التلّي يخرج من الجولاني.. تمهيداً لـ”سورنة” النصرة!
أخيراً، وصل أبو مالك التلّي إلى نقطة اللاعودة في علاقته مع أميره أبي محمد الجولاني وقرّر تقديم استقالته من منصبه في “هيئة تحرير الشام”.
ومن بين جميع الخلافات والأسباب التي تراكمت طوال السنوات الماضية وكانت تدفعه نحو الاستقالة، اختار التلّي أن يستند في تبرير قراره إلى سبب وحيد هو “التهميش”: “عزمت مفارقة هيئة تحرير الشام، وذلك بسبب جهلي وعدم علمي ببعض سياسات الجماعة أو عدم قناعتي بها”، كما جاء في البيان الذي صدر عنه يوم الثلاثاء الماضي.
وبرغم محاولة التلي إبقاء شعرة معاوية بينه وبين قيادة “هيئة تحرير الشام”، عبر تأكيده على “بقاء الأخوة الايمانية” وتدبيجه بعض عبارات المديح والثناء في “فضائل هيئة تحرير الشام”، فإن ما بين أسطر البيان كان يرشح بمدى الخيبة التي يشعر بها التلّي من توجهات الجولاني الجديدة في ظل التطورات التي تعصف بالشمال السوري، وعدم قدرته على مسايرتها.
وفي البيان خطّ فاصل بين “التهميش” و”القناعة” إذ لم يقتصر التلي على التذمّر من استبعاده من دائرة القرار وحسب، بل أشار بوضوح إلى عدم قناعته ببعض القرارات التي على ما يبدو كان ما يزال يشارك في مناقشتها. وهذا الخط يكفي لاستبعاد أن تكون الاستقالة مجرد ردّ فعلٍ شخصيّ على تهميشه وعدم استشارته، بل الأرجح أنها تمثل جناحاً ضمن الهيئة بات يجد صعوبة كبيرة في ابتلاع التحوّلات الجذريّة التي يقوم بها الجولاني بين الفينة والأخرى وفقاً للتطورات الميدانية وعلى ضوء قراءته للأوضاع الاقليمية والدولية.
وتقف “هيئة تحرير الشام” أمام مفترق طرق حاسم، منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا في الخامس من شهر آذار/مارس 2020. وتذهب معظم التوقعات إلى أن استجابة الجولاني للظروف الجديدة التي تولّدت عن الاتفاق ستأتي على شكل “تحوّل جديد” يقود الهيئة إلى موقع مختلف عما هو عليه حالياً.
وقد يكون هذا هو التحول الأخير الذي سيفصلها عن الدوران في فلك التنظيمات الجهادية بشكل نهائيّ، ويضعها في مدار الحركات المضبوطة جغرافيّاً وعقائديّاً.
ولعلّ في الأفكار التي طرحها الجولاني في مقابلته مع “مجموعة الأزمات الدولية” قبل عدة أسابيع ما يشي بالخطوط العريضة للتحول المرتقب.
ومن شأن ذلك تجديد التساؤل حول ماهية القرارات التي اتخذتها قيادة “هيئة تحرير الشام” في الآونة الأخيرة ولم يقتنع بها أبو مالك التلي دافعةً إياه إلى خيار الاستقالة الذي استبعده أكثر من مرة في السنتين الماضيتين.
قد يكون من المتعذر معرفة هذه القرارات بتفاصيلها وامتداداتها وعلاقتها بالتطورات التي شهدها ملف منطقة خفض التصعيد بإدلب، غير أن استقالة التلي من شأنها أن تفتح باب التكهن على مصراعيه خاصة أن الأخير كان من بين المعارضين المتشددين داخل الهيئة للذهاب بعيداً في خيار الانحناء أمام الضغوط التركيّة، وتحول الهيئة إلى مجرد أداة لخدمة سياسة أنقرة في الإقليم.
وتتراوح الآراء حول المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الجولاني في تحولاته المرتقبة، فيرى البعض أن الجولاني سيعمل على محورين: الأول، استرضاء الجانب التركي من خلال تسهيل تنفيذ بعض بنود مذكرة موسكو، أو تنفيذها بأسلوب مختلف لا يزيد من إحراجه. والثاني، مواصلة اللعب على حبال تناقضات بعض السياسات الاقليمية والدولية بخصوص إدلب لابقاء هامش من المناورة أمامه قد يستفيد منه مستقبلاً. لكن البعض الآخر يرى أن الجولاني قد يكون باع نفسه للشيطان فعلاً وأن القرارات التي لم “تُقنع التلي” ليست سوى قبول الجولاني بالانضمام إلى “الجبهة الوطنية للتحرير”، وإن كان ذلك مشروطاً ببقائه مستقلاً، حسب ما ذكر “أس الصراع” القيادي السابق في “جبهة النصرة” في تغريدات على حسابه في تويتر.
وأشار “صالح الحموي” أو “خالد باطرش” أو “خالد حسن نجيب” وهي جميعاً اسماء يحملها صاحب حساب “أس الصراع”، إلى أن التلي لم يخرج وحده من الهيئة بل خرج معه حوالي 250 مقاتلاً معظمهم من المنتسبين إلى “جيش علي” في الهيئة.
وفي محاولة لإضفاء مصداقية على كلامه، زعم أنه هو من أقنع التلي بمبايعة “جبهة النصرة”، وأنه أخذه بيده إلى مشروع دمر حيث كان الجولاني بانتظارهم، وذلك من دون أن يحدد تاريخ هذه الحادثة، لكن قد يكون من المرجح أنها جرت في الربع الأخير من عام 2011.
وتأتي استقالة التلّي التي تزامنت مع استقالة بسام صهيوني من منصبه في رئاسة مجلس الشورى العام، بعد انشقاق أبو العبد أشداء عن “هيئة تحرير الشام” قبل عدة أشهر. والقاسم المشترك بين هؤلاء الثلاثة أنهم جميعاً يحملون الجنسية السورية، بمعنى أن تمهيد الجولاني لإجراء تحولات جديدة في جماعته لم تستفز القيادات الأجنبية بل تركت تأثيرها الأكبر على القيادات السورية.
بعبارة أخرى، يمكن القول أن ما كان يفترض أن يكون “سورنة جبهة النصرة” لجعلها كياناً معتدلاً مقبولاً إقليمياً ودولياً، انقلب على ما يبدو إلى “سورنة الانشقاقات عنها” وبالتالي بقاء كتلة المقاتلين الأجانب فيها من دون أي تغيير.
وقد يشكل ذلك في حال استمراره وتحوله إلى نهج لتصفية الصراعات الداخلية ضمن الهيئة إلى إجهاض جميع مساعي الجولاني لتلميع صورته والتعلق بأطراف الاعتدال المرضيّ عنه غربياً.
وكان أبو مالك التلي واسمه الحقيقي جمال زينية، يشغل منصب أمير “جبهة النصرة” في القلمون الغربي في غرب سوريا (عند حدود لبنان الشرقية وتحديدا منطقة عرسال)، وقد قاد أول خلاف حقيقي مع قيادته العامة عندما اصدر في عام 2014 بياناً يؤكد فيه أخوته مع تنظيم “داعش”، رافضاً توصيفه بالخارجية (من الخوارج) والاشتراك في محاربته، وذلك خلافاً للموقف الذي اتخذه الجولاني بعد مقتل أبي خالد السوري القيادي في “أحرار الشام” ووسيط “القاعدة”.
ثم حصل خلاف آخر حول ملف المفاوضات بخصوص الجنود اللبنانيين الذي كانت تأسرهم “جبهة النصرة” حيث عمد الجولاني إلى سحب ملف التفاوض من يدي التلي ليستلمه شخصياً.
وعكست هذه الخطوة إنعدام الثقة بين الرجلين، خاصة أن إنهاء ملف الراهبات المختطفات في معلولا عاكس أهواء الجولاني ومصالحه من ألفه إلى يائه.
وبعد ركوب التلي الباصات الخضراء، وهي كناية عن الاستسلام والهزيمة، وتوجهه، عام 2017، من مرتفعات القلمون إلى محافظة إدلب، لم تكن علاقته مع الجولاني بأحسن أحوالها، بل قد يكون القرب المكاني ساهم في تعميق الفجوات بين الرجلين وتوجهاتهما. وقد انعكس ذلك في مواقف التلي أكثر من مرة سواء عبر اعتكافه المتكرر في منزله احتجاجاً على بعض القرارات والتوجهات، وصولاً إلى تهديده بالاستقالة أكثر من مرة كان آخرها في شباط/فبراير 2019 قبل أن يتراجع عنها معلناً أنه فعل ذلك تحت تأثير عدد من “الأخوة”. وقد بلغ الأمر بين الطرفين إلى درجة أن البعض اعتبر أن اغتيال عروة نجل التلي في أواخر عام 2017 جاء نتيجة لتلك الخلافات.
لكن يبدو أن كأس التلّي قد طفح بماء الخلافات ولم يعد قادراً على استيعابها وتحملها خصوصاً أن الأمور وصلت إلى نقطة تتقاطع فيها الحسابات السياسية والعسكرية مع الحسابات العقائدية والايمانية، ومن هنا جاء قرار الاستقالة محملاً بالبعد الشخصي بالدرجة الأولى لكنه يعكس أيضاً حجم الصراع الذي يدور في أقبية “جبهة النصرة” والمخاض العسير الذي تواجهه ولادة “تحولات الجولاني” في آخر نسخها ربطا بالديناميات التي ولدها التفاهم الروسي التركي في شمال سوريا في آخر نسخه.
عبدالله سليمان علي
إضافة تعليق جديد