عقدة سوريا ومهمات السفير الأمريكي في دمشق
الجمل: تعتبر البعثات الدبلوماسية من وسائل التواصل الأكثر أهمية لجهة تنظيم وترتيب علاقات المصالح وتعزيز لغة التفاهم والحوار بما يتيح تعميق الإدراك المتبادل ويعطي حيوية أكثر إيجابية إزاء حل المشاكل والقضايا، ولكن برغم ذلك فقد ظلت البعثة الدبلوماسية الأمريكية في دمشق أكثر تأرجحاً بين الأداء السلوكي السياسي السلبي والإيجابي وظلت بعض الإدارات الأمريكية أكثر تأكيداً لجهة القيام بتوظيف البعثة الدبلوماسية الأمريكية ليس من أجل التفاهم وتبادل وجهات النظر وإنما كوسيلة لفرض العقوبات والضغوط فقد ظلت الإدارة الأمريكية تسحب سفيرها ثم تعيده، تسحبه ثم تعيده إلى دمشق، والآن كما تقول التقارير والمعلومات فإن إدارة أوباما تسعى حالياً لإعادة سفيرها إلى السفارة الأمريكية فهل سيقوم هذا السفير بدوره الهام إزاء واجباته الدبلوماسية المتعلقة بالتفاهم وتبادل وجهات النظر أم سيتم استخدامه لاحقاً كآلية لفرض العقوبات بحيث يتم سحبه وفقاً لمناورة جديدة؟
* لماذا السفارة الأمريكية في دمشق؟
عندما تم إقرار العلاقات الدبلوماسية السورية – الأمريكية وتم تبادل السفارات والسفراء بين دمشق وواشنطن لم يكن يخطر ببال أحد أن وجود السفير الأمريكي في دمشق سيصبح ورقة للمساومة والمناورة إضافة إلى استخدام هذا السفير في المهام غير المتعارف عليها ضمن التقاليد الدبلوماسية الجارية.
تحاول واشنطن بشكل معلن القيام بدورين مزدوجين متناقضين إزاء ملف الشرق الأوسط ويمكن الإشارة إلى ذلك على النحو الآتي:
• تقوم واشنطن بدور الطرف الثاني في الصراع بسبب وقوفها المعلن وغير المشروط إزاء التزامها بحماية أمن إسرائيل بغض النظر عما إذا كانت إسرائيل ظالمة أو مظلومة.
• تقوم واشنطن بدور الطرف الثالث في الصراع بسبب سعيها المعلن للمطالبة بحل الصراع وإعادة الأمن والاستقرار وتحقيق السلام.
الإشكالية الرئيسية في هذا الدور المزدوج تتمثل في مدى إمكانية واشنطن في القيام بالتوفيق بين دور "الطرف الثاني" و"الطرف الثالث" في الصراع العربي – الإسرائيلي الذي امتدت جذوره واستفحلت نيرانه.
كل نظريات العلوم السياسية والنظريات الدبلوماسية وبحوث ودراسات مراكز الدراسات الاستراتيجية والسياسية المعنية بشؤون الصراعات والنزاعات الإقليمية والدولية تؤكد تماماً عدم إمكانية الجمع بين دور الطرف الثاني ودور الطرف الثالث لأن الذي يكون طرفاً ثانياً في الصراع لا يمكن أن يكون طرفاً ثالثاً وسطاً يساهم في حل الصراع.
بكلمات أخرى، يمكن أن نتساءل: هل عودة السفير الأمريكي لدمشق تهدف إلى أن يقوم هذا السفير بأداء أعماله وواجباته الدبلوماسية إزاء بلده أم أنها عودة لجهة ترغيب دمشق بتقديم التنازلات عن حقوقها مقابل عودة السفير الأمريكي؟ وهل وجود السفير الأمريكي هو وجود يهدف إلى القيام بالواجبات والمهام الدبلوماسية الخاصة بالسياسة الخارجية الأمريكية أم أنه وجود يمثل مجرد ورقة تستخدم في عمليات الترغيب والترهيب بحيث كلما سعت واشنطن لفرض الضغوط على سوريا فإنها تبادر إلى سحب سفيرها؟ لقد لجأت إدارة بوش إلى استخدام أسلوب سحب السفير كوسيلة للضغط على سوريا وبما أن سوريا لم تستجب لهذه الضغوط فهل قررت إدارة أوباما إرجاع السفير إلى دمشق لأنها أدركت عدم جدوى هذا الأسلوب أم لأنها أدركت ضرورة إرجاع السفير تمهيداً لسحبه لاحقاً ضمن الظروف والمستجدات الأخرى المحتملة؟
* الدبلوماسية الأمريكية: من "عقدة إسرائيل" إلى "عقدة سوريا":
تتمتع دبلوماسية كل دول العالم بالاستقلالية لجهة التعامل مع الدول الأخرى والاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هو دبلوماسية الولايات المتحدة إزاء سوريا والسبب لا يحتاج إلى كثير من العناء والشرح فالجميع يعرف بكل وضوح أن ارتباط الدبلوماسية الأمريكية بالدبلوماسية الإسرائيلية هو السبب الرئيس المباشر في التأثير على دبلوماسية واشنطن إزاء دمشق وبكلمات أخرى أكثر وضوحاً فقد أدى الارتباط الأمريكي الكبير بإسرائيل إلى إصابة السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية بدءاً بـ"عقدة إسرائيل" الذي أدت مضاعفاته وتداعياته إلى إصابة هذه السياسة بداء آخر هو "عقدة سوريا".
برغم تشابه العقدتين شكلاً، فإنهما تختلفان من حيث المحتوى والمضمون بسبب ما يمكن أن تطلق عليه تسمية المزايا التمييزية في الدبلوماسية الأمريكية الشرق أوسطية لجهة تميزها بالآتي:
• دبلوماسية تمييزية إيجابية إزاء إسرائيل تقوم على أساس اعتبارات التحيز لصالح جدول أعمال السياسة الإسرائيلية في المنطقة.
• دبلوماسية تمييزية سلبية إزاء سوريا تقوم على أساس اعتبارات الضغط على سوريا من أجل إرغامها على تقديم التنازلات المطلوبة بواسطة جدول أعمال السياسة الإسرائيلية في المنطقة.
إن هذا الوضع غير المتوازن الذي تميزت به الدبلوماسية الأمريكية إزاء سوريا كان من جهة بسبب:
• تأثير العوامل المؤسسية الناشئة بسبب الاتفاقيات الاستراتيجية الأمريكية – الإسرائيلية التي نجحت فيها إسرائيل لجهة القيام بتقييد الأداء السلوكي الدبلوماسي الأمريكي الشرق أوسطي ضمن أطر ومؤسسات محددة.
• تأثير العوامل الوظيفية الناشئة بسبب ارتباط المسؤولين عن صنع قرار السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية بدوائر اللوبي الإسرائيلي والذين لا ينظرون إلى القرار على أساس اعتبارات منظور المصالح الأمريكية وإنما على أساس الاعتبارات القيمية التي تنظر لإسرائيل باعتبارها أرض الميعاد التي سيقيم عليها الإله اليهودي مملكة هرمجدون.
أبرز التساؤلات يتمثل في، هل ستسعى السياسة الخارجية الأمريكية إلى التخلص من عقدة سوريا أولاً بإرسال سفيرها إلى دمشق وإن لم تتخلص واشنطن من عقدة إسرائيل فكيف سيكون أداء السفير الأمريكي في دمشق؟ أم هل ستسعى واشنطن إلى التخلص من عقدة إسرائيل وعقدة سوريا في وقت واحد بحيث يتسنى لها القيام بدور السمسار النزيه في حل الصراعات والخلافات.
إذا سعت واشنطن للتخلص من عقدة إسرائيل وعقدة سوريا فإن سوريا لن تتضرر طالما أن العقدة إزاءها هي عقدة سلبية تقود إلى الضغوط والعقوبات وعدم التفاهم وسحب السفراء، أما إسرائيل فيقول البعض أنها ستتضرر طالما أن تخلص واشنطن من عقدتها تجاه إسرائيل سيحرم إسرائيل من المزايا الإيجابية وفرصة التحيز الأمريكية الأعمى.
إن استئناف السفير الأمريكي لعمله في السفارة الأمريكية بدمشق هو خطوة إيجابية ولكن يتوجب على الإدارة الأمريكية الحالية الانتباه إلى أهمية تأثير عامل اختيار من سيقوم بتولي هذا المنصب وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مسؤولين أمريكيين مثل دنيس روس وجون بولتون، سوف يكونون صالحين فقط للقيام بدور السفير الإسرائيلي وليس السفير الأمريكي، وهي حقيقة تفهمتها جيداً إدارة أوباما والتي عانت من وجود روس في الخارجية الأمريكية وسعت عملياً إلى التخلص منه ونقله إلى موقع آخر لا يستطيع فيه التأثير على مجرى السياسة الخارجية الشرق أوسطية للولايات المتحدة الأمريكية.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد