العودة إلى الأصول: بين الدين والإيكولوجيا
قد تشترك الايكولوجيا مع علم الاديان في هم البحث عن الاصل، الا انها لا تشكل دينا جديدا، كما ذهب بعض النقاد. ولعل البحث عن الاصل، كان يشكل هاجسا عند معظم العلوم الوضعية كما عند الاديان والفلسفات القديمة على حد سواء.
يؤكد عالم الاديان الروماني الشهير ميرتشيا الياده في كتابه «البحث عن التاريخ والمعنى في الدين» (الذي نقله الى العربية الدكتور سعود المولى والصادر حديثا عن المنظمة العربية للترجمة)، ان البحث في الاصول، كان يشكل «سرسابا» وهاجسا عند العلماء الغربيين القدماء. فعالم الطبيعة كان همه البحث عن اصل الانواع، والعالم البيولوجي كان يهجس بالبحث عن اصل الحياة، والجيولوجي والفلكي يبحثان عن اصل الارض والكون... أما علماء ومؤرخو الدين فقد كان هاجسهم البحث عن اصول وبداية الفكر الديني. وكذلك الامر بالنسبة الى علم النفس، الذي كان يسمى «علم نفس الاعماق»، ولا سيما مع فرويد الذي كان يصف تقنيات التحليل النفسي بأنها نوع من «النزول الى الاعماق»، او «النزول الى تحت». ويبدو ان هذا التشبيه البسيكولوجي كان مستمدا او مستوحى من علم دراسة المغاور والكهوف ومن الغوص في اعماق البحار لاكتشاف الكائنات العضوية التي كانت قد انقرضت منذ زمن بعيد... الخ.
وهكذا كان على علم النفس او التحليل النفسي ان يذهبا عميقا في البحث عن الحياة النفسية الدفينة والعميقة وعن صيغ الحياة النفسية «المطمورة حية» والمدفونة في غياهب ما كان يسميه فرويد في «اللاوعي». وهكذا يشترك محلل نفسي مثل فرويد، في اعتماده على تقنية التحليل النفسي في الوقوع بنفس هاجس البحث عن الاصل ومعرفة المرحلة «الاولانية» من الحضارة والدين.
يشترك علم الايكولوجيا مع العلوم التي تبحث في الاصل والاصول والاشكال الاولانية للوجود والحياة. لا بل تشترك مع العلوم والفلسفات الدينية ... ولكن ليس على طريقة فيورباخ وماركس اللذين كانا يعتقدان كما هو معروف، بأن الدين «افيون الشعوب»، بحسب تعبير ماركس، ويساهم في «تغريب» الانسان عن قضايا الارض والواقع الواجب تغييره، ويحول دون اكتمال انسانية الانسان. فهذا النقد للدين، لا يصح ربما الا على انواع معينة من الديانات التي عرفها او درسها كل من ماركس وفيورباخ، وهي اشكال خاصة وليست عامة من التدين، التي عرفتها الهند مع بعد الفيدوية، او تلك الاشكال التي ظهرت مع اليهودية ـ المسيحية. وهي الاديان التي ترتكز على فكرة او عنصر «وجود عالم آخر»، يمكن للحالم به، ان يشعر بالاغتراب عن عالمه الحقيقي. لكن موضوع التغرّب، لا معنى له ولا يمكن تصوره في الاديان ذات الطابع «الكوني» والتي تقول بوحدة الوجود، او وحدة الحال بين الانسان والحياة والطبيعة.
انطلاقا من ذلك، تصعب المقارنة اليوم، بين الدين والايكولوجيا، وان تقاربا واشتركا في هم البحث عن الاصل، والغوص في الاعماق. من هنا لا نعلم مدى مصداقية النظريات او الاتهامات التي تنعت بعض المدارس البيئية في العالم بـ«الاصولية»، او بالتبشير بدين جديد يقوم على تأليه الطبيعة وتقديسها، وتدعو الانسان لعدم تدنيسها.
فالمشكلة في هذه المقاربة، ليست في سوء فهم طبيعة الفلسفة الايكولوجية نفسها فحسب، بل في سوء فهم طبيعة الاديان ايضا. فليس هناك صفات كثيرة تشترك فيها الاديان كافة. لا بل هناك تعددية وتنوع وتباين بين المعتقدات الدينية، بحيث يصعب ايجاد تعريف جامع للدين نفسه.
ففي حين تغلب اليوم، من الناحية العددية، الاديان التوحيدية (الايمان بإله واحد)، الا ان هناك الكثير من المعتقدات الدينية الحية التي تعتقد بوجود اكثر من إله واحد. كما هناك ديانات لا تقر بمفهوم «الالوهية» نفسه.
ويلاحظ مراجع تاريخ الاديان ايضا، انها لا تشترك كلها في هم البحث عن «الخالق». ولا تحكمها كلها بالضرورة هواجس البحث عن الطرق التي خلق بها هذا العالم، او تتبع اصوله الاولى وتطور الكائن البشري فيه. كما ان «المسألة الاخلاقية» ليست ركنا جوهريا في كل دين، بدليل عدم اعتبار السلوك الاخلاقي من المكونات الجوهرية لبعض الاديان في اليونان القديمة او في بعض الحضارات الآسيوية الراهنة.
فبعض الديانات، كالكونفوشية، لا تهتم بالجوهر في كل هذه القضايا، بل تركز اهتمامها على ما يسمى «الانسجام الطبيعي»، ومسألة «التوازن» في هذا العالم، على سبيل المثال... وهي تعابير قريبة جدا من تلك المستخدمة في الفلسفة الايكولوجية الحديثة، كقيم عليا، من دون ان تحمل معنى «القدسية».
ولعل المشترك بين الأديان كافة، انها تعتمد «الرمزية» سبيلا للخطاب والفهم وفرض الاحترام والرهبة، وارتباطها بمجموعة من المقدسات والطقوس والشعائر والممارسات الاحتفالية التي يؤديها الاتباع. بالاضافة الى خاصية العمل الجمعي الديني، كون الدين، كخاصية اساسية مشتركة، هو دين الجماعة. وهذه الصفة قريبة، وإن بطريقة غير مباشرة، من الفلسفة الايكولوجية التي تأخذ بالاعتبار، بشكل رئيسي حياة وبقاء ووجود «جماعة النوع الانساني» نفسها، ولكن بوصفها جزءا من منظومة اكبر، وتضم جماعات أخرى.
حبيب معلوف
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد