سيرة رشيدة التي بدأت بائعة في المنازل وانتهت بوزارة العدل الفرنسية
سمراء جذابة ومفرطة الذكاء تتولى منذ ايام منصب وزيرة العدل في فرنسا. انها رشيدة داتي المغربية الأصل التي ولدت من ابوين أميين في عائلة متواضعة, ودرست وثابرت وكبرت... وفي النهاية وصلت.
ما قصة هذه الكادحة السمراء التي سطع نجمها في معركة نيكولا ساركوزي, المهاجر هو الآخر, والتي تمثل اليوم الحضور الأكثر تألقاً بين أبناء جيل المهاجرين الثاني.
ولدت في أسرة مهاجرين فقيرة من والد مغربي يعمل في صناعة البناء, ووالدة جزائرية أمية تخدم في المنازل. في الرابعة عشرة من عمرها بدأت تعمل لتأمين لقمة العيش لاسرتها الكبيرة التي تتألف من 12 ولداً (هي الابنة الثانية بينهم) كبائعة مستحضرات تجميل من منزل الى منزل. بعد عامين اصبحت مساعدة ممرضة تعمل ليلاً في احدى العيادات الخاصة.
في العشرين التقت وزير العدل أبين شاندون الذي اعجب بشخصيتها وقرر مساعدتها, إلا انه لم يخطر في باله بكل تأكيد انها سوف تتبوأ ذات يوم المنصب ذاته الذي وصل اليه.
ولتولي رشيدة داتي هذا المنصب دلالات هامة. انه يشكل اولاً رسالة قوية من الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي الى خمسة ملايين مواطن مسلم في فرنسا ان هناك قطيعة مع الماضي في بلد يتمثل فيه السود والملونون في «الممتلكات» الفرنسية الواقعة في المحيط الهندي والكاريبي بسبعة نواب من اصل 577 عضواً في الجمعية الوطنية, ولا يشكل فيه المسلمون حالة سياسية واضحة. هذا الاجحاف في التمثيل كان من الاسباب الرئيسية التي ادت الى اعمال الشغب في الضواحي الفرنسية المتعددة الاثنيات والجنسيات في العام 2005 حيث يشعر المهاجرون بالتمييز ضدهم في جميع القطاعات, بالاسكان, مرورا بفرص عمل, وانتهاء بالملاهي الليلية.
حصلت رشيدة على شهادات في القانون والاقتصاد وادارة الاعمال, وعملت قاضية, ومحاسبة في القطاعين العام والخاص, ثم في البنك الدولي للاعمار في لندن قبل ان تصبح في العام 2002 مستشارة لساركوزي في مسائل انحراف الاحداث. وقد شقت طريقها بقوة لتكون من المقربين اليه بتصميم وثقة, وهي ترد التهمة بأنه قد تم اختيارها وزيرة لتجميل صورة ساركوزي في اوساط المهاجرين الذين وصفهم مرة بـ«الحثالة», وترى ان تعيينها دليل حي على ان العمل الجاد طريق الى النجاح وتخطي حاجز الفقر والتمييز العنصري, وتكشف انها كانت راغبة منذ البداية في العمل الى جانب ساركوزي وتضيف «بعثت اليه برسالة. لم اتلق جواباً. بعثت برسالة ثانية. لا جواب. كتبت اليه مرة ثالثة. اخيراً ردّ عليّ». واختيار رشيدة وزيرة للعدل له دلالات اخرى ابرزها انها تجسد التنوع في فريق الرئيس الفرنسي الجديد, والشعار الذي اطلقه خلال حملته الرئاسية حول «فرنسا الجدارة» وبالتالي هي ليست مدينة فقط للدعم الذي تلقته اولاً من شالندون, ثم من شخصيات فرنسية بارزة اخرى كوزير الخارجية برنار كوشنير, وسيمون فيل, وجاك لوك لاغاردير, وانما ايضاً, وبالدرجة الاولى, الى التعليم الحالي الذي حصلت عليه, بحيث استطاعت خلال عملها مع ساركوزي لدى توليه وزارة الداخلية ان تفرض ذاتها على فريق العمل عبر اعداد مشروعه لتجنب انحراف الاحداث, وكذلك مشاريع قوانين اخرى تتعلق بالاندماج والزيجات بالاكراه, والعنف المنزلي وما سوى ذلك من مشاكل. وهي مشاريع اسهمت في تعزيز صورته في اوساط المهاجرين كسياسي ليبرالي. وليس كيميني متطرف.
وسيكون في مقدمة مهماتها في موقعها الجديد انجاز ملف «انحراف الاحداث» الذي يعتبره ساركوزي اولوية, وهو ينص على تخفيف الاحكام ضدهم, وعدم معاملتهم كبالغين, وفي الوقت نفسه على تشديد العقوبات في حقهم اذا تكررت الاعمال المخالفة للقانون. كما ينص المشروع على عدم اطلاق سراح اي منحرف جنسي اذا رفض الخضوع لعلاج طبي, والحضور الى مقر الشرطة مرة كل اسبوعين, كذلك على اصلاح مجلس القضاء الاعلى الذي يقوم بتعيين القضاة, وهو مجلس تأديبي في الوقت نفسه, بحيث تصبح الاغلبية من اعضائه من غير القضاة ولا يكون رئيس الجمهورية رئيساً له.
من جهتهم يأمل القضاة من الوزيرة داتي زيادة المخصصات المالية لوزارة العدل التي تعتبر الادنى على المستوى الاوروبي.
الدلالة الثالثة هي ان رشيدة مثال واقعي وحسي على الاندماج الناجح في المجتمع الفرنسي. وقد تكون حالة استثنائية سواء لجهة توليها منصب الناطق باسم ساركوزي خلال حملة الرئاسة الى جانب زافيه برنار, او في منصبها الجديد كوزيرة للعدل وهي حقيبة من اكثر الوزارات اهمية وحساسية والذين قدموا لها الدعم انما فعلوا ذلك لانها كانت قادرة على اقناعهم بابتسامتها ونظرتها الثاقبة بأنها شخص يمكن الاعتماد عليه. وفي عداد صديقاتها زوجة ساركوزي سيسيليا التي ترتبط معها بعلاقات وثيقة.
وقد تكون رشيدة محظوظة لأنها عرفت كيف تتلقف الفرص التي سنحت لها, بل ربما لأنها عرفت كيف توجد هذه الفرص. وربما كان وراء نجاحها ان اهلها اختاروا لها منذ البداية مدرسة كاثوليكية خاصة عوضاً عن المدرسة الحكومية, حيث اتيح لها مزاملة بنات الطبقة البورجوازية, لكن المثابرة,وتجربة كل شيء وعدم الرضوخ للأمر الواقع تبقى ميزاتها الاولى. كما انها بالدرجة الاولى ابنة بارزة. وفاة والدتها المبكرة دفعتها الى الاهتمام باشقائها وشقيقاتها, وقد كانت متعلقة جداً بوالدتها, وفي هذا الصدد نقول «كانت نور حياتي. عندما فقدتها اعتقدت انني اعاقب بقسوة».
واللافت ان وسائل الاعلام تشير الى ان رشيدة البالغة من العمر 41 عاماً عزباء, لكن موقع الموسوعة الحرة «ويكيبديا» على الانترنت يؤكد انها تزوجت في 5 تشرين الاول ـ اكتوبر ـ 2003 من رجل الاعمال اللبناني وليد درويش.
واذا كانت رشيدة قد تلقنت في منزل والديها على القيم المغربية والاسلامية التي حرصا على تلقينها اياها, فانها تبدو في الوقت نفسه غير مهتمة بالماورائيات والمسائل الدينية المعقدة المثيرة للجدل, وهي ترى انها مسائل عظيمة, وان الكفاح الاساسي هو في بناء الشخصية والحصول على المعرفة من دون التخلي عن الروحية الاقتحامية التي تجدها ضرورية في غاية السياسة والاعمال.
ويبدو ان عارفيها كانوا يتوقعون لها مستقبلاً زاهراً, فخلال عملها كمستشارة سياسية لساركوزي في العام 2003 لاحظت نشرة «منارة» المغربية انها تتمتع بجاذبية استثنائية, وانها لم تعد تحتاج الى ان تثبت اهليتها, وهي تحظى بالاحترام, وتساءلت النشرة «ماذا ستكون خطوتها التالية؟».
الدلالة الرابعة في تعيين رشيدة هي التوسع في منح مزيد من السلطة للمرأة الفرنسية, وهي اكدت على ذلك بقولها «انا لست مجرد رمزية عربية بالنسبة الى ساركوزي انا اقوم بدور استشاري حقيقي». واضافت «علينا ان نتوقف عن النظر الى الاشخاص من اصول مهاجرين كضحايا او كمشكلات, وليس من السهل دائماً الترقي في السلم الاجتماعي, لكن الجمهورية تجعل النجاح ممكناً. أليست المباريات الحكومية واحدة في كل مكان». ويستخلص من اقوال رشيدة انها لا تعتبر نفسها ممثلة للأقليات المهاجرة فقد حصلت صدامات عديدة بينها وبين ممثليهم في الضواحي, لأنهم ينتقدون مواقف ساركوزي المتشددة من الهجرة والانفلات الامني. وقد دافعت عن دعوة ساركوزي الى اعتماد «العمل التأكيدي» القائم على أسس اجتماعية اقتصادية, لا اتنية, بالرغم من ان هذه الدعوة تلقى معارضة قوية في العديد من الاوساط الفرنسية باعتبار انها تتناقض مع المبدأ الجمهوري القائل بالمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس او الديانة.
وفي المقابل ثمة انتقادات توجه الى رشيدة التي يأخذ عليها البعض دفاعها عن سياسة ساركوزي بشأن الهجرة, ويرى ان هذه السياسة لو كانت متبعة سابقا لما كان والداها قد تمكنا اصلا من الهجرة الى فرنسا. كما يؤخذ عليها انها انضمت الى فريق ساركوزي لتحقيق طموحاتها الشخصية, وليس لخدمة قضايا عامة, وأنه تم اختيارها وزيرة لاضفاء لمسة جمالية على الحكومة, على غرار اللافتات الاعلانية على صدور الحسناوات للترويج عن السلع الجديدة. وهذا الانقسام في الرأي يكشف بدوره واقعا جديدا, وهو ان ابناء الجيل الثاني من المهاجرين ليسوا متشابهين كليا, فقد يتقاسمون الخلفية الثقافية ذاتها, لكن قيمهم ليست بالضرورة واحدة.
وما هو اكثر اهمية هو ان رشيدة لن تكون المسؤولة الاساسية عن قضايا الهجرة, فقد انشئت وزارة جديدة هي «وزارة الهجرة والاندماج والهوية الوطنية والتنمية المشتركة» لتولي هذه الشؤون, وهي وزارة لا مثيل لها في كل اوروبا. حتى البلدان التي حكمتها انظمة يمينية متطرفة لم تجرؤ على انشاء وزارة مشابهة. ومن هنا تساؤل المنتقدين: ما الحكمة من انشاء وزارة تختص فقط بـ8 %من المواطنين يضاف اليهم 1.4% من الذين لا يحملون اوراقا ثبوتية؟ وإذا كان الامر كذلك فلماذا لا تنشأ وزارة مثلا للشاذين جنسيا, والنساء اللواتي يتعرضن للضرب ويمثلن نسبة 10.7 %من نساء فرنسا علماً ان مهمة هذه الوزارة, هي منح التأشيرات, وبطاقات الاقامة, ومتابعة شؤون التجنس, وبالتالي ملاحقة شؤون الاجانب من الالف الى الياء, وفصلهم عن بقية المواطنين حتى المتجنسين بينهم.
هذه الصلاحية كانت معطاة لوزارة العدل التي تقرر ضمن شروط معينة من يحق له ان يكون فرنسيا, وحاليا صار هذا الحق مرتبطا بالهجرة والاندماج والهوية الوطنية والتنمية المشتركة.
تعزز الشكوك حول عنصرية حكومة ساركوزي الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الجديد فرانسوا فيون لمقر اقامة النساء اللواتي يتعرضن للضرب, حيث لم تظهر سوى صور لنساء سود يحملن اولادهن فوق صدورهن, مما اوحى بأن النساء السود وحدهن هن الضحايا. ومعروف ان امرأة فرنسية تموت كل اربعة ايام جراء الضرب, وأن 10% من النساء يصرحن علناً انهن يتعرضن للضرب, وبالتالي لو كانت كل المهاجرات هن الضحايا لما وصلن الى هذه النسبة, مما يعني ان الضرب يشمل مختلف الشرائح الاجتماعية وهو ليس حكرا على المهاجرين.
وباختصار شديد المهاجر في فرنسا يشعر انه يعامل كالشعرة التي يتم العثور عليها في صحن الطعام, ووصول رشيدة الى موقع القرار لم يبدل هذا الانطباع حتى الآن.
حسان كوري
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد