روجيه عساف: من الطبيعي أن يعيش المسرح جزءاً من التدهور
تقترن حركة المسرح اللبناني في أوج نشاطها وازدهارها، باسم المخرج روجيه عساف، المتحرك هو الآخر منذ نحو نصف قرن، في أكثر من اتجاه وفكر وفلسفة، بحثاً عما سماه «استقامة تشكل في ذاتها وفي الآخر وحدة إنسانية متكاملة». عساف لفت في حواره معه إلى أن معاناة المسرح اللبناني في وضعه الراهن، هي جزء من معاناة الوطن العربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً وفنياً واجتماعياً.. ورأى أن هجرة الشباب المبدعين وهجرة الجمهور وانحياز البرجوازية اللبنانية الراهنة إلى طوائفها وأحزابها ومصالحها وتقصير وزارة الثقافة، شكلوا معاً أساس الانحدار الثقافي اللبناني.. «لكني غير يائس ومستمر»، حسبما يقول. والحركة التي يشهدها مركز «دوار الشمس»، جامعة كل أشكال النشاطات الثقافية والفكرية، المشهدية والتشكيلية والموسيقية ومن مختلف الطوائف والاتجاهات السياسية، تؤكد أن الرجل مستمر في عطاءاته، فمن تدوين «تاريخ المسرح» في سبعة أجزاء صدر الأول منها منذ أيام عن «دار الآداب»، إلى إقامة جسر تواصل بين مشاريع المبدعين الشباب والمساعدة في تحقيقها، إلى مسرحية «القدس» التي يعمل على تحضيرها، يستمر الرجل في عراكه وحراكه أكاديمياً وفكرياً وعملياً. الملاحظ شبه انهيار على الساحة المسرحية اللبنانية، وشتان ما كانت عليه قبل العام 1975 وما يعانيه المسرح اللبناني اليوم. وعلى الرغم من ذلك لم تيأس وتستمر محارباً بالفكر والعقل والحركة لإعادة تنشيط هذا المرفق الثقافي الذي عرف نهضة رائدة على الساحة العربية.
{ ما الأسباب التي أدت إلى انحسار المسرح الجاد باستثناء بعض عروض «الشانسونييه» والأعمال الهابطة؟
-عرف لبنان منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم كل أنواع المسرح، العبثي منه والجاد، لكنه ظلّ متماسكاً حتى العام 1975 بفضل الدعم الذي كان يتلقاه من البرجوازية اللبنانية، وكانت على جانب كبير من الثقافة والإدراك والانفتاح، كنا نهاجمها في أعمالنا، لكن انفتاحها لم يمنعها من تقديم يد العون للمسرحيين، على عكس ما يحصل اليوم، خصوصاً بعد توقيع اتفاق الطائف، حيث انحسر الوعي الثقافي وتم توظيفه طائفياً وسياسياً ومصالح شخصية، وما تعرض له المسرح من انهيارات أصاب الجسم الثقافي في كل قطاعاته. ربما تمكن الرسام والموسيقي من تدبير أموره، لكن المسرح عجز عن ذلك طالما أنه مكان التقاء مع الجمهور. ثم هناك هجرة المبدعين الشباب الذين لم يجدوا في لبنان ما يمكنهم من عرض أعمالهم، فتوجهوا إلى الخارج للعمل، ليس هرباً كما يقال، إنما بحثاً عن حياة كريمة. ثم هناك انقسام الجمهور، تماماً كما الساحة السياسية والطائفية، وفي ظروف كهذه لا يمكن للمسرح الجاد أن يستمر فكيف له أن يزدهر؟ أظن أن هذه هي العوامل الأساسية التي أدت إلى انحسار الحركة المسرحية وانحياز الجمهور المطوَّف والمسيس لمصلحة «الشانسونييه» وغيرها من المشهديات العبثية أكان على الخشبة أم على الشاشة.
تحديث الواقع
{ مازلت تصر على خوض معاركك المسرحية والفكرية من منطلقات فكرية مستقلة، كيف تمكنت من هذه المواجهة رغم التحديات الشرسة، أخذاً في الاعتبار تحولاتك الكثيرة في خلال نصف قرن من انشغالك المسرحي؟
- ما تسميه تحولاً أعتبره استقامة، أو الطموح الدائم إلى روجيه عساف الإنسان بالمعنى الحقيقي للكلمة، وليس الطائفي والسياسي والمنحاز. جعلت من الانفتاح على كل الطوائف والحضارات منهاج حياتي، ومازلت حتى اليوم متأثراً بالبابا يوحنا بولس الثاني وبالمنهج الغاندي، وعندما وجدت أن الفكر المسيحي المعاصر ابتعد عن خدمة الانسان، وتخلف الفكر الماركسي عن دوره، وجدت في الإسلام الطمأنينة والاستقرار، مع الحفاظ على استقلاليتي التامة، بمعنى عدم انتمائي إلى أي فريق طائفي أو حزبي أو تنظيم سياسي، وبالتالي لم أنسجم أبداً مع حركة إسلامية منظمة مثل «حزب الله»، ولا مع أي تنظيم يساري.. وفي المحصلة لا أجد نفسي متقلباً في مسيرة نصف قرن من النشاط المسرحي، عملياً وأكاديميا.
{ هل أنت تتطلع إلى روجيه عساف، كائنا عالميا بكل الهويات والأديان؟
- أتطلع إلى الإنسان بقيمه الثابتة. أعتبر أن كل إنسان يحمل في تكوينه جوهراً إلهياً. شيئاً من الله، كما قال الحلاَّج واستشهد في سبيله. وكذلك الأمر ما أفصح عنه الصوفيون المسيحيون فأستشهد الكثيرون منهم حرقاً دفاعاً عن أُلوهية، في كل كائن بشري. واليوم لا أستطيع أن أنكر انتمائي إلى الإسلام الذي يرتبط بوجودي وسط أناس مسلمين منذ أجيال وقرون، ولم ينتظروا الحركات الإسلامية ليعلنوا انتماءهم إلى هذا الدين الراقي، والذي يتناقض مع كثير من الممارسات الراهنة وأنا أُدينها، لأنها تشوه الإسلام وتساهم في تدميره على الصعيدين الفكري والحضاري.
{ عن أي ممارسات تتحدث، لنكن واقعيين، ضاع الإنسان وسط هذه الغابة من الممارسات وما يستتبعها من نقد إيجابي وسلبي؟
- كل أنواع الممارسات المرتبطة بأفكار طائفية، حتى تلك غير المتطرفة، إنما تعتبر أن الطائفة هي المكان الذي يمكن الإنسان من أن يدافع عن فكره الديني. أنا من المرددين دائماً أن الدين هو ما يسمح للإنسان أن يتصل ليس فقط بالله، إنما بذاته وبالآخر وبالطبيعة والكون. والكفر هو كل شيء يضع حاجزاً بيني وبين الآخر، إن كان باسم الدين أو الحرية أو ما اعتبره مهزلة حقوق الإنسان هذا النفاق العالمي، وحيث لم يعد صعباً على أحدنا أن يرى أين تقع الجرائم ضد الإنسان، عنصرية ولونية وجغرافية وجنسية.. المشهد واضح: نحن نعيش واقعياً مسرحيات دولية
ضد حقوق الإنسان.
{ إلى أي مدى شغلتك هذه القضايا مسرحياً؟
- لم أتوقف عنها أبداً، ليس فقط في المسرح، إنما على الصعيد العملي، لا أشتغل مع فريق عمل من طائفة واحدة أو حزب واحد، وهذا ما يبدو واضحاً في مركز «دوار الشمس» الذي يقوم جغرافياً في منطقة متنوعة الطوائف والأطياف السياسية، وكذلك إدارته وعماله وموظفوه، والجميع يعملون تطوعياً. أظن أن كل كلام عن حوار لبناني – لبناني يبقى فارغاً ما لم يرتبط فعلياً بأعمال على الأرض. الحوار تأجيل للصراع والعمل المشترك يقضي على كل أنواع الصراعات والتفجيرات سواء كانت طائفية أم حزبية.
{ تتهم الحركة المسرحية بما يشبه الانهيار وأنت بادرت إلى إنشاء مسرح «دوار الشمس». ألا تجد في ذلك تناقضاً بين واقع مرتبك وحلم كبير؟
- الواقع المرتبك يجب أن يدفعني إلى مزيد من العمل لتصحيحه، ثم إن تشييد مركز «دوار الشمس» وليس كما يقال المسرح، كان ضرب جنون.. كنا قد وفرنا وفريق عمل مبلغاً قليلاً من المال وضعناه في خدمة المشروع، ومن خلال بعض المساعدات التي وصلتنا من جمعيات أميركية وسويدية، ومن مؤسسة الوليد بن طلال، تمكنا من استكمال المشروع ووضعناه في خدمة المبدعين الشباب في كل المجالات الثقافية والفنية: رسم، موسيقى، أفلام، ومسرح، أظنه مشروعا كان لا بد من إنجازه، بحيث نفتح للشباب مجالاً للعمل والانطلاق نحو مستقبل أفضل.
{ تحدثت عن هجرة المبدعين وها أنت تتحدث عن مشاريعهم وإنتاجهم بطريقة تمكن مركز «دوار الشمس» من الاستمرار، هل في رأيك مازال لبنان قادراً على تخريج مبدعين؟
- طبعاً ولن أفقد الأمل، عندما بدأنا نشاطنا المسرحي في لبنان أواخر الخمسينيات، لم يكن هناك مسرح بالمعنى الحقيقي، ومع ذلك نشطت الحركة وتألفت الفرق وابتدأت العروض، نجحنا في مساعينا، ونحن نعاود اليوم هذا الدور، لأن ثروة لبنان ثقافته ومن دونها نصبح خارج خريطة الإبداع العربي والعالمي.
{ تستعيد ذكريات حميمة، هل تود العودة إليها وقد كنت الأول على الساحة؟
- لم أهتم، لا في الأمس ولا اليوم بالرتب والمواقع، لا يهمني أن أكون الأول أو العاشر، يهمني تقديم العمل المميز كتابة وتمثيلاً وإخراجاً.
{ هل تحن مثلاً إلى «آخ يا بلدنا»؟
- أكيد وما أتحدث عنه يؤكد ذلك. ثم إنني مقهور مما يحصل ليس على المستوى المسرحي فقط، إنما على كل المستويات وفي كل القطاعات، كل هذه الشعلة اللبنانية تنطفئ ومن الطبيعي أن يكون المسرح جزءاً من هذا التدهور، وهو انعكاس للحالة العامة، مجتمع ممزق، مشظّى غارق في هموم معيشية ومستقطب من القيادات الطائفية والحزبية.
{ وفي هذه الزحمة، ما مشاريعك للفترة المقبلة؟
- أنا مشغول دائماً ولا أجد الوقت الكافي لإكمال هذه المشروعات، وأولها كتابة الموسوعة المسرحية في سبعة أجزاء صدر الأول منها قبل أيام بعنوان «تاريخ المسرح»، ثم تحويل مركز «دوار الشمس» إلى جسر تواصل بين أصحاب المشاريع الإبداعية والقدرة على تنفيذها، وأخيراً مسرحية «القدس» وقد اختيرت «عاصمة ثقافية» لهذه السنة، وهذه مهزلة، ادعاء ليس له أي تجسيد حقيقي، كما بيروت «عاصمة عالمية للكتاب»، قناعتي أن بيروت هي توأم القدس لأنها تحمل المشروع نفسه، عاصمة لملتقى الثقافات والأديان، وربما لهذه الأسباب تتعرض المدينتان للضرب بين الحين والآخر.
ألبير خوري
المصدر: أوان الكويتية
إقرأ أيضاً:
بوابة فاطمة: روجيه عساف ناطقاً فنياً باسم المقاومة اللبنانية
إضافة تعليق جديد