سوريون: من قال إننا نريد أن نقاتل أميركا؟
جانبلات شكاي:
في أيام كانت أفضل على السوريين بمراحل، من هذه الأيام السوداء، تعرضت دولتهم لتهديد جدي من الولايات المتحدة باحتمال متابعة قواتها التي احتلت بغداد وأسقطت حكم صدام حسين عام 2003 تحركها باتجاه دمشق، وحينها كانت الولايات المتحدة تحشد في العراق ما يناهز الـ120 ألف جندي، وأساطيلها الحربية كانت تجوب مياه الخليج والبحرين الأحمر والمتوسط.
ومما أذكره من مواقف لرموز الدولة السورية حينها، أنها كانت غير متناسقة في التصريحات لدرجة غريبة، يكاد المتابع ليخرج بقناعة منها، بأن الدولة مهلهلة والسلطة ضعيفة، ولا يحتاج تطويعها إلى أي عمل عسكري، وتحديداً بعدما خسرت عمقها الاستراتيجي المتمثل بالعراق.
هذه الحالة التي زامنت الزيارة الشهيرة لوزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول إلى دمشق، بداية أيار 2003 وهو يحمل مطالب إدارته، أو إملاءاتها إذا صح التعبير أكثر، دفعتني خلال جلسة لي مع أحد أبرز رجالات الدولة الفاعلين حينها، لانتقاد هذا الضعف والركاكة في أداء السياسة السورية على المستويين الداخلي والخارجي لدرجة أن الأمر أصبح أشبه ما يكون بـ"حارة كل مين إيده إله"، بعد أن كانت سورية بوابة الشرق الأوسط وتتحكم بمعظم مفاتيح ملفاته الساخنة، لكن ما سمعته من هذه الشخصية التي اتحفظ على ذكر اسمها، ثبّتت قناعاتي تجاه المؤسسة الحاكمة في البلاد وخبرتها العميقة في إدارة الدولة وتجاوز الأزمات التي تعصف فيها وسط أكثر المناطق حساسية في العالم ربما.
قال محدثي: إن التناقض الظاهر في التصريحات الرسمية، سواء فيما يتعلق والملفات الداخلية أو الخارجية، التي يطلقها أحيانا نائب الرئيس عبد الحليم خدام، أو وزير الخارجية فاروق الشرع، وحتى الرئيس بشار الأسد، هي سياسة مقصودة ومتفق عليها من أركان الدولة لتشكيل هذه الصورة التي استنتجتها بشخصك، وهي أن الدولة ضعيفة وغير متماسكة، والتأثير على سياستها لا يحتاج إلى جيوش جرارة، وإنما يكفي التلويح والتهديد بها لتنفذ دمشق ما يطلب منها.
وتابع: نحتاج إلى الوقت، ويجب أن ننحني حتى تمر العاصفة، ولا يمكن لنا أن نقع في أخطاء النظام العراقي الذي كان وزير إعلامه محمد سعيد الصحاف، في نيسان 2003، يهدد بتقطيع الأفعى الأميركية التي تحاصر أسوار بغداد، بينما كانت الدبابات الأميركية تظهر في خلفية المؤتمر الصحفي المباشر الذي كان يتحدث خلاله هذا الوزير، وقال محدثي: نحن لا نعيش الوهم، ونعرف حجمنا ونعرف حجم أميركا.
وتجلت هذه السياسة بتصريحات أطلقها وزير الخارجية فاروق الشرع قبل يوم واحد من وصول كولن باول إلى دمشق حين أعلن من بيروت أن "سورية مستعدة لفتح حوار مع الولايات المتحدة حول الشرق الأوسط (...) وهذا سيكون أساس المحادثات مع باول، وسورية تؤمن بالحوار لا بتقديم المطالب".
ونجحت سورية حينها بشراء الوقت الذي تحتاجه، ولئن أبدت مرونة فيما يتعلق والتعاون لمراقبة الحدود مع العراق بهدف وقف تدفق المتطوعين العرب للقتال ضد الاحتلال الأميركي، إلا أنها لم تصل في تعاونها مع الجانب الأميركي إلى الدرجة التي طالبت بها مستشارة الأمن القومي الأميركي حينها كوندوليزا رايتس، بإغلاق مكاتب الفصائل الفلسطينية في دمشق والعمل على حل حزب الله اللبناني لوقف تهديد صواريخه لإسرائيل.
ما دفعني للتذكير بالحوار السابق لي مع هذا المسؤول الرفيع المستوى، والغير منشور، أن سورية تكاد تعيش حالة مشابهة اليوم من التهديد الأميركي الجدي بفتح جبهة شرق البلاد، سعياً وراء قطع الطريق البري الوحيد المتبقي الواصل بين دمشق وبغداد، عبر مدينة البوكمال، بعد أن قطعت "داعش" الطريق الأول بين العاصمتين المار من معبر التنف - الوليد في أيار 2015، ثم سيطرت القوات الأميركية عليه منذ حزيران 2017 حتى اليوم.
الأخبار حالياً تتحدث عن تحرك أميركي للوصل بين مناطق احتلالها في التنف حتى شمال البوكمال حيث تسيطر ميليشيات "قوات سورية الديمقراطية – قسد" المدعومة أميركيا، وبالتالي قطع الطريق بشكل كامل بين سورية والعراق، ولذلك تم الإعلان عن رفع عدد الجنود الأميركيين في المنطقة المستهدفة إلى 2500 منهم 1500 داخل سورية، وتحصين قواعدها في شرق البلاد براجمات "هيمارس"، وبنشر طائرات مقاتلة من طراز "إف35" و"إف16" في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى نشر البارجة الحربية "يو إس إس توماس هودنر"، وذلك "رداً على الأنشطة الإيرانية"، كما أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن منتصف تموز الماضي.
طبعا، واشنطن تعلن أن حشودها تأتي بعد زيادة محاولات استهداف قواعدها في سورية، وتحسباً من تحركات على الأرض وحشود للجيش السوري والقوات الرديفة له من الفصائل المدعومة من إيران، بهدف الضغط على الاحتلال الأميركي ودفعه لمغادرة سورية وإنهاء دعمه لـ"قسد" التي تسيطر على مناطق هي بمثابة سلة غذاء سورية ومصدرها الرئيس من النفط والغاز وتشكل ربع مساحة البلاد، على اعتبار أن عودة هذه المناطق لسيطرة الحكومة السورية هي المنقذ العملي الوحيد لإنهاء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها سورية حاليا.
ارتفاع حدّة التوتر شرق سورية يترافق أيضا مع اتهامات متبادلة روسية أميركية بتحرش طائرات كل دولة بطائرات الأخرى فوق الأجواء السورية، وهذه تأتي في رواية منها بالتنسيق بين إيران وروسيا وضمن جهود اخراج الاحتلال الأميركي من شرق سورية، وفي رواية ثانية من الجهة المقابلة، تأتي في إطار الضغوط والخطط الأميركية الهادفة إلى الفصل بين سورية والعراق، أو كحد أدنى في إطار التلويح بالتهديدات الأميركية ما يزيد من الضغط على الوضع الاقتصادي المتردي لسورية وهو ربما كان السبب الرئيس وراء تدهور قيمة الليرة السورية خلال الأسابيع الأخيرة.
وسط كل هذه التعقيدات، تتحرك السياسة السورية برسائل تكاد تكون غير متسقة تماما في الشكل الظاهري، حيث تستقبل محافظة الحسكة التي تقع تحت سيطرة شبه كاملة من ميليشيات "قسد" المدعومة أميركيا، باستثناء مربعات صغيرة، وفداً وزارياً رفيع المستوى من دمشق، وقبل ذلك بأيام قليلة، استقبلت مدينة دير الزور التي يقع ريفها الشرقي أيضاً تحت سيطرة ميليشيات "قسد" بالكامل، وفداً وزاياً آخر من دمشق، وبالترافق كان وفد رفيع المستوى سياسي اقتصادي، ترأسه وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد يجري محادثات هامة في العاصمة الإيرانية انتهت بالإعلان عن الاتفاق في إجراء المبادلات التجارية بالعملات المحلية، وبتصفير الرسوم الجمركية بين البلدين، وافتتاح مصرف مشترك في دمشق، والاتفاق على تفعيل النقل البري والترانزيت من إيران إلى سورية عبر العراق، بل إن المقداد وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان قال: "على قوات الاحتلال الأميركي الخروج من الأراضي السورية قبل إجبارها على ذلك، ويجب على التحالف الدولي الذي يدعي زوراً محاربة تنظيم داعش الخروج أيضاً، لأنه يسعى فقط إلى خدمة أهداف إسرائيل والولايات المتحدة".
تهديدات المقداد، جاءت بعد مواقف مشابهة خرجت من أصوات عشائرية سورية في المنطقة هددت بدورها القوات الأميركية وميليشيات "قسد" بالوقوف إلى جانب الجيش السوري في حال فتح أي جبهة في المنطقة، وهذا التصعيد ترافق مع حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصا عبر صفحات "فيسبوك" الزرقاء تدعو إلى طرد الاحتلال الأميركي بالمقاومة المسلحة.
ولكن، في المقابل، وأيضا عبر الصفحات الزرقاء، بدأت تظهر مواقف أخرى تؤكد أن سورية ليست بوارد الدخول في أي حرب مع الولايات المتحدة، وخصوصاً في ظل الضعف والعجز الكبير الذي يعاني منه الاقتصاد المحلي، والشارع لم يعد بإمكانه تحمل أية أعباء إضافية و"إننا حاربنا ما فيه الكفاية، ولا يستطيع شعب في الدنيا أن يقدم ربع ما قدمه السوريون، وأن الحرب اليوم انتحار ولا تخدم مصالحنا وإنما تخدم مصالح الآخرين فقط ولا نريدها"، وأيضاً "من قال إننا نريد أن نقاتل أميركا؟ ونحن لا نريد أن تصبح بلادنا ساحة لحروب الآخرين بالوكالة" وحتى "الدولة الوحيدة التي تستطيع مواجهة أميركا، وهي الصين، تهادنها وتلاطفها وتحادثها بلين وطيبة وتكتفي في بناء رأي عام مناهض لأميركا داخل الصين وتتجنب أي صدام معها". وكل هذه الدعوات للعقلنة وعدم الانجرار وراء التصعيد والوقوع في الفخ الأميركي، ترافقت مع جولات ميدانية للرئيس الأسد على مناطق طالتها الحرائق في الساحل السوري، وعلى منشآت جديدة لإنتاج الطاقة البديلة، وحتى اليوم الأحد، كانت الصفحات الرسمية للرئاسة السورية تنقل صوراً عن زيارة قامت بها عقيلة الرئيس أسماء الأسد إلى أحد معامل الألبسة الجاهزة في ريف طرطوس غرب البلاد، لتشكل انطباعات بعيدة كل البعد عن أجواء التوتر التي تخيم على شرق البلاد في محيط معبر البوكمال.
ما أشبه اليوم بالأمس، ويبقى السؤال هل ستمر العاصفة أيضاً كما المرة الماضية؟
رصد للدراسات
إضافة تعليق جديد