أوروبا تفرض خطتها الغامضة على اللاجئين: نتقاسمكم.. إذا نجوتم من حدودنا!
الجو الماطر لم يمنع الوقوف لتبادل الاتهامات والتهديد بعدم «الرضوخ». هناك مطر، لكن توجد مظلات. حمل الوزراء ومساعدوهم ما يقيهم هطولات بروكسل، ليؤكدوا أنهم ماضون بإصرار إلى خلافاتهم.
لا حل وسطاً بدا ممكنا خلال الاجتماع الطارئ الذي عقده وزراء الداخلية الاوروبيون، لمحاولة جسر انقسامهم حول «أزمة اللاجئين». ألمانيا قالت إنه لا مناص من الخروج بنتيجة، حتى لو اضطر الأمر الى فرض قرار بالغالبية. الآخرون رددوا أن فرض «حصص إلزامية» لن يمر بأي شكل.
أطلّ وزير خارجية لوكسمبورغ جون أسلبورن بابتسامته المعروفة. هل أنت راضٍ عن القيام بإعطاء صلاحيات للجيش كي يصد اللاجئين بالقوة «غير المميتة»، سيدي الوزير؟ لم يرد الخوض في المسألة، اكتفى بالقول إن ما لا يرضيه أمر آخر «أنا لست سعيدا بالطقس».
أسبورن شخص مناسب ليطرح عليه هذا السؤال، فبلاده تتسلم الآن الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. مجال الرئاسة يكون عادة التواسط والتوفيق. لذلك اجتمع الرجل بوزراء داخلية جبهة الرفض لنظام «الحصص الالزامية»، من أجل تقاسم اللاجئين وفق خطة اقترحتها بروكسل. كيف كان الاجتماع إذاً، هل هناك حل وسط في الأفق؟ يصمت للحظة، ثم يرد «أعتقد أن جميع دول الاتحاد الأوروبي يجب أن تتحمل المسؤولية، لقد وضعنا (الرئاسة) على الطاولة نصا قابلا للاجماع، سنعمل عليه وأعتقد أن له آثارا إيجابية».
لكن نص التوافق لم يعمل. معسكر الرفض استمر في وضع «لا» كبيرة، برغم التحويرات في صياغة التسوية. لا تسوية إذاً. ساعات قليلة كانت كافية للتأكد من هذه النتيجة. نفذت المانيا، بالتكاتف مع فرنسا، التهديد: تم التصويت بالغالبية، وتم فرض القرار على من لا يعجبه. هكذا تم إقرار خطة لتوزيع 120 ألف لاجئ بين الدول الأوروبية، سينقلون بشكل أساسي من اليونان وإيطاليا على مدار سنتين. الغالبية كانت ساحقة. عارضت أربع دول: المجر، طبعاً، مع تشيكيا وسلوفاكيا ورومانيا.
بولندا كانت بين معسكر الرفض، لكنها قررت أن الأمر لا يستأهل هذه المواجهة السياسية. التوزيع عملياً سيتم بناء على خوارزمية، أو نظام احتساب، يركز على تعداد سكان الدولة وحجم اقتصادها، كما يأخذ في الاعتبار (بنسبة 20 في المئة) حجم البطالة فيها وعدد اللاجئين الذين استقبلتهم. المقصود عمليا تطبيق نظام «الحصص»، لكن لا ذكر إطلاقا لهذه الكلمة.
الحساسية شديدة من القضية، لدرجة المجاهدة لعدم إيراد التعبير في وثيقة أوروبية. حتى مع رفضهم، كانت هنالك ضرورة لمراعاة غير الموافقين. اقتضى الامر ايضاً تغيرات أزالت العقوبات المالية في حق من لا يطبق القرار، ويرفض استقبال نصيبه من اللاجئين. كل دولة ستأخذ حصتها، ومن لا يقدر، لأسباب مبررة، يمكنه تأجيل 30 في المئة إلى سنة ثالثة.
الخطة المقرّة لا سياق أوسع لها. إنها اتفاق لمرة واحدة. كانت المسودة تتضمن آلية دائمة لمعالجة تدفقات اللجوء، لكن تمت إزالتها لأنها كانت ستفجر الخلافات خارج كل لياقة. حتى بعض الدول، غير المعارضة، كانت متحفظة. فنلندا قررت الامتناع عن التصويت. سألنا وزير داخليتها بيتري أوبرو عن حيثيات موقفهم، فأكد أنهم لا يريدون مبدأ الاملاء، موضحاً سياق قرارهم، قال «أنا مسرور بالنتيجة، كنا جاهزين لقبول المقترح الالماني، لكننا لم نتوقع الآلية، ولذلك لم نصوت»، قبل أن يضيف «لا نريد آلية دائمة، ولا نريد أن يتم إصدار الأمر لدولة عضو بأن عليها القيام بشيء ما». حرص على التأكيد أن بلاده ستطبق القرار: «نحن داخل النظام ونريد التعاون»، لذا سنأخذ حصتها البالغة 2400 لاجئ.
وفق الخطة المقرّة، سيتم البدء بتوزيع 66 ألف لاجئ من ايطاليا واليونان، على أن يستكمل توزيع 54 ألفا آخرين خلال العام المقبل. كان المخطط أن يتم نقل 54 ألف لاجئ من المجر، لكنها ترفض بأي شكل اعتبارها دولة في «الخطوط الأمامية» لهذه الأزمة. طبعاً، هناك شروط «لتقاسم الأعباء» مع دولة ما. عليها أن تقبل مبدأ أنها دولة مأزومة بتوافد اللاجئين، وبالتالي أن تنشئ مراكز استقبال كبيرة لايوائهم.
هذه المراكز ستعمل وفق تسمية «نقاط ساخنة»، ستُرسل إليها فرق الاختصاصيين الأوروبيين ليقيّموا طلبات اللجوء بسرعة. من يتم قبولهم كلاجئين سيدخلون نظام التوزيع، ولكن من يرفضون لأنهم «مهاجرون اقتصاديون» سيتم ترحيلهم على وجه السرعة.
المجر ترفض أن تكون «مركز تجميع» للاجئين. ترفض أن تكون «نقطة ساخنة». رئيس وزرائها فيكتور أوروبان مرر قانونا في البرلمان يسمح للجيش باستخدام القوة لصدّ اللاجئين، كما لو أنهم أعداء. بالأحرى، إنهم أعداء حقيقيون وفق قوله. ردد أمام برلمان يهيمن عليه إن بلاده تواجه هجوما «وحشيا»، موضحا أن اللاجئين «ليس فقط لا يطرقون الباب، بل يكسرونه على رؤوسنا».
برغم كل هذا التطرف، فإنّ بعض الدول تهادنه لأن لها مصلحة. النمسا تستقبل آلاف اللاجئين، أولئك الذين تشحنهم كرواتيا إلى حدودها مع المجر، قبل أن تنقلهم الأخيرة إلى الحدود النمساوية. حينما سألنا وزيرة داخلية النمسا عن وضع الجيش المجري أمام اللاجئين، لم تبد ذلك القلق. قالت بنبرة متزنة إن «المبادرة المجرية تُظهر مدى أهمية استعادة الأمن وحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، (الأمر الذي يجب أن يحصل) أيضا في إيطاليا واليونان، فهذه هي الأولوية الأهم لنا».
الخطوة المجرية تثير امتعاضاً واضحاً لدى العديد من الاحزاب الأوروبية. مجموعة الليبراليين في البرلمان الأوروبي طالبت بأن يطبق بحق المجر المادة السابعة من المعاهدة الأوروبية. للمصادفة فإن المادة «السابعة» تشبه الفصل السابع الذي يجيز استخدام القوة في مجلس الأمن الدولي. هذه المادة يمكن أن تتحرك في حال كان هناك غالبية سياسية وازنة تعتبر ما فعله أوروبان «انتهاكاً للقيم الاوروبية».
حين سألنا وزير داخلية فنلندا عن القضية، قال فوراً «ما يفعلونه (استخدام الجيش) لا يعجبنا على الاطلاق، لذلك نحتاج الى ايجاد حلول أوروبية، وهو ما فعلناه اليوم» في اشارة إلى إقرار الخطة.
نظام «الحصص»، حتى لو أغفلت هذه التسمية، يتضمن قيودا على اللاجئين. المعروف أن كثيرين يفضلون المانيا، أو دولا أخرى مثل السويد. لكن حينما سيوضعون في نظام التوزيع، لن يكون هناك مجال قانوني للاصرار على اللجوء في غير الدولة التي سيرسلون إليها.
تقول بروكسل إنها ستراعي أوضاع العائلة الصغيرة، بما يمنع تشتتها. لكن غير ذلك سيحرم أي لاجئ يخالف قرار التوزيع من المساعدات الاجتماعية، كما سيتعقد وضعه القانوني بالنسبة للحصول على اللجوء.
اللجوء إلى أخذ القرار بالغالبية، برغم إصرار البعض على رفضه، أغضب الدول الرافضة. رئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو هدد سابقا بأنه «طالما أنا رئيس للوزراء، فلن يتم تنفيذ نظام حصص إلزامية على الأراضي السلوفاكية».
شدة الخلافات جعلت جو الاجتماع «فظيعاً»، كما قال أحد الديبلوماسيين. أحد المسؤولين خرج من القاعة بصحبة وزيره، من دولة رافضة، كان يهز رأسه باستياء واضح. حين سئل قال «طبعا هذا لا يعجبنا. لكن ما العمل؟! علينا أن نهدأ، لا مفر من تطبيق القرار. على الأقل لم تصبح الحصص آلية دائمة».
الغضب من التصويت بالغالبية كان يخرج البعض من ملابسه. وزير داخلية التشيك قال بعد إقرار الخطة رغما عن معارضتهم إن «الحس السليم كان هو الخاسر اليوم»، مدللا على الانقسام الذي حصل، وما يعتبرونه دعوة مفتوحة للاجئين تمثلها خطة التوزيع. قال ساخراً «قريبا جدا سوف نرى الامبراطور بلا ملابس». كانت إشارة إلى القصة الشعبية الشهيرة، حينما يعرف الجميع أن الأمبراطور عار إلا هو!
الخطة ليست آلية دائمة إذا. ما الحل؟ يقول مسؤول أوروبي كان في الاجتماع إن «الأمر متروك للمستقبل، اليوم أنجزنا خطوة، والآلية الدائمة يمكن بحثها لاحقا».
ليس هناك اتفاق حول كيفية إدارة الحدود الأوروبية، ولا قرار حاسما حول المجرى الموحد الذي يمكن أن ينظم جريان سيل اللجوء. الأمر متروك للارتجال. القمة الطارئة لزعماء الاتحاد الاوروبي اليوم ستتطرق للعناوين السياسية للأزمة، خصوصا الخلافات حول أي سياسة يجب إتباعها. قررت أوروبا خطتها، فرضتها، لكنها تركت قضية اللجوء أمام أفق غامض.
برلين تتعرض لانتقادات متواصلة ممن يعتبرها متقلبة. مرة ترحب باللاجئين ثم تفرمل بعد فترة. الحيرة التي تعيشها القيادة الالمانية واضحة. شركة القطارات الوطنية أوقفت رحلاتها إلى النمسا، التي يتدفق منها سيل اللاجئين، حتى الرابع من الشهر المقبل.
الحيرة والتقلب يسودان كرواتيا أيضا. بعدما قالت إنها لن تغلق منافذها الحدودية، قامت امس بإغلاق المعبر الرئيسي الذي كان اللاجئون يستخدمونه على حدودها مع صربيا. حكومة كرواتيا لا تريد أيضا أن تكون بلادها «نقطة ساخنة»، أو مركز تجميع للاجئين. إضافة إلى شحن التدفقات إلى حدودها مع المجر، وقد رفضت توسيع مخيمات مكوثهم حتى يتوافر مجال للترحيل.
منظمات حقوقية قالت إن هناك ثمانية آلاف ينتظرون قرب الحدود مع صربيا، لكن الخيم تتسع فقط لثلاثة آلاف. الشرطة الكرواتية تتبع توجيهات حكومتها. متساهلون مقارنة مع المجر، لكنهم لا يريدون أدنى علامة تشير إلى طول إقامة اللاجئين عندهم. لا أحد تقريباً يريد البقاء هناك، لكن خوفهم أن تضطر تلك الجموع إلى البقاء، إذا تعذّر ترحيلها لأي سبب كان.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد