أن تفشل في النهاية، فهنالك أشياء يجب عليها أن تفسرها كماهية المادة المظلمة، وكيف بدأ الكون، لكنها ببساطة لا تملك إجابات. ربما يكون السبب في ذلك أن بعض الأجزاء مفقودة، أو ربما علينا أن ننسى ما مضى ونبدأ من جديد. نستمر بالإتيان بالتنبؤات، وفحصها بالتلسكوبات والمصادمات، وهي تستمر بإثبات صحتها، لكن العلماء ينتظرون الآن بفارغ الصبر أن تفشل حساباتهم في ما يخص المستقبل، فترشدهم لما يجب أن نفعله لتحقيق القفزة الفكرية التالية.
(«ناسا» بالعربي)
إضافة تعليق جديد