تحشيد أميركي في شرق الفرات.. حرب أم ردع؟
يشاهد سكان شرق الفرات أرتالاً من الشاحنات العسكرية الأميركية وهي تمر بشكل يومي نحو حقل العمر أو القرية الخضراء، محملة بمعدات عسكرية عُرفت منها دبابات قتالية وعربات مصفحة ومدفعية بعيدة المدى وجسور متحركة. ولم يُكشف عن محتوى عدد كبير من الشاحنات المغلقة، لكن مصادر إعلامية أميركية موثوقة تحدثت الشهر الماضي عن نشر منظومة صواريخ أرض-أرض “متحركة” قصيرة ومتوسطة المدى من نوع HIMARS، للمرة الأولى في سوريا.
وتتزامن هذه المعلومات الميدانية مع أخبار عن نشر واشنطن لطائرات اف-22 المتقدمة في الشرق الأوسط، إضافة إلى طائرات الدعم الأرضي القريب إي-10.
والسؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهن من يتابع هذه التطورات هو عما إذا كانت واشنطن بصدد شن حرب في المنطقة، خصوصاً أن مصادر عديدة غير موثوقة راحت تتحدث عن مخطط لوصل قاعدة التنف التي تسيطر عليها الولايات المتحدة أيضاً، بمناطق شرق الفرات، وقطع الجسر الإيراني إلى المتوسط في منطقة البوكمال، وهو السيناريو الذي نعتقد أن الترويج له هو جزء من استراتيجية أميركية تسعى إلى الهدف المعاكس لما نشاهده من تحضيرات، أي منع وقوع حرب.
عندما يشاهد المرء هذا التحشد العسكري الأميركي في تلك المنطقة، فإنه لا بد أن يتفحص المشهد لمعرفة الخصم الذي يحتمل أن يكون هدفاً لهذه التحركات أو الهجوم المحتمل. وهناك سيجد أربعة خصوم لا تشير أوضاعهم إلى أسباب كافية للقيام بعملية عسكرية ضد أي منهم.
أوّلهم، الخصم التقليدي، وهو تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وهذا في حالة موت سريري، وتكاد خلاياه التي كانت تبث الذعر في المجتمع المحلي وقوات سوريا الديموقراطية، تختفي تماماً من المشهد.
وقد كشف شريط فيديو بث مؤخراً لمجموعة متعاونين مع التنظيم في ريف دير الزور الغربي، أن أعضاءها الذين نفذوا كافة العمليات المنسوبة لداعش هناك خلال نحو سنة، كانوا يعملون بصفة قتلة مأجورين يدفع لهم مبلغ صغير لا يصل إلى مئة دولار مقابل كل عملية ينفذونها، وأن هؤلاء ليسوا أعضاء أصيلين بالمعنى الأيديولوجي، ولم يتلقوا أي تلقين تنظيمي ممنهج، بل أن نحو نصفهم من المراهقين العاطلين عن العمل. ويمكننا الانطلاق من هذا المثال الوحيد على نشاط التنظيم في السنة السابقة، لتعميم الحالة والقول داعش لم يعد قوة أمنية منظّمة ومتشعبة، وأنه فقد الزخم الأيديولوجي والموارد المالية، وهو عاجز فعلياً عن شن عمليات اغتيال صغيرة، وليس من المنطقي أن يتم حشد هذه الأسلحة تحسباً لمعاودته الظهور.
أما ثاني خصوم واشنطن المُعلَنين فهو الحكومة السورية، واستراتيجية واشنطن نحوها ما زالت على حالها وهي الضغط عليه عبر العقوبات لإضعافها وإرغامها على التفاوض مع المعارضة.
أما الحكومة السورية من جهته، فتضع نصب عينيها مسألة اجبار القوات الأميركية على الانسحاب واستعادة الموارد النفطية والزراعية في شرق الفرات، لكن أدواتها محدودة للغاية، وتقتصر على التواصل مع السكان أو تطلق صواريخ محدودة القوة على القواعد الأميركية، وهي أنشطة ليست خطيرة، وليس من المحتمل أن تكون قوات الجيش السوري تبعا لذلك هدفاً لهذه الاستعدادات الأميركية.
أما الخصم الثالث لواشنطن في شرق الفرات، فهو روسيا، وهنا يجب أن نميز بين القوات الروسية النظامية، متمثلة في الشرطة العسكرية والقوات الجوية والدفاع الجوي الروسية المتمركزة في مطاري دير الزور والقامشلي، وهذه من غير المحتمل أن لديها نية أو قدرة للتحرش بالأميركيين في ظل ظروف الحرب الأوكرانية.
أما مليشيا “فاغنر”، فلديها الأسباب والقدرة على ذلك، وقد كان لافتاً أن يفغيني بريغوجين نشر لأول مرة صوراً للمحرقة الأميركية لقواته في منطقة خشام سنة 2018 عندما حاول الاستيلاء على معمل غاز كونيكو، وانحنى باللائمة على وزارة الدفاع الروسية التي امتنعت عن تقديم العون له.
لكن هذه الفرضية التي يمكن أن تدعم بحجة أن المغامر بريغوجين يمكن أن يلجأ لتفجير صراع مع الأميركيين في المنطقة للضغط على الكرملين، باتت غير واردة بعدما انهارت امبراطوريته، إذ سارع الجنود الروس إلى اعتقال رجاله في دير الزور وسلموا مقراتهم للإيرانيين أو للسكان المحليين.
إن الجانب الروسي ليس بوارد التحرش بالأميركيين، وإذا كان بريغوجين قد خطط لذلك في وقت ما، فإن هذا المخطط انتهى الآن، فلماذا تستمر الأسلحة الأميركية بالتدفق؟
في تصورنا أن الخصم الوحيد الذي يمتلك الأسباب والموارد والإرادة والاستراتيجية للضغط على الوجود الأميركي في شرق الفرات، هو إيران. فالنظر إلى خرائط النفوذ يظهر أن الممر الإيراني نحو الغرب يعاني اختناقاً شديداً في شرق سوريا، ويكاد يقتصر على شريان ضيق في البوكمال الحدودية.
ومن دون السيطرة على الضفة الأخرى من نهر الفرات، على الأقل، سيبقى الممر والمشروع الإيراني برمته في خطر.
بل يمكن لمن يدقق في الخرائط والأنشطة جيداً أن يلاحظ أن محافظة دير الزور ليست فقط المحور الأساسي لعمل الحرس الثوري الإيراني في هذه المرحلة، بل مركز ذلك الحرس الفعلي والتي تقع جغرافياً في قلب مناطق نفوذه في العراق وسوريا ولبنان، ولا تعاني سوى من وجود القوات الأميركية في جوارها الحيوي القريب.
وبذلك فإن مناكفة هذا الجار ومحاولة دفعه للرحيل قد تكون الهدف الاستراتيجي على الصعيد الإقليمي لكل السياسة الإيرانية في هذه المرحلة المتقدمة من مراحل الصراع على النفوذ والأرض في الشرق الأوسط.
نحن إذاً أمام استراتيجيتين متباينتين. أميركية تريد الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا لاستمرار ممارسة دور استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط يتمثل في الضغط على كافة قوى المنطقة، سواء الخصوم كروسيا وايران والحكومة السورية وداعش، أو حليفة مثل تركيا ودول الخليج العربي.
واستراتيجية إيرانية تقوم على التوسع للوصول إلى أقصى درجات التأثير الإقليمي والدولي.
لكن، بينما تجد إيران أن صداماً محدوداً بين فصائلها والقوات الأميركية على الأرض السورية مسألة لا بد منها، لا ترى واشنطن أن ذلك يصب في صالحها أو يفيد استراتيجية البقاء في سوريا بأقل كلفة ممكنة. فالاشتباك المحدود مع القوات الإيرانية سيكون هزيمة لقواتها، إن لم يصبح حرباً شاملة تقتلعها من جذورها في شرق سوريا، وهذا الأمر يعني حرباً كاملة مع ايران، لا ترغب فيها واشنطن ولا هي مستعدة لها في هذه المرحلة.
لذلك يبدو أنها لجأت إلى الخيار الأقل كلفة، وهو اتقاء تلك الحرب بتدعيم قواتها وتحصينها من ناحية، والتلويح بإمكانية المواجهة الشاملة فيما إذا أحرج الحرس الثوري، القوات الأميركية، وألحق بها خسائر كبيرة في ضربة ما مثل التي تحدثت عنها صحيفة “واشنطن بوست” الشهر الماضي.
تدعم التصور أعلاه، العلنية المبالغ فيها في دفع أسلحة وقوات أميركية إلى المنطقة، وتسريب معلومات إلى الصحافة الدولية، وإشاعة معلومات عن نيّة للقيام بهجوم في البوكمال لوصله مع التنف، والقيام بتدريبات ومناورات يومية قرب مناطق التماس تحاكي صد هجمات قادمة من مناطق سيطرة الفصائل الإيرانية. والرسالة من وراء ذلك واضحة: لا تحاولوا مهاجمتنا لأننا متيقظون ومستعدون ولن تنالوا منا… هذا، وهذا فقط، ما تريد واشنطن قوله.
المدن
إضافة تعليق جديد