أسئلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق
الجمل: بدأ السقف الزمني لفترة الوجود الأمريكي العسكري يضيق أكثر فأكثر، وذلك بسبب مؤشرين أساسيين برزا بوضوح خلال الفترة الماضية، الأول يتمثل في رفض العراقيين ومقاومتهم سياسياً وعسكرياً للاحتلال العسكري الأمريكي، والثاني يتمثل في رفض الأمريكيين لتوجهات إدارة بوش الجمهورية إزاء العراق على النحو الذي أدى إلى هزيمة الحزب الجمهوري في انتخابات الكونغرس وأصبح يبشر بهزيمة مؤكدة ثانية للجمهوريين في انتخابات الرئاسة القادمة.. وهكذا، فإن السقف المتاح للوجود الأمريكي في العراق لن يتجاوز مطلع عام 2008م كحد أقصى، إن لم تنجح محاولة الديمقراطيين لإنهائه قبل ذلك.
• احتلال القوات الأمريكية للعراق ومعادلة الحسابات الإقليمية والدولية:
عندما قامت الولايات المتحدة بغزو واحتلال العراق في مطلع عام 2003م، وقررت البقاء فيه، كان لكل طرف من الأطراف المعنية حساباته، فأمريكا كانت ترتب لإقامة نموذجها الخاص بمستقبل العراق بما يتكامل وينسجم مع المشروع الإسرائيلي في المنطقة، ودول الجوار الإقليمي العراقي: سورية، إيران، تركيا، السعودية، الكويت، والأردن كان لكل واحد منها حساباته الخاصة التي ظل يتعامل بها مع الاحتلال والوجود العسكري الأمريكي في العراق، ومنها من قرر التعاون مع أمريكا، ومنها من عارض، ومنها من بقي على الحياد على طريقة دعنا ننتظر ونرى.
لم يكن أمر غزو واحتلال أمريكا للعراق شأناً إقليمياً، بل كانت له تداعياته الدولية، فكل دول العالم بما في ذلك الدول الكبرى مثل روسيا، والصين، وبريطانيا... وغيرها، إضافة إلى الأمم المتحدة والجامعة العربية، وغيره، كانت لها توجهاتها الخاصة بها إزاء غزو واحتلال العراق، وتباينت توجهاتها ومواقفها ما بين مؤيد ومعارض، و(محايد) يرقب الأمور عن كثب.
أما بالنسبة للعراقيين، باعتبارهم أصحاب الشأن والـ(قابضين على الجمر)، فقد رفضوا بالإجماع احتلال القوات الأمريكية لبلدهم، ما عدا قلة قليلة اختارت التعامل مع أمريكا من أجل تحقيق المكاسب الشخصية والسياسية والعنصرية الخاصة بها.
• خروج القوات الأمريكية من العراق ومعادلة الحسابات الإقليمية:
عندما تقوم القوات الأمريكية بالخروج والانسحاب من العراق، بالضرورة يكون الاحتلال قد انتهى، وهو أمر سوف تترتب عليه بالضرورة عملية الانقلاب الشامل في الحسابات الداخلية العراقية، والخارجية الإقليمية والدولية، وسوف تكون لكل الدول المعنية بالشأن العراقي حساباتها، وبالإضافة لدول الجوار الإقليمي العراقي، فإن أمريكا وروسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي والدول العربية، سوف تكون لها حساباتها المختلفة هذه المرة عما سبق، وإن كانت هذه الحسابات الجديدة تعتمد في جزء كبير منها على معطيات خبرة الحسابات والمواقف الماضية.
كذلك، سوف تتوقف الحسابات الإقليمية والدولية بقدر كبير على العراقيين أنفسهم، وعلى الوضع النهائي الذي سوف يستقر عليه المشهد العراقي بعد خروج القوات الأمريكية وإنهاء الاحتلال.
• سورية وعراق ما بعد الاحتلال الأمريكي:
برغم عدم وضوح الكثير من معالم وتفاصيل المشهد العراقي القادم، فإن هناك الكثير من التساؤلات التي بدأت تطرح نفسها حول عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي: هل سيتوصل العراقيون إلى المصالحة الوطنية والاستقرار، أم أنهم سيواصلون الصراع الداخلي من أجل تصفية الحسابات والسيطرة على السلطة والثروة؟ وما هي ردود أفعال دول وقوى الجوار الإقليمي؟ وتحديداً كيف ستتصرف تركيا مع الأكراد؟ وكيف سيتصرف الأكراد مع تكريا في غياب حلفائهم الأمريكيين والإسرائيليين؟ وما مدى تأثير ذلك على الأوضاع الداخلية العراقية، والإقليمية، والدولية؟ وكيف ستتأثر أسواق النفط العالمية؟ وما هو الدور الجديد لدول الجوار الإقليمي العراقي، والدول العربية، والمجتمع الدولي إزاء قضايا عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي؟ وكيف ستتصرف أمريكا من أجل الحفاظ على مصالحها في الخليج وتحسين صورتها التي أصبحت أكثر قبحاً بعد أن تعرضت للإذلال على يد المقاومة العراقية، وتمرغت بالوحل بسبب ذيليتها للمشروع الإسرائيلي في المنطقة؟ وما تأثير الخروج الأمريكي على علاقات واشنطن- تل أبيب، وأيضاً على علاقة اللوبي الإسرائيلي بمؤسسات الدولة الأمريكية التشريعية والتنفيذية؟ وكيف سينظر الرأي العام الأمريكي لجماعات اللوبي الإسرائيلي باعتبارها المسؤول الأول والأخير عن دفع أمريكا إلى وحل المستنقع العراقي بناء على أكاذيب حفنة اليهود الأمريكيين التابعين لجماعة المحافظين الجدد مثل: ريتشارد بيرل، بول وولفوفيتز، فريدريك كاغان، مايكل لايدن، وعرافهم وليم كريستول... وغيرهم؟.
لن نذهب بعيداً، فما هو معروف أن حقائق الجغرافيا والتاريخ تقول بأن سورية هي النصف المكمل تاريخياً للعراق، والعراق هو النصف المكمل لسورية، وذلك منذ مراحل التاريخ الساحقة القدم، وحتى معطيات الجغرافيا الطبيعية والبيئية تقول بأن سورية والعراق يتقاسمان حوضاً مائياً واحداً هو حوض دجلة والفرات.
كل خبراء الاستراتيجية في العالم يجمعون على وحدة المجال الجيو-سياسي السوري- العراقي، وبرغم أهمية إيران وتركيا بالنسبة للعراق، فإن سورية هي الأكثر أهمية من بين الجميع، وبرغم منافسة دول أخرى مثل السعودية، والأردن لسورية في هذا الجانب، فإن سورية تتفوق عليهما على أساس اعتبارات العمق التاريخي المشترك مع العراق ضمن ما عرف ببلاد ما بين النهرين، وأيضاً بالاعتبارات الخاصة ببناء الشخصية العراقية، والتي تتطابق مع الشخصية السورية، وهو تطابق أدى إلى تشابه مراحل التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين البلدين.
يقول المحلل السياسي الأمريكي البروفيسور جوشوا لانديس المختص بالشؤون السورية، على موقعه الالكتروني: لقد وصلت سورية إلى لحظة حاسمة في توجهاتها السياسية الإقليمية، وطالما أنه أصبح واضحاً أن الولايات المتحدة سوف تبدأ الانسحاب من العراق في العام القادم وان زيادة عدد القوات هي مجرد ذريعة أمريكية مؤقتة لإطالة أمد إطلاق يدها في العراق، فإن على سورية أن تقرر نوع الاستراتيجية التي سوف تتبعها إزاء عراق ما بعد أمريكان وهل ستقف إلى جانب إيران في دعم إقامة حكومة شيعية؟ أم أنها سوف تقف إلى جانب العربية السعودية في دعم المقاومة السنية؟
التساؤل الذي يطرحه البروفيسور جوشوا لانديس يعكس مرة أخرى أزمة (الإدراك) الأمريكي والغربي للشؤون الشرق أوسطية، وعلى وجه الخصوص الأوضاع العربية، وعلى ما يبدو فإن مصدر أزمة الإدراك هذه تعود إلى نزعة العقل الغربي والأمريكي في فهم الظاهرة العربية والشرق أوسطية، على أساس اعتبارات أنها تتكون من كيانات طائفية من جهة، وكيانات سياسية من جهة أخرى، وبأن هناك صراع مستمر حول السلطة والثروة بين هذه الكيانات، وذلك دون إعطاء أي اعتبار لمدى لعالية وحيوية العلاقات البينية العربية في القضاء على الاحتقانات والتوترات في علاقات الكيانات العربية مع بعضها البعض.
أدى هذا الإدراك الذي يقوم على (التعسف) النظري إزاء الظواهر المجتمعية العربية إلى تركيز القوى الغربية على توظيف الخلافات الداخلية العربية، وإذا سلمنا جدلاً بصحة ذلك على الإدراك بالنسبة للفترة الاستعمارية، فإن على الغرب وأمريكا، هذه المرة أن يكونا أكثر علمية في فهم وإدراك الواقع المجتمعي العربي، خاصة وأن هناك الكثير من الدروس والعبر التي يمكن لها الاستفادة منها، ولو فعلت أمريكا ذلك لما تورطت في غزو واحتلال العراق، وإعداد الخطط والترتيبات على أساس أن السيطرة على العراق ممكنة، عن طريق تغذية الخلافات الطائفية بين الشيعة والسنة، والاثنو- ثقافية بين الأكراد والعرب، علماً بأن صيغ التعايش السلمي بين الفئات والشرائح المجتمعية موجودة في كل بلدان الشرق الأوسط، ومن الأمثلة على ذلك (النموذج السوري) والذي أثبتت الفاعلية والكفاءة في بناء وتعزيز عملية التكامل الوطني الاندماجي.
وبالنتيجة، فإن البروفيسور جوشوا لانديس سوف يضطر إلى العدول والتخلي عن تساؤلاته، إذا عرف بأن سورية ظلت وسوف تظل دائماً مكاناً وساحاً لوفاق العربي والتعايش السلمي في المنطقة، وقد انعكس هذا الأمر على خبرة سورية الماضية في حل الخلافات اللبنانية وإنقاذ لبنان واللبنانيين من خطر الحرب الأهلية المدمرة، وبالتالي فإذا تحارب العراقيون بعد خروج الاحتلال الأمريكي، فإن خبرة سورية في حل واحتواء الخلافات متاحة لجميع أشقائها العرب.. هذا ما لا يفهمه الآن لا البروفيسور جوشوا، ولا جورج بوش.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد