جذور الاستبداد العربي
لماذا فشلت بلدان المجلس التعاوني الخليجي في تحقيق التنمية والأمن عبر أكثر من أربعة عقود؟ لماذا ظلت في مؤخرة الدول المتحضرة فيما كان يمكن أن تكون في مقدمة هذه الدول لو هي استخدمت ثرواتها النفطية الهائلة في صالح نهضة شعوبها وتقدمها؟ كيف تهدر هذه الثروات وتتبدد فيما الشعوب متخلفة ومفتقدة حقوقها الانسانية والسياسية والاجتماعية؟
أسئلة إشكالية تصدى للإجابة عنها يوسف خليفة اليوسف في كتابه "مجلس التعاون الخليجي مثلث الوراثة والنفط والقوى الأجنبية" مركز دراسات الوحدة العربية 2011، حيث ذهب الى ان فشل بلدان المجلس يمكن اختصاره في نظمها السياسية الوراثية وافتقاد هذه النظم للرقابة المجتمعية واعتمادها على القوى الأجنبية.
فالنظم السياسية التي تحكم بلدان المجلس تركز السلطة والثروة في يد أسرة واحدة على أساس الوراثة، لا على أساس الجهد والكفاءة، حيث ثمة ازدواجية في المواطنة بين مواطنة من الدرجة الأولى لأبناء الأسر الحاكمة، ومواطنة من الدرجة الثانية لبقية أفراد المجتمع، وتنص دساتير هذه البلدان على أن الحكم حكر على هذه الأسر، وعلى امتيازات مالية تختص بها دون سواها، في ما يعتبر استحواذاً غير شرعي وغير مبرر على ثروات الشعوب. ففي الكويت مثلاً تصل مخصّصات أسرة الصباح الى 173 مليون دولار من دون أي مبرر. أما في بقية البلدان كالإمارات وقطر والسعودية وعمان والبحرين، فالصورة أسوأ، حيث تنهب ثروات هذه الشعوب من غير علمها حتى انه ليست هناك حدود ولا ضوابط على عملية النهب، إذ تصل في بعض البلدان الى استباحة تامة لثروات المجتمع من غير حسيب ولا رقيب. ويقدر الباحث الخليجي علي خليفة الكواري نسب الأسر الحاكمة من الموازنات بـ25,7 في المئة في أبو ظبي و29,3 في المئة في البحرين و32,8 في المئة في قطر و12 في المئة في السعودية. بل إن هناك من يعتقد أن النسب الحقيقية أعلى بكثير من النسب المذكورة. وقد أشارت بعض المصادر الى أن أحد أفراد الأسرة السعودية الحاكمة كان يتسلم نصف مليون برميل نفط في اليوم، والى ان بعض الأمراء السعوديين الذين يتقلدون وظائف رئيسية كانوا يحصلون على 100 مليون دولار في العام. ويشير باحث غربي في بداية الألفية الثالثة الى ان ما يُدفع الى الأمراء السعوديين ورؤساء القبائل المتحالفين معهم يصل الى ما بين 15 و20 في المئة من ميزانية الدولة. وفي دراسة لعلي الكواري أن المبالغ التي لا تدرج في الموازنات العامة في أربعة من بلدان مجلس التعاون تقدر بالمليارات وقد وصلت في السعودية في العام 2007 الى 56,4 مليار دولار أو 27,4 في المئة من قيمة صادرات النفط والغاز. أما في الإمارات فقد بلغت 14.6 مليارا أو 17,3 في المئة، وفي قطر 20,5 مليارا أو 50,4 في المئة من هذه الصادرات.
هذه البلدان التي تنعدم فيها الرقابة الفعلية وتغيب فيها الشفافية ويتعدى صانعو القرار على ثروة المجتمع، ليس مستغرباً أن تكون مرتعاً للفساد. وقد جاءت في مستويات عالية من الفساد بين دول العالم الـ180 ـ السعودية 83 الكويت 66 البحرين 43 عمان 42 الإمارات 35.
ويستنزف الإنفاق العسكري ثروات بلدان المجلس من دون مبرر منطقي، حيث بلغ متوسط هذا الإنفاق بين عامي 1990 و2000 نسبةً الى الناتج المحلي 11 في المئة في السعودية و25,3 في المئة في الكويت و13,9 في المئة في عمان بينما لم تتجاوز هذه النسبة 4,5 في المئة في تركيا، الدولة الإقليمية المحورية لحلف الناتو.
وما كان لهذا الهدر للموارد والطاقات أن يتم لو كان ثمة مساءلة ديموقراطية في بلدان المجلس التي هي أقرب الى دولة الحزب الواحد منها الى بلدان عصرية، حتى إن العلاقة بين الحاكم ونخب المجتمع الخليجي اتصفت قبل النفط بشيء من التوازن على عكس ما هو حاصل بعد النفط حيث استخدم الحاكم الثروة النفطية في تهميش بقية شرائح المجتمع.
في تقييم السياسات النفطية رأى المؤلف أن العلاقة غير متكافئة بين البلدان المنتجة للنفط وشركات النفط العالمية التي جهدت لإبقاء الصناعة النفطية تحت هيمنتها من خلال عقودها المجحفة في حق البلدان المنتجة، كما أن الكيفية التي أُنفقت بها إيرادات النفط لم تحقق التنمية المستدامة وبناء إنسان خليجي منتج يستطيع أن يعيش كريماً بعد نضوب النفط، بل إن اقتصاديات بلدان المجلس ما زالت اقتصاديات نفطية معتمدة على النفط كمحرك أساسي لنشاطها الاقتصادي، وما ذلك إلا لأن جهود حكومات المجلس ظلت مشوبة بالحذر وعدم الاطمئنان الى شعوبها.
إصلاحات
ثمة إصلاحات يتطلبها تصحيح مسار بلدان مجلس التعاون الخليجي لها أبعاد محلية وإقليمية وعالمية. فمن الضروري اولاً ترميم العلاقات بين الحكومات وشعوبها والتشديد على الوحدة الخليجية وتعميقها لما لذلك من مكاسب اقتصادية وأمنية. إلا أن الوحدة الخليجية وإن كانت تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح تبقى غير كافية لتحقيق الأهداف التنموية والأمنية المنشودة لاعتبارات سكانية واقتصادية، ما يجعل الالتحام بالنظام الاقليمي العربي ضرورة للبقاء وشرطاً للتنمية المستدامة في بيئة مستقرة من غير أخطار وحروب متتالية. بهذا يتحقق الوجود الفاعل في المنظمات الدولية التي تؤدي دوراً متزايداً في عالم متعولم ومتجه الى مزيد من الاندماج والتفاعل، ما يجعل هذه المؤسسات الدولية أكثر تفاعلاً مع القضايا العربية الإسلامية.
لكن قبل هذا كله يتحتم على حكومات بلدان مجلس التعاون الخليجي، كما يتحتم على غيرها من أبناء المنطقة، التحول من الاستبداد الى الحرية، وأن يكون مثقفونا قدوات تضيء دروب الأجيال بدل أن يكونوا وصوليين، وان يكون رجال أعمالنا رواداً في الصناعة والتجارة والتقدم العلمي، وفي بناء الثروات النافعة، بدل ان يكونوا سماسرة للشركات الدولية، وأدوات للأنظمة المستبدة. وأخيراً يتحتم على شعوبنا أن تصبح واعية وعاملة، تكسب رزقها بعرقها، وتطالب بحقوقها كاملة غير منقوصة، بدل أن تنتظر الهبات والعطايا، في وقت تسطّر فيه شعوب العالم صفحات من الجهد المثمر والنضال المشرف من أجل الحقوق المشروعة.
ختاماً نرى أن الكاتب يقدّم إسهاماً فعلياً في قراءة إشكالية الدولة العربية وعلاقتها المأزومة مع شعوبها وقصورها في الارتقاء بمجتمعاتها نحو الحرية والانتاج والاندراج في العالم المعاصر من خلال دراسته الشاملة والموثَّقة لدول مجلس التعاون الخليجي. إلا أننا نرى في المقابل أن إشكالية الفساد والاستبداد والاستئثار بالسلطة وهدر الطاقات ليست حكراً على هذه الدول، وهي السمة العامة والسائدة في الأنظمة العربية عموماً، بل إن دولاً مسماة "جمهورية" مارست وتمارس انتهاكات للديموقراطية وتعديات على المال العام واستئثاراً بالسلطة قد يتجاوز ما هي عليه الحال في مجلس التعاون، ولعل في نظامي مبارك وبن علي الآفلين خير مثال على ذلك. الأمر الذي يتطلب في رأينا تحولاً جذرياً في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية، وكذلك في الثقافة العربية بالذات، ورؤية الانسان العربي للسلطة السياسية ومصدرها وموقع الفرد والجماعة من شرعية الدولة والحكم.
كرم الحلو
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد