الأوروبيون يقفزون إلى مستقبل سوريا.. بمبادرة جديدة
حينما كانت روسيا تُعلن هدنة الثماني ساعات في حلب، كان وزراء الاتحاد الاوروبي يلتقون بالمبعوث الاممي ستيفان دي ميستورا، ليغلب الرأي بإخراج مسألة العقوبات الضاغطة على موسكو من حيّز النقاش. لا مكان لها، لم يطرَحها أحد، ستجعل الوضع أسوأ، والحلَّ أبعد.. هذه كانت الخلاصة الراجحة.
الأمران مترابطان، فالاتحاد الاوروبي رحّب بهدنة الساعات، فيما تنتظر قوافل المساعدات التي أعدّها على أبواب شرق حلب منذ أيام، تاركاً لوكالات الإغاثة التقدير إن كان ذلك الوقت كافياً للعبور والعودة. المبعوث الأممي جعل من الواضح أن تسويةً حول حلب ستكون شرطاً لا يمكن الذهاب من دونه إلى جولةٍ جديدة من التفاوض في جنيف، فيما تقول مصادر مطلعة إن منعَ انتصارٍ روسي سيكون أولوية تفتحُ الباب لخيارات ضغطٍ كانت مستبعدة لوقت طويل، مع بعض المعطيات عن وجود مبادرةٍ سعودية على الطاولة.
أمام الحاضر السوري المُثقل أيضاً بالتعقيد في مستوى القرار الدولي، بالحسابات والتنافس والهوامش بين موسكو وواشنطن، الاوروبيون يريدون القفز إلى المستقبل. أطلقوا مبادرةً جديدة يريدون منها العمل على إيجاد هندسةٍ ولو أولية لمستقبل سوريا، عبر فتح قنواتٍ مع اللاعبين الإقليميين. هذه الهندسة القائمة على «الأرضية المشتركة الممكنة»، يريدون التلويحَ بها كحافزٍ يُمكن أن يساعد في دفع مسار المفاوضات والانتقال السياسي، علاوةً على أن هناك أصلاً إدراكاً واضحاً بأن القسط الأكبر من إعادة إعمار سوريا سيكون مسؤوليةً أوروبية.
بعيداً من المستقبل، الأمور بالنسبة لدي ميستورا كانت واضحة، حينما كرّر رسالتَه بطرقٍ مختلفة عن مفترق حلب. تحدث عن أولوية المساعدات الإنسانية، الإغاثة، مشدداً على أن التاريخ سيُحاسِب من لا يتحرك الآن. سألناه عن حال الاستعصاء في المباحثات بين روسيا وأميركا، فردّ بالتشديد على أنه لا نتائج مرجوة مع قرار الحسم العسكري الروسي في حلب. قال بكلماته إن «مسألةَ الحصول على محادثات هي أولويةٌ لنا أيضاً، ولكن لا يمكننا أن نتصور الحصول على محادثات منتظمة وعادية حول سوريا حينما تكون قضية حلب، الرمزية جداً، مُعلقة ببساطة في السماء، مع القصف، وفي الوقت ذاته مئة ألف طفل هناك».
حاول دي ميستورا جهده الإيحاء بأن الأفقَ السياسي لم يُغلق بعد. مشيراً إلى لقاء دول اقليمية مع روسيا وأميركا في لوزان قبل أيام، لفت إلى أنه «كان هناك بعض التقدم في لوزان يُمكن البناءُ عليه»، قبل أن يعاود محاولة إزالة أي شكوك بأن مهمته تساورها الاستقالة: «أنا لست متشائماً أبداً، أنا مُصمّم جداً، لكني أحياناً قلقٌ أيضاً من حقيقة أنه إذا فقدنا أحياناً نوعاً من الفرصة لإحداث فرق، فإن التاريخ سيحكم علينا».
مبادرةُ إخراج «النصرة» محطُّ جدل، محطّ اعتراضٍ للدقة، كما يبدو أن هناك دولاً أوروبية غير مُتحمّسة لها إطلاقاً. كان ذلك واضحاً في البيان الأوروبي حول سوريا، حينما حشدَ كل دعم ممكن لجهود المبعوث الدولي، لكنه اكتفى بـ «أخذ العلم» بمبادرته الوحيدة لإنقاذ حلب. دي ميستورا نفسه يفهم جهةَ الاعتراضات، خصوصاً أن الاوروبيين أدانوا استخدام «تجويع السكان» و»النقل القسري للمدنيين» بوصفه «تكتيك حرب». لهذا حاول الوسيط الأممي الطمأنة بالقول إن «هناك إمكانيات لتطبيق بعض الصيغ التي فكرنا فيها من أجل تجنب أن تصبح حلب مكاناً مثل داريا والمعضمية وأماكن أخرى».
سألنا وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي، فيديريكا موغيريني، خلال المؤتمر الصحافي الختامي، عن أسباب هذا الارتباك، فحاولت عدم إثارة ضجة حول الأمر مع التلميح إلى وجود إشكالية. قالت إن الأمر «خضع لنقاش تفصيلي بيننا. ما نقوله هو أن كلَّ ما يُمكن أن يعمل على الجانب الانساني لحلب سيكون موضع ترحيبنا ودعمنا، برغم أننا نعلم أن المبادرة لها بعض الجوانب الصعبة لجهة التطبيق».
لكن مصادر غربية مواكبة للحراك الديبلوماسي قالت إن هناك مبادرات سياسية مطروحة لم تخرج للعلن، جرى عرضها في اجتماع لندن، بحضور دزينة دول أوروبية مع أميركا والسعودية. تقول المصادر إن «الرياض حملت أفكاراً جديدة بالنسبة لمستقبل سوريا»، قبل أن توضح متحفظةً على كشف المزيد «لا يمكننا قول الكثير الآن». مسؤول أوروبي رفض التعليق على ذلك، مكتفياً بالقول إن «الأمر يعود للأميركيين للقرار بخصوص ما تطرحه الرياض».
مصادر ديبلوماسية أوروبية رأت أن كل المحاولات الجارية تدور عبر محرك واحد: منع سيطرة موسكو وحلفائها على حلب، مع التشديد «بكل الطرق الممكنة». أكدت المصادر أن هناك «قراراً بعدم السماح لحلب بأن تسقط في يد روسيا والنظام السوري»، قبل أن توضح «سيعطى بعض الوقت بالتأكيد للديبلوماسية، في مرحلة ما يجب التلويح جدياً بامكانية تزويد المعارضة بأسلحة متطورة لاستعادة التوزان والضغط، وإذا لم يستجب الروس فعليهم تحضير أنفسهم لرؤية طائراتهم تسقط». المصادر شددت على أن هذا السيناريو الأخير «لن يُطبق إلا في المرحلة الأخيرة، إلا إذا ظهر بوضوح أنه لا أمل بكل محاولات إيجاد حلٍّ يمنعُ سقوط حلب».
لكن مع كل ذلك، يبقى الواضح للجميع غياب الدور الاوروبي الفاعل. هناك حسرةٌ نقلها مسؤولون كثيرون، بعضهم لم يتردد في الاحتجاج على أن أوروبا تواجه العواقب المباشرة، فيما روسيا وأميركا تقودان دفة الصراع. مع هذا النقص، جاءت مبادرة موغيريني للقفز بحثاً عن أرضية مشتركة يمكن إيجادها في مستقبل سوريا، والعودة خلفها لترويج صورتها بما يمكنه الاضافة للمسار التفاوضي. دول الاتحاد الاوروبي أكدت تفويضها للديبلوماسية الايطالية كي تنهض بهذه المهمة، مع التأسيس لدور أوروبي «رئيسي» حينما يتم الجلوس على الطاولة لحسم المستقبل السوري. إلى جانب الاتصالات مع اللاعبين الاقليميين، التي ستنطلق من اليوم، سيجري النقاش مع مجموعات معارضة ومع مجموعات المجتمع المدني، وممثلين عن «الاقليات».
وزيرة الخارجية الأوروبية استدعت بنفسها الانتقادات الممكنة: تعرف أن البعض سيرى الطرح «سريالياً»، كما لا تريد بأي حال «رفع التوقعات». لماذا إذا؟ سألنا موغيريني كيف ستعمل بشكل ملموس، كيف عملياً ستتحدث مع اللاعبين الاقليميين عن مستقبل سوري يحاول جميعهم صياغته بما يناسب مصالحهم المتضاربة حدّ الحرب والصراع؟! ردت بالقول إن العمل سيجري بتكتّم :»إذا كان في وسعنا إيجاد أرضية مشتركة من الممكن البناء عليها، أعتقد أن هناك بعض العناصر التي يمكن استكشافها، بعيداً من أخبار الميديا»، قبل أن تضيف «بالتأكيد هناك أرضية مشتركة للحفاظ على وحدة البلاد، وهو أمر لا يمكن ضمانه تماماً إذا واصلت الأمور بهذه الطريقة، العلمانيةُ أيضاً أرضيةٌ مشتركة، وضمان أن كل الاقليات تجد مكانها في المستقبل».
المبادرة تستهدف وضع تصور لسوريا ما بعد انتهاء الصراع: إعادة الاعمار، الهيكلة المؤسسية، المصالحة، الحوكمة، مع جعل البناء الاقتصادي مرتبطاً بالانتقال السياسي. عمليةٌ محاطة بالمخاطر، ليس معروفاً ما ستنتجه. إنها سلسلة من الممكنات كما وصفتها موغيريني: «تطوير أرضية مشتركة من حيث المبدأ، في حلول ملموسة يمكنها أن تكون الأسس للحوار، الذي يمكن أن يغذي العملية (التفاوضية) التي يمكن أن تبدأ في جنيف».
كل هذا لا يغطي تضجّر الاوروبيين من الاستحواذ الاميركي والروسي على الملف السوري. حينما سألنا وزير التشيك لوبومير زاوراليك، عن آفاق مبادرتهم، قال بوضوح «لا أشعر بالرضى التام عن الدور الحالي للاتحاد الاوروبي، لكن تعرف أن لدينا مساحة محدودة، فليس لدينا انخراط عسكري، وهو أمر أيضاً قررناه، لأن الدول الاوروبية قررت أنها لن تتحرك بطريقة عسكرية»، قبل أن يعقب «نحن مقتنعون بأن هذا الصراع ليس له حل عسكري، لهذا نحاول استخدام كل الادوات الديبلوماسية فقط».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد