غونزالو روخاس.. المولود المرتجع التواق ..لقمة تستوعـب موهبتـه الشعريـة الفذة
في مدينة اشتقت اسمها, من اسم نهر ليبو الذي قال فيه الشاعر: «أرى نهراً متدفقاً يلمع كالسكين، ويقطع ليبو شطرين من عطر» ولد الشاعر التشيلي غونزالو روخاس عام 1917.
في تلك المدينة, بويرتو ليبو, قضى غونزالو روخاس أيام طفولته, وبنى أسطورته الذاتية الخاصة, التي تقوم على ثلاثة فصول من الماضي: أولها مشهد الأب العامل في المنجم, الذي توفي شاباً, قبل أن يتجاوز الأربعين عاماً, ولم يكن عمر الشاعر آنذاك يتجاوز الخمس سنوات. وقد ترك الوالد هدية تذكارية لكل واحد من أبنائه الثمانية، وكان من نصيب غونزالو روخاس, مهر أحمر, كان ينمو في الإسطبل مقابل نهر ليبو، وكان الشاعر يتأمّله بإمعان يوماً إثر آخر, كما لو أنه يستحضر على مطيته صورة وذكرى والده.
جاء يوم سرق فيه اللصوص ذلك الحصان !! يقول روخاس: «بانتزاعهم إياه مني, شعرت بأنهم اقتطعوا ذكرى والدي بالفعل من روحي، وبسرقة ذلك المهر سرقوا مني الطفولة، سرقوا العالم، سرقوا الوجود كله..».
أما الفصل الثاني من ماضي الشاعر فيظهر تأثيره جليا على مسار حياة الشاعر, إثر تلك الليلة الملبدة بالغيوم والمشحونة بالعواصف الهوجاء، عندما كان طفلا بين خمس وست سنوات، فقد شقّ شعاع من البرق, حجب الظلام الدامس المخيّم على مدينة ليبو، عندها صرخ أحد أشقائه الصغار قائلاً: «إنه البرق!!».
ظل روخاس يتذكر تلك الليلة الرهيبة طيلة حياته, ويقول عنها: «كان ذلك أشبه بنزول وحي ملتهب كامن في الكلمة. فالإحساس بشعاع البرق في الكلمة التي سمعتها, وأدركت معناها, كان أعظم من الإحساس بشعاع البرق الفعلي».
أما الفصل الأخير الذي ترك أثرا في مسار حياته, نراه متجسدا في شارع أورومبيغو, في حي كونسبسيون, حيث انتقل إليه عام 1926 برفقة أسرته, التي كانت آنذاك على عاتق والدته.
اضطر غونزالو روخاس للعيش في مدرسة داخلية، بعد تأمين منحة حكومية له، كان الجو في تلك المدرسة عدائياً بالنسبة له، كطفل يتيم الأب, مهيض الجناح, يعيش علاوة على كل ذلك بعيداً عن مسقط رأسه ليبو، وحضن أمه الدافئ والحنون.
من هنا انبثق شعوره البدائي بالرثاء ، ومنه أيضا انبثقت شخصية «اللا مولود» أو «المولود المرتجع».
يتحدث الشاعر روخاس بعد بضع سنوات عن تلك المرحلة قائلاً: «أرجو أن لا يقال بأنني أحببت سحب كونسبسيون، أو أنني شعرت خلال إقامتي في بلدة بيو بيو المتخمة بالسحالي السامة, بأنني مقيم في بيتي، فذاك لم يكن بيتي إطلاقاً، وقد عدت إلى صخور أوريمبيجو القذرة, كمعاقب بعد أن جبت العالم بأسره».
من خلال الفصول أو المشاهد الثلاثة السابقة فهم غونزالو روخاس معنى الرثاء والتأرجح بين الموت والحياة، فبدت قصائده ككل متتابع, وكدوران في حلقة مفرغة, بين الفناء والخلود، حيث يكتب حول الموت ليقف ضد الموت، ويقول:
«في كل مرحلة من الزمن أعود وأخرج من جذوري/ من طفولتي/ وأحلق صوب النجوم، فأنا من الهواء، وأدخل معه إلى كل ما هو جميل على سطح الأرض».
في عام 1938 انتمى غونزالو روخاس إلى مجموعة ماندراغورا, التي كانت تضم أيضاً كلا من تيوفيلو سيد، وبراوليو أريناس، وإنريكي غوميس كوريا، وعن طريق تلك الرابطة, اقترب من الحياة الأدبية, ومن المدرسة السريالية، ولكنه في الوقت نفسه أعجب وانبهر بديوان «إقامة في الأرض» لبابلو نيرودا، وديوان «تالا» لغابرييلا مسترال.
ابتعد الشاعر روخاس قليلاً عن السريالية في تلك المرحلة, فاتهمه أعضاء رابطة ماندراغورا لدى هويدوبرو, بأنه نصّاب الشعر.. فكان جواب هويدوبرو لهم: «دعوه وشأنه إن روخاس شاعر مجنون, يبحث عن قمة يستحقها !!».
بعد مرور بضع سنوات تعرّف روخاس على هيلدا ماي, رفيقة دربه الأخيرة, ووالدة ابنه الثاني غونزالو, الذي حمل اسمه الأول، وقد توفيت هيلدا عام 1995 بعد صراع مع مرض عضال.
يقول عنها في إحدى قصائده: «إنها تلك.. التي تنام هنا / إنها المقدّسة.. التي تقبلني، وتسبرني، إنها الشفافة/العزيزة/ المولعة/ القيثارة/ الفارعة.
وحول تأثره بأولئك الشعراء والأدباء يقول غونزالو روخاس: «إن واحدنا يتغذّى بهم، ولكن يجب أن يفعل ذلك بحذر شديد كي لا يصاب بعسر الهضم. فروحي تستحضر, وتستلهم, وتحاور أربع قمم في الشعر وهم: بابلو روكها، وبابلو نيرودا، وغابرييلا ميسترال، وفيسنت هويدوبرو. ومع ذلك فإن الأخير هو الذي أعتبره الأكثر تحدّياً, إذ لم أعرف أحداً تمكن من زرع الحرية في رأسي مثله».
في عام 1970 عينه الرئيس الراحل سلفادور أليندي ملحقاً ثقافياً في الصين, ثم قائماً بأعمال سفارة تشيلي في كوبا، وكان يشغل المنصب الأخير, عندما أقدم الدكتاتور أوغيستو بينوشيه عام 1973 بتدبير من وكالة الاستخبارات الأمريكية, على الانقلاب العسكري الدموي ضد الرئيس سلفادرو أليندي، وعلى إثر ذلك أمرت الحكومة العسكرية بطرده من كل الجامعات بعد أن سحبت منه جواز السفر الدبلوماسي.
قضى غونزالو روخاس السنوات الأولى من منفاه في ألمانيا الشرقية, لكنه لم يتأقلم مع نظام الحكم القائم فيها.
بعد إقامته القصيرة بألمانيا توجه غونزالو روخاس إلى فنزويلا, حيث نشر عام 1972 واحداً من دواوين شعره الأساسية «المعتم» وذلك بعد 13 عاماً من صدور ديوانه المعروف «ضد الموت» عام 1964.
عند بلوغه الستين عاماً, تلقى الشاعر روخاس منحة غوغنهام, فدرّس في الجامعات الأمريكية والأوروبية، وأخذت شهرته تجوب الآفاق، وتلقى الكثير من الجوائز, وأصدر دواوين شعرية عديدة أهمها: «بؤس الانسان» 1948, «ضد الموت» 1964, «عن البرق» عام 1981، «قصائد» 1982, «المتنور» عام 1988، «القارئ الكسول» 1990، «ريّو توربيو» عام 1996، «حوار مع أوفيديو» عام 2000. هذا فضلاً عن العديد من الأبحاث والأعمال الأدبية الأخرى.
غونزالو روخاس, الذي أجّج جنون الشعر, دون أن يعثر على قمة عالية تتسع لقامته, رحل في شهر نيسان الماضي, تاركاً وراءه إرثا شعريا يفيض إنسانية على الإنسانية جمعاء, جدير بأن يحظى باهتمام المترجمين العرب.
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد