حسام الخطيب والقول الفصل في عصر النفط
منذ أواخر القرن العشرين وامتداداً إلى القرن الحادي والعشرين, أُلِّفت كتب عديدة حول معضلة مخزون النفط العالمي. ومعظم هذه المؤلفات حذّرت من خطورة نفاد النفط من العالم خلال مددٍ قريبة متفاوتة. ومشكلة النفط, كما هو معروف, حساسة جداً لدى الطرفين المصدر والمستورد, أو المنتج والمستهلك.
فمعظم البلدان المصدرة للنفط تبني اقتصادها وخططها المستقبلية على أساس عائدات النفط ولا سيما أقطار الخليج العربي, التي لم ينجح معظمها حتى الساعة في التوصل إلى موردٍ بديل يضاهي ضخامة العائدات النفطية, وذلك على الرغم من وجود تباشير ناجحة مثل استثمار الغاز الطبيعي, إلا أن هذا الحل-على الرغم من أهميته القصوى- يعدّ امتداداً لعصر النفط في طبيعة آلياته الاقتصادية والاجتماعية, وليس بديلاً لعصر النفط, بل هو متممٌ له.
أما البلدان المستوردة, ومعظمها بلدان صناعية متقدمة ومنهمكة في وضع خطط مستقبلية دقيقة فإنها تبحث يومياً عن طاقة بديلة معتدلة الكلفة لتفي بحاجاتها المتزايدة إلى الطاقة حتى ولو لم يكن مصير النفط مهدداً بالتضاؤل. ونسمع في كل يوم أخباراً جديدة عن نجاحات مستقبلية, ولو جزئية, ولكنها تؤخذ بعين الجد والحذر. ذلك أن هذه الأخبار تستخدم غالباً للتأثير في أسعار النفط المتصاعدة يومياً وخلق جوٍ مناسب لخفضها.
وفي مقدمة الدول المعنية والمعانية من هذا الواقع, تقف الولايات المتحدة, باقتصادها الفلكي, لتقود الركب باتجاه الحل المنشود. وتعمل مختبراتها وأجهزتها ليل نهار للتوصل إلى اختراع عملي ذي كلفة مناسبة, وتنفق في هذا السبيل مبالغ طائلة, كما تطلق لمواطنيها وعوداً غامضة. وتزداد الأزمة حدةً كلما تعرّض مخزون النفط الأمريكي لأية هزة. وقد بلغت أسعار البترول في الولايات المتحدة أرقاماً مذهلة في صيف هذا العام (2007), وكان لها تأثير اقتصادي اجتماعي ثقافي ثقيل جداً, شمل مختلف جوانب الحياة اليومية, سواء من ناحية التأثير في طريقة استخدام أبناء مجتمع الوفرة للسيارات, أو في طرق صناعة السيارات, ناهيك عن مسألة تشغيل المصانع والمعامل, وقضايا التدفئة خلال موسم الشتاء العاصف, وجوانب الإنتاج وكلفة الحياة اليومية, وغير ذلك كثير, وهذا ما وضع السلطات الحاكمة في مأزق أمام التململ الاجتماعي.
وبالمقابل أُعلن عدة مرات خلال السنوات القليلة الماضية عن التوصل إلى اكتشافات جديدة من شأنها أن تقلل من استهلاك النفط, وجرت محاولات خطيرة لتفكيك موقف الدول المصدرة للنفط, كما شُنّت حروب مدمرة اقتصادية أو عسكرية لغرض الاستيلاء أو الهيمنة على منابع الطاقة, وأبرزها حرب العراق المدمرة (2003) التي أدّت إلى مآسٍ وحشيةٍ ومذابح جماعية وتشريدٍ وإبادة وإذلال لشعب عظيم لا ذنب له إلا ذنب الأرض التي وفّرت له النفط ليعيش ميسوراً وحرّاً, فإذا بالنعمة تنقلب إلى لعنة, ربما قصد منها أن تكون درساً للمنطقة المجاورة بل لكل بؤرة في العالم منّ الله عليها بالنفط. فكانت هذه هي (الترجمة الفعلية) للطاقة البديلة.
وهناك وجه آخر للموضوع أصبح معروفاً لدى الجميع, وهو أن الدول القويّة المهيمنة عسكرياً أو اقتصادياً, وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. أخذت بالتدريج تتمادى في تأمين مستقبلها النفطي, واختارت طرق الغزو والعدوان والاحتلال كما حدث منذ مطلع القرن الحادي والعشرين في الحجج الواهية التي قدمت لغزو العراق. واليوم بعد مضيّ سنوات على هذا الغزو تبيّن بطلان كل الحجج التي قُدّمت بين يدي الغزو من وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق, أو من وجود علاقات بين القاعدة (بن لادن) والنظام العراقي الحاكم آنذاك. وقد اتضح بما لا يقبل الشك, ولا يحرص على إخفائه النظام الحاكم في الولايات المتحدة, أن تلك الذرائع كانت مفتعلة وكان أصحابها يعلمون أنها مجرد تغطية لأهداف نفطية وعسكرية, وأن القوات الغازية في العراق وجدت لتقيم نظاماً موالياً يتيح لها بعد انسحاب شكلي أن تبقى في قواعد محددة مهما كانت نهاية الحرب. وذلك لكي تضمن السيطرة على موارد النفط. وخلال الأسبوع الأول من شهر تموز (يوليو2007) صدر قانون توزيع النفط العراقي حسب المناطق, وكان للأمريكيين حصة الأسد, وكأن العراق ولاية أمريكية. وهناك قصص وحكايات مذهلة في أرقامها تتحدث عن تهريب النفط من العراق.
ويمكن أن ينطبق هذا الموقف على بلدان أخرى كثيرة في المنطقة العربية نفسها وفي مناطق أخرى من العالم, وربما بصيغٍ أخرى وتفاهمات ملفوظة أو ملحوظة.
ضمن هذا الواقع المصطنع الملفّع بالأكاذيب والحجج الواهية, يأتي كتاب (عصر النفط Age of Oil) ليضع النقاط على الحروف وليعالج بمنهجية علمية دقيقة مبنية على خبرةٍ ودراية معظمَ المسائل التي تقلق العالم اليوم من نواحي الأسطورة السائدة عن النفط, وتاريخ النفط ومستقبله, والمسائل الخلافية المتعلقة به على المستوى العالمي. وصحيح أن هذا الكتاب أثار تعليقاتٍ كثيرة, بعضها مشكّك وأكثرها مؤيد, إلا أنه يظل مرجعاً مهماً لأنه يلتزم بالتحليل العلمي والإحصاءات الدقيقة من مصادرها الأصلية, إلى جانب التحليل الحكيم والمنصف.
والمؤلف ليوناردو موجري Leonardo Maugeri هو ابن جلدتها كما يقولون, إذ يتولى منصباً بحثياً رفيعاً جداً في شركة الطاقة الإيطالية إيني Eni, التي تعد سادس أكبر شركة نفطية في العالم, وقد ظهر كتابه عام 2006 في أمريكا وبريطانيا. ويكتب موجري في مجلات أمريكية مشهورة مثل نيوز ويك News Week والشؤون الخارجية Foreign Affairs والعلوم Science وجريدة وول ستريت Wall Street Journal وغيرها.
وهكذا يكون لهذا الكتاب أهمية علمية فائقة, من ناحية مكانة مؤلفه المرموقة و حرصه على الدقة والإحصاءات والمتابعات المحترفة التي تؤكد أن عصر النفط ممتد إلى آجالٍ بعيدة, وتكشف عن خفايا كثيرة من خلال الواقعة والرقم, بعيداً عن المجادلات والمماحكات النظرية. كل ذلك إلى جانب أهميته المعنوية التي يؤمل أن تحمل رسالة إنسانية واعية لعلها تكون حجة تدعم وتقوِّي موقف المستهدَفين المستضعفين ومدخلاً-ولو بسيطاً- إلى ضمائر الجشعين الجائرين, وبذلك تكون (البديل) السليم. وإن قراءة مقدمة الكتاب وحدها تكفي للاقتناع برسالته الإنسانية القائمة على العلم والمعرفة الدقيقة.
وبالطبع لا يستنتج من الكتاب أن ذوي الشأن يجب أن يكفّوا عن تجارب الطاقة البديلة, وإنما يفيد أن المبالغة في توجيه الجمهور إلى الاعتقاد بأن النفط سينفد خلال فترة قصيرة من الزمن تستخدم لتغطية الإسراف في رفع أسعاره داخل البلدان المستهلِكة, وكذلك للضغط على البلدان المنتجة بغية توسيع هوة التنافس فيما بينها, ودفعها إلى تقديم التنازلات, واحدة تلو الأخرى.
وينتهي الكتاب بتحذير واضح للدول الغربية (المستهلكة للنفط) مفاده أن على هذه الدول أن تتوخى العدل والإنصاف في تعاملها مع دول الشرق الأوسط المنتجة للبترول, ويكون ذلك مسك الختام في الكتاب:
(وفيما يتعلق بقضية الشرق الأوسط, لا يوجد, بالطبع, حل سهل فوري لمآزقه العديدة ومحنه. إذ إن تشكيل الهويات القومية والتضامن يعدُّ, عبر التاريخ, عملية طويلة مفعمة بالمعاناة الكبيرة. فدول الشرق الأوسط جديدة نسبياً, أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى, وعلى الدول الغربية أن تستعد للطريق الطويل أمامها, إذ ينبغي, في أثناء التعامل, ألا تستهين بقوة دول الشرق الأوسط, وألا تبالغ بالتهديدات التي تشكلها هذه الدول. والأهم من ذلك كله هو أن على الدول الغربية التغلب على هواجسها المضلّلة (المتمثلة باستحواذ فكرة الأمن النفطي على تفكيرها), حتى تتمكن من البدء بالتعامل مع مشاكل الشرق الأوسط بالعدل والإنصاف, لأنه طالما ظلت فكرة الهيمنة هي المبدأ المسيطر على السياسة الغربية في المنطقة, سيكون مصيرنا هو تكرار الأخطاء والمسرحيات التي وصمت العلاقات بين الغرب والشعوب العربية في القرن العشرين.)
وهذه هي الفقرة الأخيرة من الكتاب وهي بيت القصيد.
وبالمناسبة, سيظهر هذا الكتاب(عصر النفط) باللغة العربية في أمدٍ قريب جداً بعد أن أنجز مركز الترجمة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بدولة قطر نقله إلى العربية.
أ.د.حسام الخطيب
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد