زواج الحب مغامرة و"الخاطبة" وصفة ثبتت نجاعتها
الجمل : بلغت المشاكل ذروتها بين ريم ذات الثلاثين عاماً وأمها بسبب عزوفها عن الزواج، فريم التي سبق لها أن خطبت إلى شاب حاز على رضا أسرتها، قد فسخت خطوبتها مؤخراً. تُرجع ريم سبب فشل خطوبتها إلى الطريقة التقليدية التي جرى وفقها التعارف والقبول، فقد تقدم الشاب إلى خطبتها بناء على اقتراح أهله الذين رأوا أنها فتاة مناسبة من كافة الجوانب، كان من أهمها سمعة العائلة الحسنة. للأسف، لم تتمكن ريم من التواصل مع خطيبها رغم جميع الصفات الملائمة التي يتمتع بها من الناحية الشكلية، فهو ابن عائلة معروفة، وضعه المادي جيد، يمتلك بيت مستقل في أرقى أحياء دمشق، ويمارس عملاً ممتازاً ولديه سيارة، بالإضافة إلى حسن مظهره ولباقة حديثه، عدا عن غضه النظر عن عمر الخطيبة إذ كان يكبرها بسنوات قليلة. على الرغم من كل هذه المواصفات المثالية للعريس، تقول ريم، وجدت صعوبة في التفاهم معه حول الكثير من الأمور؛ أولها، كان يفرض رأيه عليَّ دون نقاش، ومن غير أن يترك لي مساحة ضئيلة أعبر فيها عن مشاعري بحرية أو أتحرك باستقلالية بمعزل عنه، الخلاصة، كان بوضوح لا يحترم رأياً غير رأيه.
ضحت ريم بالخطبة والخطيب، كذلك بالسمعة السيئة التي تنجم دائماً عن فصم خطبة يبدو فسخها غير معلل بسبب جوهري، إذ ماذا يعني تأكيد الفتاة على استقلالية رأيها في زواج توفرت لديه الشروط الأساسية كافة، ألا يبدو شرط الحوار أو التفاهم مجرد تعلات فارغة ؟! عدا أن في العمر متسع للكثير من الحوار وستأتي بالتفاهم الأكيد لكن مع بعض التنازلات. بالنسبة لريم، تقول: في مثل هذه الحال، كل ما نظنه مكتسبات هامة من بيت وسيارة وجمال لا قيمة له إزاء إمكانية عدم التفاهم والإلغاء المسبق للحوار بين طرفين سيجمعهما الزواج وبناء الأسرة ؟! بعد هذه التجربة لم تعد ريم تفكر إطلاقاً بالزواج على الطريقة التقليدية. وتؤكد، لن اقترن إلا بشاب تربطني به معرفة سابقة، ظروفه المادية معقولة، لكن إمكانية التفاهم بيننا ينبغي أن تكون حظوظها مرتفعة. وتتابع، وهو أمر يبدو لأمي مستحيلاً فهي تتهمني باني لا يعجبني العجب، وبأنني لم أقدم التنازلات المناسبة والمتوجبة التي لا تضير فتاة في سني.
والدة ريم، ليست مشكلتها ريم وحدها، وإنما بناتها الثلاث، فقد يأست من تزويجهن، والناس "أكلوا وجهها" ففي كل يوم هناك من يتصل ويسألها إذا كان لديها بنات للزواج فتضطر للكذب، وتدعي بأن بناتها لا يفكرن حالياً بالزواج. وتتساءل والدة ريم، هل هناك أمر أسوأ من رواج إشاعة حول بناتي، أنهن لا يردن الزواج، والأسباب بما أنها غير معقولة فهي غير مفهومة؟ بناتي يتهمنني بالتخلف لأنني اقبل بدخول الخاطبات إلى بيتنا للتعرف عليهن، ويسببن لي الإحراج حين يرفضن مقابلتهن أو يتعمدن الظهور أمامهن بمظهر غير لائق.
مشكلة الزواج من المشاكل الاجتماعية القائمة والدائمة والتي مع الزمن قد تصبح عصية. فبالرغم من التحولات الكثيرة الطارئة على المجتمع والمنعكسة على هذه المشكلة، وبالذات ما يسبقها أي الخطبة، فقد نظن أن لكل عصر خصوصيته التي تميزه عن العصور الأخرى، ففي الوقت الراهن الذي تشهد فيه مجتمعاتنا الشرقية انفتاحاً واسعاً واختلاطاً بين الشباب والشابات سواء في الجامعة أو في أسواق العمل، يلاحظ أن مسألة الزواج ما تزال محكومة بجملة معايير قديمة وقيم موروثة لم تتأثر كثيراً بروح العصر ولا برياحه، وإنما على النقيض من ذلك يبدو مد التحرر والانفتاح المرتبك الذي نعيشه يعزز تلك القيم ويكرس القناعة بها، بحيث تظهر وكأنها الملجأ من الفلتان الاجتماعي تحت دعاوى التحرر، أو كأن التحرر عبارة عن هموم لفظية جامعية وشبابية وليس حياتية.
إن دمشق العاصمة والمدينة الكبيرة بمختلف تنويعاتها الاجتماعية، تمنحنا وللوهلة الأولى، انطباعاًً خاطفاً، بأنها ودعت الخاطبة مع جميع أساليب التعارف التي كانت دارجة في عقود سابقة، خاصة بعد التحولات الاجتماعية الملموسة التي طرأت عليها بفعل نزوح الريف إليها، واختلاط عادات وتقاليد الريف السوري بعادات وتقاليد دمشق المدينة، والمدينة السورية عموماً؛ المتميزة بأجوائها المغلقة عكس الريف، وبالأخص ريف حمص والساحل المتميز بانفتاحه، لكننا نفاجأ بالمجتمعات المدنية المحافظة مازالت تعتمد طرقها ومعاييرها التقليدية في الزواج، بل أنها تكاد تعمم تلك التقاليد على سكانها من الأصول الريفية، ونجد أنه تحت أي حال من الأحوال لا يجوز الاستهانة بمدن كدمشق أو حلب وحماه، وحمص في هذا المضمار، أو التشكيك بمقدرتهما على امتصاص وهضم الأساليب الوافدة بل وإعادة تشكيلها وفقاً لتقاليدها، عندما نشهد أهالي الريف يحاولون طواعية التكيف والتلاؤم مع أساليب المدينة على اعتبار أنها الأرقى أو الأضمن.
لذلك نرى عودة الخاطبة بصيغة أكثر عصرية، بخروجها عن نطاق الحرفة البحتة، وتفشيها في نطاق الأسر الشامية، فالأم أو الأخوات هن اللواتي يتكفلن بهذه المهمة لدى البحث عن عروس للابن أو الأخ. وهكذا، من الطبيعي مصادفة بعض الأمهات الدمشقيات وقد وقفن أمام أبواب مدارس البنات يراقبن الفتيات الطالبات بزيهم المدرسي الموحد، وإذا أعجبتهن واحدة أو أكثر، يأخذن عناوين سكنهن وأرقام هواتفهن. كذلك، لا يوفرن جهداً في انتهاز المناسبات الاجتماعية من عرس أو ولادة أو مباركة للبحث عن عروس، بالإضافة إلى حفلات الاستقبال النسائية التي درجت عليها النسوة الدمشقيات كتقليد شهري، تعقد في بيت إحداهن حيث تجتمع الصديقات وقريباتهن وبناتهن ويلبسن أجمل الثياب، يتداولن فيه أخبار المجتمع من زواج وطلاق وخطوبة وإشاعات، خلالها لابد أن يحدث تعارف بهدف انتقاء عروس.
سوسن (25 عام) خريجة كلية الآداب. تقول، لقد مللت من مرافقة أمي إلى الاستقبالات، فعدا عن أنها تلزمني بإرتداء تنورة قصيرة ووضع مكياج لم اعتد عليه، تفرض علي قواعد في التحرك والتحدث مع صديقاتها كي أنال إعجابهن، عليَّ أحظى "بجوازة حرزانة" آخر مرة شاركت فيه بحفلة استقبال نسائية، كانت في بيت جدتي وقد ذهبت إلى هناك مباشرة بعد خروجي من الجامعة، مرتدية الجنز وشعري معقوف إلى الأعلى ووجهي بدون مكياج يذكر، اعتبرت جدتي ظهوري على هذا النحو في بيتها عدم احترام لها، أما والدتي فقد نهرتني وقاطعتني أسبوعاً كاملاً لأنني خذلتها، والسبب أنها وعدت سيدة من عائلة راقية تبحث عن عروس لابنها بأن تراني. تؤكد سوسن، كم هو مهين أن تشعر الفتاة بأنها بضاعة للعرض. الطريف، وبالطبع المزعج أيضاً، أن بعض السيدات من العمات أو الخالات وربما الجيران المكلفات بمهمة المشاركة في انتقاء العروس لا يكتفين بالنظر المدقق، بل يعمدن إلى تقليب البضاعة، فتعانق إحداهن الفتاة وتقبلها، وقد تمرر يدها على جسدها بحركات مفضوحة لا تخفي أنها تتفحص جودة البضاعة، خشية وجود عيب مستور، كأن تكون الفتاة قد لجأت إلى وسائل تجميلية مثل ارتداء حمالة صدر محشوة أو مشد ورك قاس، وإذا لم تجد نتيجة لمثل هذا النوع من العناق الشديد أو "اللحمسة" البريئة، فقد تلجا إلى أساليب عملية، كأن تدلق القهوة على ملابسها أو أي شيء وثم تساعدهاعلى الإزالة الفورية لما حدث. وتنتهي سوسن إلى التساؤل كم يبدو ذلك كاريكاتورياً ومضحكاً .
بينما تالين (28 عام) موظفة في شركة اتصالات، ترى في انتقادات طرق الخطبة التقليدية مبالغة كبيرة وحكم جائر، لأن تلك الطرق بالذات أثبتت فعاليتها اكثر من التعارف المباشر، فالأهل عندما يبحثون عن زوجة لابنهم، فهم لا يراعون جمال العروس فحسب، بل تقارب التركيبة الاجتماعية من حيث البيئة والسوية والسمعة والعادات، وأسلوب حياة عائلة العروس التي يجب توافقها إلى حد معقول مع نمط حياة عائلة العريس لضمان نجاح الزواج، بمعنى أن هناك قواعد يؤخذ بها ولا تتم الأمور اعتباطاً. وتضيف رهام (24عام) متزوجة حديثاً، أن التعارف المباشر بين الفتاة والشاب يحمل قدراً كبيراًً من الزيف والإدعاء، وغالباً ما تظهر نتائجه السيئة بعد الزواج. ويشارك تالين كذلك في الرأي فادي (27 عام) الذي قد يعتمد على أخته لانتقاء زوجة ملائمة ، وسيأخذ بما يقترحه عليه الأهل من نصائح حول الفتيات من معارفهن، أما بالنسبة له ولصداقاته مع زميلاته فلا تتعدى كونها صداقات عابرة لتمضية الوقت سواء من جانبه أو من جانبهن، أما الحب فيقلب فادي شفتيه باستخفاف: لا اعتقد انه موجود، ربما يكون هناك إعجاب، لكن حب وعشق وهيام بهدف الزواج فهو مجرد كلام فارغ، الواقع غير الأحلام، لقد شهدت أكثر من علاقة حب دامت طويلاً انتهت بزواج كان قصيراً جداً وفاشلاً جداً.
جورج (29 عام) يعمل في مجال التجارة، يحكي تجربته في البحث عن نصفه الآخر فهو يرفض تماماً فكرة تدخل الأسرة أو اقتراحاتها بشأن زواجه، ويفضل أن يلتقي بالفتاة التي "تخرط مشطه" يعني تنال إعجابه وتجعله يحبها، وهو حتى الآن لم يعثر على تلك الفتاة رغم صداقاته الكثيرة، فالفتاة التي تعرض عليه حبها وتتلهف إليه لا يرغب بها، أما نصيحة أصدقائه المجربين بأن الفتاة كالكرة كلما قذفتها بعيداً ارتدت إليك، فقد أثبتت فشلها لأن أية واحدة منهن لم ترتد إليه؛ ما جرى، أنهن ذهبن يبحثن عن غيره، ولم يرين فيه سوى عريس لم يحالفهن الحظ في التقاطه. كذلك، سمر (23 عام) تعلن فشلها في العثور على شاب لقطة، وكلما تخيلت أنها ظفرت بطلبها فر العريس من يدها إلى فتاة أخرى بواسطة تطبيقات نسائية من أقاربه أو أقاربها؛ في حالتها، تقول: لن أمانع إذا ساعدتني قريباتي في العثور على عريس يحوز المواصفات المطلوبة، أما بخصوص التعارف فتبدي سمر رأيها من تجاربها: سواء تم التعارف قبل الخطوبة عبر علاقة حب أو بدونه فهو تعارف كاذب، التعارف الحقيقي لا يتم إلا بعد الزواج والعيش المشترك تحت سقف واحد، ولأن مجتمعنا يرفض هذا النوع من التساكن قبل الزواج، يبدو أن الزواج التقليدي هو الأنجح إن لم يكن الأسلم، لأنه على الأقل لا يخلو من بعض الأسس الضرورية لبناء المؤسسة الزوجية كتوفر الوضع الاجتماعي والأخلاقي المناسب للطرفين بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي. كما أن التعارف بعد الزواج التقليدي يتجنب الخيبة لأنه يبنى على أرضية الزواج، ولا تسبقه الأحلام والتصورات والأفكار الخيالية فحسب، والمستندة، غالباً ما إلى الوهم وليس الواقع، كما يحدث في علاقات الحب الجميلة التي تنتهي بالزواج والعذاب، ولن يكون الاستمرار بعد الخيبة سوى الخشية من كلام الأهل والناس، بينما يبدو الأمر سهلاً في حال تم التعارف لاحقاً حيث يأخذ شكل التكيف الطويل والهادئ مع التنازلات المتقابلة والمتدرجة.
محمد (33 عام) يعتبر أن الزواج عن طريق الخاطبة جيد لما يتيحه من فرصة للنقاش والتروي، من حيث طرح الكثير من الأمور الحساسة بشكل سافر ومن غير خجل، قبل التورط في الارتباط ووعود الزواج، بل يرى انه كرجل غير قادر وحده على اختيار الفتاة المناسبة، إن الميزات المفروض توافرها وكيفية الاستدلال عليها، هو عاجز عن تبينها، فعندما نوى على الزواج كان يدقق في شكل الفتاة بينما تنصرف والدته للسؤال عن أهلها وبالأخص أمها وطريقة تربيتها، بالإضافة إلى ملاحظة أسلوب حياتهم في البيت من نظافة وترتيب وتفاصيل لاعد لها ولا حصر. يتابع محمد، في اللقاء الأول مع الفتاة التي أصبحت زوجتي كانت أمي تحاول فك شيفرة التفاصيل لقراءة ماهية العائلة التي تنوي مصاهرتها فكانت مثلاً تمعن النظر في فنجان القهوة الذي قدمته العروس لها، فأولاً دققت إذا كان مجففاً بشكل جيد، ثم مررت أصابعها على قاعدته إذا كان قد علق به الكلس، فيدل على أن هذه الأسرة لا يزورهم ضيوف كثر، أو إذا كان هناك تراكمات أوساخ قديمة، فيدل على أنهم لا يعتنون بدقائق النظافة، ثم تعمد إلى الجلوس بجانبها وشم روائحها، وتحاول الدخول إلى الحمام والمرور من جوار غرف النوم والقعود والمطبخ للاطلاع على ذوقهم في المفروشات والأثاث، أي تحاول فهم أسلوب حياتهم. يعقب محمد، ربما كان هذا كله لا يعنيني من النظرة الأولى لكن بعد زواجي تنبهت كم كان مهماً ومفيداً الاطلاع على خصوصيات أهل العروس؛ خاصة إذا كان أحد الطرفين يؤكد على التفاصيل التي تبدو فيما بعد السلسلة التي تبني عليها سعادتنا اليومية أو نكدنا اليومي. سامية (25 عام) لا تتفق أبداً مع ما قاله محمد، فقد رفضت غير آسفة عريساً، لأن والدته كانت حشرية، ودست أنفها في شؤونها الخاصة جداً، واعتبرت ذلك مقياساً لحشرية مستقبلية قد تقوض حياتها إذا قبلت الزواج بابنها المطواع، فسألتها مثلاً عن طريقة غسلها للصحون وتنظيفها للحمام وإذا كانت تجيد الخياطة أو أعمال منزلية أخرى لا بد للزوجة من إتقانها، لقد تدخلت في ما لا يعنيها وإذا قبلت بذلك يعني أنني منحتها الشرعية لتتدخل في حياتي.
أما باسم وهانية وعمار وخالد، الزملاء في السنة الأولى كلية الطب، فقد ضحكوا كثيراً على ما طرحنا من أفكار حول الزواج التقليدي واعتبروا انه انقرض منذ انقرضت الديناصورات ولم يتخيلوا أبداً أن يكون هناك من الشباب من يقبل بالزواج عن طريق الأهل، ففكرة الزواج بحد ذاتها، كما يؤكد خالد في طريقها إلى الزوال، اليوم صار من الأهم أن يكون هناك صداقة وحب، لا زواج وأولاد وأسرة. ربما تكون تلك رؤية غضة وتبسيطية للحياة كما يريد أن يحياها الشباب في مقتبل العمر لكن مع تجاوز سن الثلاثين غالباً ما تنحو تلك الأفكار نحو التسليم بالسائد من عادات وتقاليد بهدف تحقيق استقرار افضل، وقد نستغرب من موقف أبو هشام 60 عام الذي رفض دخول الخطاب إلى بيته لرؤية بناته مهدداً زوجته بالطلاق في حال استقبلتهم لأن بناته لسن أبقار أو بضائع معروضة للبيع، في الوقت ذاته الذي اعتبرت بناته سهى وسهام و سناء اللواتي تجاوزن الثلاثين بالعمر أن تصرف والدهن ليس إلا "قطع نصيب" وتوعدن بأن يتصرفن على هواهن وسيقابلن هؤلاء الخطابة أو سيعلن عن رغبتهن بالزواج في الصحف والمجلات والانترنيت كما يجري في دول عربية أخرى.
وتتساءل صغراهن سهام 31 عام أشعر أننا حقاً نعيش أزمة في الزواج لماذا لا يوجد في سورية مؤسسة واحدة تعنى بالتزويج كتلك التي نسمع عنها في السعودية أو دول الخليج، أو على الأقل ان تهتم الصحافة الاجتماعية المحلية بتسهيل التعارف بين الراغبين بالزواج، فسهام لا تعتبر ذلك عيباً، ويدهشها عدم تتقبل المجتمع السوري عموماً لفكرة الزواج عبر الصحافة والانترنيت التي تراها سهام صيغة متطورة لمهنة الخاطبة التي كانت سائدة في العقود الماضية ولا بد للمجتمع السوري من مواكبتها، فادعاءات التحرر التي نتبجح بها غالباً ما تقود الفتاة نحو العنوسة، وتقول حتى والدي "المثقف" الذي رفض دخول الخطابة إلى بيتنا تزوج والدتي على الطريقة الدمشقية التقليدية، واعتقد أن زواجه كان ناجحاً ورفضه لهذه الطريقة اليوم ليس لفارق الزمن وإنما خوف من أن يتهمه زملاؤه المثقفون بالتخلف والرجعية، ومن المؤسف أن أنا وأخواتي ندفع ثمن التحرر المتأخر لأفكار والدي.
المفارقة، هي، ومن غير تمييز بين العائلات الغنية في الأحياء الراقية والشعبية في الأحياء القديمة، والبيئات المسلمة والمسيحية، المدينية والريفية المقيمة في المدينة، سواء كانوا متعلمين أو مثقفين، موظفين أو أعمال حرة. المفارقة، أن الخطبة والزواج التقليدي بدا أكثر عقلانية، من الخطبة غير التقليدية والزواج المبني على التفاهم، وكأنما زواج الحب بات أشبه بمغامرة غير مضمونة العواقب على الإطلاق. وربما حتى هؤلاء الطلبة، طلبة الطب، الذين يعتقدون بأن هذه التقاليد تدعو للسخرية عدا أنها انقرضت، لن يشذوا عن التقاليد نفسها عندما سيتزوجون، وأسوة بمن سبقهم سيرسلون أمهاتهم أو أخواتهم لينتقوا لهم شريكة المستقبل.
وقد تكون الدلالة الأهم، أنه في عصر الاتصالات وتقريب المسافات الشاسعة بين أرجاء العالم، تتماثل الأسرة الشرقية بكامل هيبتها وهيمنتها وسطوتها، ليس لأن الأسرة نفسها عصية على التحديث، بل لأن الحداثة لم تقترب منها، ولهذا ما تزال الأسرة محافظة على تماسكها ومفاهيمها ومعاييرها، بل إن وسائلها القديمة تثبت نجاعتها، على العكس من تحديث مسطح لم يقدم سوى فوضى العلاقات العابرة، وجموح التحرر المنفلت، دون أن يمس جوهر علاقاتنا، سوى في فترة معينة، مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية. لكن الدلالة الأسوأ هو أن الأسرة مازالت أيضاً تمارس أساليبها التقليدية المضادة حتى لكرامة أفرادها، دون استثناء البالية منها.
الجمل
إضافة تعليق جديد