آفاق الصراع الدولي على البلقان
الجمل: تشهد منطقة البلقان في الوقت الحالي حالة من الصراع الجامد الذي بدأ يدخل مرحلة الذوبان بفعل سخونة الأحداث والوقائع المحلية والإقليمية والدولية الجارية، ولما كانت معطيات خبرة الصراعات السابقة تشير إلى أن منطقة البلقان كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت العديد من الحرائق الأوروبية الكبيرة، وعلى وجه الخصوص في الحرب العالمية الأولى إضافة إلى حروب البلقان المتعددة. وحالياً تشير التداعيات إلى العديد من التساؤلات التي من أبرزها: هل ستلعب منطقة البلقان دور الفتيل الذي سيشعل الحريق القادم، أم أن عملية التفكيك الواسعة التي تعرضت لها المنطقة مؤخراً قد أنهكت قواها بما سيجعل من البلقان مجرد بركان سياسي هامد فاقد الحراك وحيوية الانفجار؟
* الخارطة البلقانية:
تقع منطقة البلقان في الجزء الجنوبي – الشرقي من القارة الأوروبية، و"بلقان" كلمة تركية تعني سلسلة الجبال الغابية، مع ملاحظة أن تسمية "بلقان" أطلقها السلاجقة والعثمانيون حيث حلت محل التسمية الإغريقية القديمة "خيرسونيزوس توهايمو".
على أساس اعتبارات توصيف الجغرافيا السياسية المعاصرة تنقسم منطقة البلقان إلى منطقتين فرعيتين هما:
• البلقان الغربي: ويضم ألبانيا وجمهوريات يوغوسلافيا السابقة (مقدونيا – مونتينيغرو – كرواتيا – سلوفينيا – البوسنة والهرسك – صربيا وكوسوفو).
• البلقان الجنوبي: ويضم اليونان – بلغاريا – تركيا.
ونلاحظ أن انقسام الخارطة البلقانية بهذه الطريقة يشير إلى العديد من الخصائص والسمات من أبرزها:
• تتميز منطقة البلقان الغربي بالتوترات والصراعات الداخلية بما يجعل منها منطقة غير مستقرة بينما تتميز منطقة البلقان الجنوبي بالاستقرار والنمو الاقتصادي.
• تتميز منطقة البلقان الغربي بالتعددية الدينية والثقافية الشديدة التعقيد بينما تتميز منطقة البلقان الجنوبي بالانسجام الديني والثقافي.
• تتميز منطقة البلقان الغربي بالقابلية الشديدة لعدوى الأزمات والاضطرابات إلى قلب القارة الأوروبية بينما لا تتميز منطقة البلقان الجنوبي بذلك نتيجة بعدها النسبي عن قلب القارة الأوروبية.
جعلت هذه الخصائص من منطقة البلقان بشقيها الجنوبي والغربي المنطقة الأكثر أهمية للأمن الأوروبي بسبب حساسية الاعتبارات الجيو-سياسية المتعلقة بطبيعة الممر البلقاني وتداعياته على حركة التواصل البري والبحري في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي – الشرقي الأوروبي.
* الصراع حول البلقان:
يتميز الصراع البلقاني بالاستمرارية التاريخية والامتدادات العابرة للحدود، وعلى هذا الأساس يمكن أن نميز بين وضعين للصراع البلقاني:
• الوضع الكلي: يرتبط الصراع البلقاني بالصراع الدولي وهي حقيقة تؤكدها المعطيات التاريخية التي أثبتت أن البلقان كان ساحة للصراع بين الإمبراطوريات العالمية والقوى الكبرى التي ظلت تسعى من أجل السيطرة على العالم. والآن يدور صراع ثلاثي يجمع أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي ويسعى فيه كل طرف إلى السيطرة على البلقان.
أولاً: أمريكا:
سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ لحظة انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى جعل البلقان من أهم مسارح الحرب الباردة وكان من أهم تداعيات ذلك أن نجحت أمريكا في إقناع الرئيس اليوغوسلافي تيتو إلى الاستقلال عن النفوذ الشيوعي السوفيتي والشيء ذاته بالنسبة لألبانيا ورومانيا اللتان، برغم توجهاتهما الاشتراكية، فقد كانتا بعيدتين عن نفوذ موسكو السوفيتية، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الاشتراكية سارعت واشنطن إلى الإمساك بزمام المبادرة والسيطرة في البلقان وكان من أبرز تداعيات ذلك الحرب اليوغوسلافية التي أدت إلى تفكيك البلقان الغربي إلى مجموعة من الكيانات السياسية الصغيرة، وحالياً تسعى واشنطن إلى تعزيز وجودها في هذه المنطقة عن طريق استخدام المعونات والمساعدات كوسيلة للسيطرة على البلقان الغربي وهدف واشنطن هو استخدام البلقان الغربي للسيطرة على خاصرة الاتحاد الأوروبي الجنوبية – الشرقية وللتحكم في حركة إمدادات الغاز والنفط والطرق البرية ذات الأهمية الحيوية للربط بين دول الاتحاد الأوروبي والقارة الآسيوية ومناطق البحر الأسود، إضافة إلى ذلك تسعى واشنطن إلى حرمان موسكو من العودة واستعادة نفوذها في المنطقة.
ثانياً: روسيا:
تنظر روسيا إلى البلقان باعتباره الممر الجيو-ستراتيجي الذي يتيح لها حماية انفتاحها على العالم وتشير المعطيات الجغرافية إلى أن البلقان هي الممر الوحيد الذي لا سبيل لموسكو تفاديه أو العثور على بديل مناسب له للتواصل البري والبحري مع بقية العالم، وبكلمات أخرى فإن الممر البلقاني الحاكم سيؤدي إغلاقه إلى خنق روسيا. وتحاول موسكو حالياً استعادة البلقان إلى دائرة نفوذها عن طريق الوسائل الاقتصادية – النفطية والسياسية إضافة إلى العوامل الثقافية والدينية، وفي هذا الخصوص فإن انتشار المسيحية الأرثوذكسية الشرقية إضافة إلى الروابط الثقافية السلافية تشكل مجتمعة الأرضية الخصبة للتواصل البلقاني – الروسي إضافة لذلك فإن إمدادات النفط والغاز الروسي لدول البلقان سيتيح لروسيا الإمساك بشريان الحياة البلقانية، وبالنسبة للوسائل السياسية فهي تبدو واضحة من خلال قيام موسكو بدعم خصوم واشنطن البلقانيين واستخدام الصراعات ونتائجها كآلية لبناء التحالفات الروسية – البلقانية ويعتبر موقف موسكو الرافض لانفصال إقليم كوسوفو عن صربيا مثالاً بارزاً على ذلك.
ثالثاً: الاتحاد الأوروبي:
تفهم دول الاتحاد الأوروبي جيداً أن عدم وضع منطقة البلقان تحت دائرة السيطرة الأوروبية سيترتب عليه حدوث فراغ استراتيجي في البلقان وبالتالي فإن من سيتقدم لملء هذا الفراغ سيكون إما روسيا أو أمريكا، وإذا لم يتقدم أي طرف دولي لملء الفراغ فإن النزاعات والحروب ستندلع بما تهدد تداعياته الأمن الاستراتيجي الأوروبي، خاصة بسبب قابلية البلقان لنقل عدوى نزاعاته بشكل عابر للحدود إلى قلب القارة الأوروبية.
• الوضع الجزئي: يتضمن الوضع الجزئي أوضاع الصراع الداخلي في كل دولة بلقانية، إضافة إلى الصراع بين هذه الدول، وحالياً وبسبب الحرب اليوغوسلافية التي أدت إلى حدوث واحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في التاريخ المعاصر، فقد انقسمت منطقة البلقان الغربي إلى دول صغيرة تتميز بالانسجام الإثنو-ثقافي والإثنو-طائفي والإثنو-عرقي، الأمر الذي ترتب عليه استقرار الأوضاع الداخلية ما عدا بعض الحالات الاستثنائية التي كان آخرها إعلان قيام إقليم كوسوفو المسلم بالانفصال عن صربيا المسيحية الأرثوذكسية.
نلاحظ أن الوضع الجزئي للصراع البلقاني يرتبط دائماً بالوضع الكلي والسبب الرئيس يعود إلى أن القوى الدولية الكبرى وتحديداً أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي بسعيها المتزايد لاستغلال وتوظيف الصراعات الجزئية البلقانية تتيح إعادة توجيه محصلة الصراع البلقاني لصالح إحداها وحرمان الأطراف الأخرى.
* السيناريو البلقاني القادم: إلى أين؟
برغم الجهود الأمريكية والروسية الحثيثة لفرض السيطرة والنفوذ على البلقان فإن الاتحاد الأوروبي يعتبر هو الأقرب إلى الفوز بالبلقان وتشير المعلومات إلى أن الاتحاد الأوروبي يركز حالياً على تطبيق استراتيجية امتصاص الكيانات البلقانية الصغيرة وضمها واحدة تلو الأخرى بما يتيح إدماج كامل المنطقة ضمن الاتحاد الأوروبي.
يركز سيناريو الاتحاد الأوروبي على التدخل بالوسائل الاقتصادية والسياسية وذلك عن طريق تقديم المعونات والمساعدات المالية مع مطالبة دول البلقان بالقيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يتماشى وينسجم مع معايير الاتحاد الأوروبي بحيث يتسنى في نهاية المطاف قبول هذه الدول ضمن الاتحاد الأوروبي.
أما سيناريو واشنطن فيركز على جانبين، الأول هو بناء الروابط والعلاقات الثنائية مع دول البلقان بما يتيح لواشنطن نشر قواتها العسكرية مقابل تقديم المساعدات والمعونات، والثاني حث هذه الدول على السعي لنيل عضوية حلف الناتو كخيار أولي قبل السعي لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، وإضافة لذلك تسعى واشنطن إلى جعل سيطرتها على البلقان تكتمل قبل أن يتم إلحاق هذه الدول بالاتحاد الأوروبي بحيث يكون ذلك على غرار ما ظلت تقوم به كل من جمهورية التشيك وبلغاريا وبولندا بعد انضمامهم إلى الاتحاد الأوروبي.
بالنسبة للسيناريو الروسي فيقوم على أساس اعتبارات مشروعات تمديد أنابيب النفط والغاز بما يتيح إدماج اقتصاديات دول البلقان ضمن دائرة النفوذ الاقتصادي الروسي إضافة إلى أن تمديد هذه الخطوط وما يترتب عليه من وقوع دول البلقان تحت دائرة التبعية النفطية لروسيا سيتيح لموسكو القدرة على شن حروب النفط والغاز على غرار نموذج المواجهة الروسية – الأوكرانية الأخيرة.
وبرغم الجهود الأمريكية والروسية فإن لعبة الترتيبات الإقليمية التي سعت دول الاتحاد الأوروبي لاستخدمها كمظلة وقائية تتيح لها السيطرة عن بعد على البلقان سيترتب عليها إضعاف نفوذ كل من واشنطن وموسكو بشكل مؤقت إلى حين إكمال الاتحاد الأوروبي إجراءات ضم دول البلقان وتجدر الإشارة إلى أن لعبة الترتيبات الإقليمية البلقانية الجارية حالياً تتضمن إنشاء التحالفات الآتية:
• اتفاقية الاستقرار في جنوب شرق أوروبا.
• المبادرة الأوروبية الوسطى.
• اتفاق التجارة الحرة الأوروبية الوسطى.
• اتفاقية التعاون الاقتصادي لمنطقة البحر الأسود.
• مبادرة التعاون لجنوب شرق أوروبا.
أتاح تفعيل هذه الاتفاقات نجاح الاتحاد الأوروبي بالحفاظ على الروابط الاقتصادية والأمنية والسياسية الوثيقة مع البلقان وحالياً يمكن الإشارة إلى أن دول منطقة البلقان الغربي أصبحت تجد المزيد من المزايا التفضيلية التي أتاحت لها التمتع بوضعية الشريك الكامل للاتحاد الأوروبي.
حالياً وكما تشير المعلومات فإن ألمانيا تعتبر الدولة الأوربية الأكثر اهتماماً لتعزيز مساعي ضم دول البلقان للاتحاد الأوروبي وتشير التحليلات إلى أن ألمانيا تنظر إلى البلقان باعتباره منطقة نفوذ ألماني تقليدي وبالتالي فإن ألمانيا تسعى لإبعاد شبح النفوذ الأمريكي عن البلقان الغربي وإبعاد شبح النفوذ التركي عن المنطقة نفسها لأن تركيا ظلت خلال مرحلة الإمبراطورية العثمانية تمثل القوة الكبرى التي كانت منافساً للنفوذ الألماني على منطقة البلقان وتشير التحليلات إلى أن أحد الأسباب الداعية لرفض ألمانيا لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي سيتيح لها فرض سيطرتها بكل سهولة على المنطقة طالما أن تركيا خارج الاتحاد الأوروبي.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد