فلسفة التقنية عبر التاريخ
ما الداعي إلى وضع التقنية موضع المساءلة والتفكير؟ وما قيمة التفكير النقدي فيها؟ وما مقدار ضرورته في اللحظة الراهنة؟.. من الملاحظ أن للتقنية تأثيرا كبيرا ليس فقط على الواقع المادي للإنسان بل حتى على ذاته وطريقة تفكيره، حيث يقول عالم الاجتماع الفرنسي جورج فريدمان "إن أسس نظرتنا إلى العالم أصابها اليوم انقلاب وتحول، لأن التقنيات الجديدة بدلت إدراكنا للأشياء".
وبالرجوع إلى كتابات فلاسفة القرن السابع عشر سنلاحظ أنها تغص بخطابات تقريظية تحتفي بالآلة والتقنية، فديكارت في كتابه الأشهر "مقال في المنهج" يرى أن المعرفة التقنية تمكننا من جعل الكائن الإنساني "سيدا ومالكا للطبيعة".
وفرنسيس بيكون في "الأورغانون الجديد" يرى أن الإنصات إلى الطبيعة وملاحظة ظواهرها وتأسيس المعرفة العلمية بنهجها الاستقرائي، يهدف إلى الانتصار على الطبيعة! حيث ينتهي بيكون إلى قول مشابه لما عبر عنه ديكارت، ويرى هو أيضا في التقنية وسيلة لتسييد الإنسان على الطبيعة وسيطرته عليها.
لكن بعد هذا التقريظ والاطمئنان إلى التقنية بوصفها أداة وسلاحا يخدم الإنسان، تحولت نظرة الفكر والفلسفة الغربية وانقلبت موازين التقويم من التقريظ البالغ إلى الهجاء الشديد!
فالحلم الديكارتي القاصد إلى جعل الإنسان سيدا على الطبيعة، سينتقده بشدة الفيلسوف الألماني هيدغر الذي سيعلي من شأن باسكال على ديكارت، أي الإعلاء من شأن القلب والعاطفة على خطاب العقلانية الديكارتية المتوحشة التي تنظر إلى الطبيعة من معيار رياضي فتحولها إلى موضوع للسيطرة والاحتواء.
وضد هذه الرؤية الديكارتية ستنطلق رؤى جديدة في الفلسفة الغربية تعيد التفكير في الظاهرة التقنية بمختلف تجلياتها.
ويمكن القول إذا كان منطلق الديكارتية هو تسييد الإنسان على الطبيعة من خلال إبداع الآلة والتقنية، فإن المفارقة التي تبدت خلال صيرورة تطور الظاهرة التقنية، هي أن الإنسان سقط تحت سيطرة أخرى أخطر من سيطرة الطبيعة عليه، إنها سيطرة الآلة ذاتها!
وفي هذا السياق يؤكد هيدغر مرارا أن الإنسان لم يعد يسيطر على الآلة، بل أصبحت الآلة مهيمنة ومسيطرة عليه. وبالتالي فالحلم الديكارتي بجعل الإنسان سيدا عبر التقنية استحال إلى النقيض، أي حوله إلى عبد!!
ولذا من حق التأمل الفلسفي المعاصر أن ينظر إلى التقنية بوصفها خطرا وفخا مخيفا صنعه الإنسان بنفسه ثم سقط فيه. والمفارقة أن الإنسان الذي يعرف آليات وطرق صنع هذا الفخ لا يعرف طرق الخروج منه!! إذ يستحيل عليه إرجاع رقاص الزمن إلى الماضي، ويمحو المعرفة التقنية من العقل والواقع البشريين، بل أكثر من ذلك يبدو أن التقنية تتحرك وتتطور خارج إرادة الإنسان وسيطرته.
فهي ليست مجرد أداة يستخدمها كيفما يريد لأنها من حيث الماهية ليست مجرد أداة، بل هي نسق من المعرفة ومنظومة من الآليات التي تستبطن عوامل تطورها داخلها على نحو مستقل عن إرادة الإنسان. ولذا عندما يبدع الكائن الإنساني تقنيات معينة، فإنه يخضع عندئذ للسائد التقني.
فكل تقنية تولد ما يليها وتستخدم الإنسان لتقبل ذلك المولود الجديد. ومن ثم فالأداة هنا هو الإنسان نفسه الذي أصبح خاضعا "لإرادة" التقنية!!
ويمكن أن أمثل هذه الفكرة بالتقنية الحربية التي سار منطق تطورها الداخلي نحو تجسيد مخترعات رهيبة قادرة على تدمير الحياة وإنهائها على وجه الأرض.
ولقد تجلى هذا التطور خلال النصف الثاني من القرن العشرين -كنوع من العبث الساذج- خاصة في سياق التنافس المحموم الذي حكم صراع الاتحاد السوفياتي بالولايات المتحدة أثناء عقود ما يسمى "بالحرب الباردة"، حيث لاحظ الجانبان في النهاية أنهما سارا في طريق ملغوم لهما معا وللبشرية بأكملها.
ذلك أن أفق التطور أخذ يرسل إشارات محذرة بسبب استمرارهما في البحث عن مزيد من تقنيات الدمار الشامل، إذ وصلا إلى يقين بأن أي حرب بينهما يستخدم فيها هذا النوع من الأسلحة لن تنتهي بمنتصر ومهزوم، بل الهزيمة والدمار سيلحقان الجانبين معا، بل سيلحق الكرة الأرضية بأكملها، ولذا ارتفعت بإلحاح الدعوة إلى وقف التسلح النووي والحد من أسلحة الدمار الشامل!
واليوم نجد البشرية داخل مأزق خطير، حيث نجحت في تطوير نوع من المعارف يمكن أن أسميه "بالمعرفة القاتلة"، بينما في المقابل فشلت أو تباطأت في تطوير أنواع أخرى من المعارف هي في أمس الحاجة إليها!
وأبسط مقارنة بين ميزانية البحث العلمي في ميدان الطب وميزانية البحث في صناعة تقنيات القتل والدمار، كافية للتوكيد على أن البشرية اليوم تسير من قبل مراكز القرار السياسي ومراكز البحث العلمي على نحو مجنون نحو صناعة القتل لا صناعة الحياة!!
ويشبه آينشتاين التقدم التقني في فوضويته ولامسؤوليته الأخلاقية تشبيها جميلا ودالا حيث يقول "إن سلاح التقدم التقني يبدو مثل فأس وضعناه في يد مريض نفسي"، أي أنه في يد غير مسؤولة يمكن أن تخبط به في كل اتجاه، حتى ضد نفسها!
وبالفعل، إن التطور الذي تسير فيه صناعة تقنية الحرب تنذر بخطر ماحق لابد من التنبيه إليه، والعمل دوليا على وضع تعاقد أخلاقي لضبط هذا الوحش التقني الآخذ في التكون والبروز.
فقد أخذت تلتمع الآن أمام البشرية تساؤلات رهيبة: كيف سيكون مستقبل الإنسانية إذا استمرت الأبحاث العلمية في تطوير تقنية الدمار؟ ألا يمكن أن يبسط هذا التطور إمكانات إبداع الدمار وتقنية القتل -مثلما هو دائما منطق التطور العلمي- حيث ينساق نحو تسهيل ما هو صعب وتبسيط إمكانيات إنجازه؟ ألا يمكن أن تكون القنبلة النووية غدا في إمكان عالم فيزياء أن يصنعها في مختبره الشخصي؟ ومن ثم يكون بإمكانه في لحظة جنون أو انفعال أو غضب أن يضع نهاية مدينة بأكملها أو دولة أو قارة، أو حتى تهديد كوكب الأرض كله؟ ووقتئذ هل سيكون ثمة معنى لهذه الرقابة الدولية على الدول المستضعفة كي لا تمتلك السلاح النووي أو وقف تطويره؟ وإذا كان من الصعب مراقبة الدول فكيف يمكن مراقبة ملايين الأفراد داخل مختبراتهم؟
بل الأخطر من هذا كله أن البحث العلمي إذا استمر في مساره هذا فلن يقف عند تطوير السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل المبتدعة الآن، بل سينتهي بلا ريب إلى ابتداع أنواع أخرى جديدة أكثر دمارا! وهذا ما دفع بعض الفلاسفة والعلماء إلى المناداة بتوقيف البحث العلمي!!
لكن هل هذا التحذير من البحث العلمي تحذير معقول أم أنه مسكون بفوبيا شاذة مفرطة؟ هل يمكن أن يخلص البحث العلمي إلى حلول ومعالجات للكوارث التي ينتجها؟ بمعنى أنه لا داعي للتخويف بل يجب وضع الثقة في العلم وإطلاقه من القيود لأنه إن كان ينتج أزمات فهو قادر على إنتاج حلولها؟
شخصيا أرى أن الأفق المستقبلي أخذ يضيء إضاءات حمراء محذرة, وهذا ما يجعلني أستعير كلمة نيتشه "إن هوى المعرفة ربما قاد البشرية إلى الهلاك"!!
الطيب بوعزة
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد