الحداثة الشعرية، مخاض عسير ونسب حائر
الجمل ـ عماد عبيد: ذات يوم من أيام عام 1830دخل شاب عشريني العمر، نحيل الجسد، طويل القامة، متوحش الملامح، إلى النادي الرومانتيكي في باريس، وألقى على الحاضرين نصا غريبا لم تألفه الذائقة الأدبية وقتها، سيما أن فرسان الملتقى ورواده كانوا منهمكين في تداعيات المرحلة الرومانتيكية المتوهجة كواحدة من المظاهر التفاعلية للحركة الأدبية في أوربا، ذلك النص الذي يحمل عنوان (أكتوبر)، لم يكن إلا نصا مقتطعا من جريدة (المشاهد) الباريسية، وهو نص نثري سردي ساذج، قام الشاب بتكثيفه بلغة شعرية مختلفة، وألغى زمكنته ولوّن أدواته وأخرجه بصورة غرائبية على شكل (بالادات) أثارت دهشة الأدباء بين مؤيد وشاجب، لكن صدمة المفارقة انتصرت على رتابة المستقر، الفتى صاحب النص يدعى (لوي بيرتران 1807-1841)، الذي اُعتبر نصه فاتحة العاصفة إلى قصيدة النثر عالميا، توفي (أولوزيوس بيرتران - وهو الاسم الذي اتخذه فيما بعد) شابا في ربيعه الرابع والثلاثين، ولم يترك إلا مجموعة شعرية واحدة طبعت بعد وفاته تحمل عنوان (غاسبار الليل).
إذا كان (بيرتران) هو الشرارة المولدة لذاك الحريق، فإن سدنة النار بعده كانوا أكثر توهجا في إذكائهم لحطب هذا المولود الشعري الجديد، فها هو (لوتر يامون 1846 – 1870) يحاول المنازعة على اللقب، لينافسه (شارل بودلير 1821 – 1867) و (آرثر رامبو 1854- 1891) و (ستيفان مالارميه 1842- 1898) هؤلاء الثلة من الشعراء العالميين أرسوا اللبنة الأساس لهذا البناء الشعري المتطور والذي استقرت تسميته على (قصيدة النثر).
ثارت ثورة الأدباء الكلاسيين المتمسكين بالنمط العروضي والإيقاع الوزني للشعر، واتهموا رواد قصيدة النثر (بالمشوِهين) ووصموا نصوصهم (بالهجينة)، فالشاعر الأمريكي (روبرت فروست 1874- 1963) يقول عن قصيدة النثر ساخرا: (لعبة تنس دونما شبكة) والشاعر الإيرلندي (أوسكار وايلد 1854-1900) قال عنها هازئا (أعتقد أنها برواظ)، أما الناقد البريطاني (ماثيو أرلوند 1822- 1888) فقد وصف شعراء النثر (بالملعونين)، ولم تعترف بها جائزة (بولتيزر) الأمريكية إلا عام 1991، غير أن حركة هذا الشكل الجديد تابعت زحفها متمردة على بحر الشعر السكندري لتسنو إشراقاتها في القرن العشرين على يد نخبة من الشعراء الحداثويين مثل (بيير ريفردي 1889 – 1960) و(ماكس جاكوب 1876 – 1944) ثم (جون بيريس 1887-1975) وليظهر كتاب الباحثة (سوزان برنار 1932 – 2011) (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) الذي أعدته كرسالة دكتوراه عام 1959 ونشر عام 1968 كمرجع أول ووحيد لقصيدة النثر بالرغم من أن الكتاب اشتغل على تقصي تطور الفن الشعري والمراجعة السسيوتاريخية لقصيدة النثر، أكثر من غوصه إلى بنيتها الفنية.
قصيدة النثر بوصفها حالة مفارقة للأسلوبية المعتادة في منهجية الشعر السائد آنذاك، كان لابد لها من أسماء كبيرة تقف في صفها لتخفف من وطأة التجريم بحقها، أمثال (بول فاليري 1871-1945) و (فيليب سوبو1897-1990) و (بول إيلوار –1895-1952).
عربيا تلقف أعضاء مجلة (شعر) ونخص منهم (أدونيس – يوسف الخال – أنسي الحاج) كتاب (سوزان برنار) بلهفة الظامئ، بينما دخلها (محمد الماغوط) من باب مغاير، وبدأت التحولات في مشروعهم الشعري، وكان لابد من أن تثير تلك التحولات زوابعا من الاحتجاجات المضادة متهمين أصحابها بـ (المستغرِبين والمقلدين)، تلاها معارك أدبية بين الطرفين المتحاجّين، وقد أُخذ على جماعة شعر أنهم تبنوا النمط الغربي لقصيدة النثر كحالة شكلية، بينما كانت مضامينهم ماتزال أسيرة الإحساس الشعري للقصيدة الحرة والشعرية العربية، علما أنه قد سبق ريادة أعضاء مجلة شعر محاولات واضحة البصمة لشعراء سوريين منهم الشاعر (علي الناصر 1894- 1970) والشاعر )سليمان عواد 1922-1984).
ولا غرابة أن قصيدة النثر مازالت مصلوبة على دكة الاتهام في الوسط الأدبي العربي، بين رفض الماضوي لها على أنها اعتداء على أهم منجز أدبي في تاريخ العرب، وبين عدم استساغة المتلقي المعتاد على جرس الموسيقا الشعرية ورنين القافية، وإذا كانت الثقافة الأدبية والاطلاع النقدي شبه غائبين عن اهتمامات هيئة الاتهام من المتلقين، فإن السؤال المضني: لماذا هاجمها أدباء كبار ولم يعترفوا بها كـالشاعرة (نازك الملائكة 1923-2007) في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) وهي رائدة حداثوية من رواد الشعر الحر، فاعتبرت قصيدة النثر (حالة اغتصاب للقصيدة الحرة) وكذلك فعل الناقد المهم (يوسف سامي اليوسف 1938-2013) الذي قال عنها (ليست من الشعر في شيء)، وسمّاها الشاعر المصري الكبير (أحمد عبد المعطي حجازي)(بالقصيدة الخرساء)، أما الشاعر المُلهم (خليل حاوي1919-1982) فقد اتهمها بالرداءة بقوله (إن كثيرا من النثر الرديء دخل مجال الشعر باسم قصيدة النثر). على مقلب آخر تعاطف معها بعض الشعراء الكبار فاعترفوا بجدارتها ونوعها الشعري وعلى رأسهم (نزار قباني 1923-1998) و(جبرا إبراهيم جبرا 1919-1994) و(محمود درويش 1941-2008) وشرعنها بحماس الناقد المصري (الدكتور صلاح فضل 1938) في كتابه (أساليب الشعرية المعاصرة).
لعل إشكالية تقعيد قصيدة النثر والاختلاف حول هيكلية بنائها الفني وفحوى مضامينها حتى بين مقترفيها أنفسهم، جعلها دريئة سهلة التصويب، مما حدا بأنصارها ودعاتها إلى الدفاع عنها بطريقة متشنجة، وسعوا نحو توثيقها بدراسات بحثية تعنى بها كنوع ينتمي إلى جنس الشعر، وتجاوز ما أطرته (سوزان برنار) بالعناصر الثلاث (الإيجاز – المجانية – الوحدة العضوية) متوسعين في دراستها، وكان آخر ما صدر حديثا كتاب فرنسي يحمل عنوان (مقدمة لقصيدة النثر – أنماط ونماذج) لمؤلفيه الفرنسيين (بريان كليمنس و جيمي دونام) ترجمة (محمد عيد إبراهيم) وتأتي أهميته من دراسته التطبيقية لقصيدة النثر وتنميطها في أنماط مختلفة أبرزها (نمط الصورة المركزية – نمط الحكاية – نمط المجاز الممتد – نمط الومضة – نمط المأثور – نمط التكرار).
أكثر ما هدد ويهدد قصيدة النثر هو استسهالها والظن أنها نص عائم خالٍ من الأسس والقواعد، فجرب بها المقيم وعابر السبيل حتى امتهنت ولاكتها الألسن، فلئن جاءت تمردا على قوانين الشعر الصارمة، فهذا لا يعني أنها بلا ضوابط، وما صرخة (بول فاليري) الشهيرة (خطران مازالا يتهددان العالم: النظام والفوضى) إلا إنذار يحذر من الانجراف إلى الهاوية.
ليست قصيدة النثر بنشأتها الغربية ونسختها العربية المتهم الوحيد من ثلة الماضويين، فالشعر الحر (شعر التفعيلة) لاقى استهجانا وسخطا قبيل ظهوره على يد (نازك الملائكة) في قصيدتها (الكوليرا) و(بدر شاكر السياب 1926-1964) في قصيدته (هل كان حبا)، فصدرت اتهامات فضّة جرّحت بالرواد والتابعين ووصفتهم بالوجوديين والملحدين، والغريب أن نفرا لا بأس به من المعترضين على هذا الشكل الجديد والمتمترسين عند مقولة (قدامة بن جعفر 873- 948) (الشعر كلام موزون مقفى) يرون فيه تعديا على (القصيدة العمودية) ناسين أن (القصيدة العمودية) أضحت مفتقرة لأركان عمود الشعر العربي الثمانية - وأضحى مصطلح (قصيدة الشطرين أو القصيدة الخليلية) هو الأكثر صحة – إلا أن الغرابة الشادهة تأتينا حين نسمع توصيفا مذهلا من قامات شاهقة كعميد الأدب العربي (طه حسين 1889-1973) قائلا: )لا تقولوا عليه شعرا .. قولوا انه كلام جميل.. كلام موسيقي.. سجع.. قولوا أي شيء إلا شعرا، فأنه ليس بشعر (، ويحكى أن شاعر العراق الكبير (محمد مهدي الجواهري 1899- 1997) كان يترك المكان إذا ألقى أحدهم قصيدة تفعيلة، ووصم كاتب مصر الكبير (عباس محمود العقاد) شعراء التفعيلة (بالجناة الذين قسّموا بحور الفراهيدي إلى أنهرٍ وسواقٍ)، غير أن حملة التشنيع بهذا الشكل الشعري الجديد لم تصل إلى حد الهجوم المشنون على قصيدة النثر، ربما شفعت القافية والوزن لقصيدة التفعيلة، واعتناقها من شعراء ذي شأن وحضور ملفت. وامتلكت الحجة الأقوى من دعاة التغيير الذين رأوا فيها تحولا في مناخ الشعرية العربية وهدما لثوابت لازمت الشعر العربي أربعة عشر قرنا، لتنطلق كوكبة من فرسانها في خطوات حثيثة مؤسسة لهذا النوع الواضح الهوية والمتفرع شرعا من جذر جنس الشعر العربي، ولتلمع به أسماء رفيعة تركت وشمها الذهبي أمثال (عبد الوهاب البياتي – نزار قباني – بلند الحيدري – محمود درويش – علي الجندي - ممدوح عدوان - صلاح عبد الصبور – أحمد عبد المعطي حجازي – سميح القاسم – قاسم حداد ... و و و)
بعد ذاك المخاض العسير الذي مرّ به الشعر الحر، استطاع أن يثبت وجوده، حتى أنه أخرس السجال حول أحقيته، مطمئنا إلى قواعده الراسية وثبوت نسبه كولادة شرعية من التراث الشعري العربي، كما قطعت قصيدة النثر مضمارا متقدما في احتلالاتها للمشهد الشعري عالميا وعربيا بالرغم من أن راجميها لم تنفذ حجارتهم بعد، لتشهد الساحة الأدبية حضور أشكال أدبية جديدة وكثيرة تنتمي غالبيتها إلى (الأدب الوجيز) بجنسيه الشعر والنثر، وهي الآن تخوض حربا ضروسا للاعتراف بها، وتسعى بدأب للانتساب إلى جنس الشعر كـ (الهايكو – الومضة – الشذرة – الخاطرة الشعرية – النص الجديد) أو جنس النثر كـ (ق ق ج و الخاطرة القصصية والنص المفتوح) .
تكمن إشكالية الهايكو الأولى في التسمية، فهناك من يسميه (فن الهايكو) وآخرون يدعونه (قصيدة الهايكو) ونفر ثالث يطلق عليه مصطلح (نص الهايكو) ليبق حائرا باللقب فما بالكم بالتجنيس.
ربما تأصيله الجذروي العائد إلى الأدب الياباني لمؤسسه (ماتسوو باتشو 1644-1694) وخلفه (يوسا بوسون 1716- 1784) و(كوباياشي إيسا 1763- 1828)، وانتماءه إلى عقيدة (الزن) الفلسفية القائمة على الاستغراق في التأمل وصولا إلى الاستنارة واليقظة، جعله مستغرِبا في استيلاده عربيا، فقوبل بالاستهجان والحذر، لاختلاف التراث البيئوي بين الحضارتين، إلا أن دعاته ومروجيه مضوا قدما في كتابته والدفاع عنه، فالناقد الشاعر الفلسطيني (عز الدين المناصرة 1946-2021) يعتبر المؤسس للهايكو العربي، وقد سمى كتاباته الهايكوية (توقيعات) محاولا إعادة تشكيله عربيا، وسرى نفس المسرى كتّاب كثر (العراقي عذاب الركابي – المغربي سامح درويش – السوري محمد عضيمة – وغيرهم)
ومازال الهايكو أسيرا في قفص الاتهام، ومرفوضا من دعاة الهوية والتراث واصفينه بالدخيل والمزاحم الفاشل لتراث أدبي عريق.
كذلك اعترض الماضويون على (الومضة والشذرة) والتسميات الجديدة للتشكيلات الأدبية المستحدثة واصمين مقترفيها (بالمفلسين)، في الوقت نفسه يجاهد دعاة هذه النماذج في درء التهمة منتظرين تقعيدها الذي تأخر لغياب الوفرة في الإنتاج وتشابكها في أشكال أدبية أخرى.
إضافة تعليق جديد