مهمة جديدة صعبة لوزارات المال بعد الأزمة المالية
أذنت الأزمة المالية العالمية ببداية مرحلة جديدة لوزارات المال في مختلف أنحاء العالم. فبات على هذه الادارات العمل أكثر، وحل مشكلات أكثرتعقيداً من أي وقت مضى في التاريخ الاقتصادي الحديث. وخلصت دراسة عالمية أجرتها بوز أند كومباني استطلعت فيها رأي أكثر من 60 وزيرا للمال وكبار المسؤولين في الوزارات بالإضافة الى شخصيات بارزة في مجال الفكر الاقتصادي والمالي، إلى تطوير برنامج يؤدي تطبيقه في شكل جيد إلى إعادة اطلاق دورات اقتصادية فعالة وكفوءة.
لقد تم احتواء أسوأ آثار الأزمة المالية العالمية. غير أن مجموعة الخطوات الاستثنائية التي تطلبها تحقيق هذا الانجاز - من زيادة في الإنفاق العام لتحفيز الإقتصاد مروراً بشراء الأصول وإعطاء الضمانات - قد حولت مهمات وزارات المال وجعلتها مسؤولة عن عناصر تتعلق بالإدارة الاقتصادية أكثر بكثير مما كانت عليه في الماضي.
لذى، بادرت بوز أند كومباني الى استشراف آراء أكثر من 60 شخصية من صناع القرار وذوي التأثير في الاقتصادات الوطنية في مختلف انحاء العالم، بالإضافة الى مجموعة من قادة الفكر المعروفين عالميا في مجال السياسات الاقتصادية والمالية، كجزء من دراسة عالمية قامت بها للتحقيق في الأدوار والمسؤوليات المتغيرة لوزارات المال ما بعد الأزمة المالية العالمية. وتشير النتائج إلى أن التدابير المالية والاقتصادية التي يجري تنفيذها حاليا في هذه الاقتصادات، وتؤكد الضرورة الملحّة للإصلاحات.
وكانت بلدان كثيرة قد اتخذت خطوات لإصلاح الإدارة الاقتصادية والمالية، ويقول الدكتور جهاد أزعور المستشار التنفيذي الأول في بوز أند كومباني أنه: "على الرغم من أنها تدابير جديرة بالثناء، فقد واجهت هذه الاجراءات معارضة سياسية متزايدة، فضلا عن درجات متفاوتة من النجاح، نظرا لأنها تمثل خطوات معزولة اتخذتها وزارات المال، التي ما زالت تعمل من خلال الهيكليات المؤسسية والتشغيلية التي كانت قائمة قبل الأزمة". بدلا من ذلك، فأن على وزارات المال إجراء تغييرات جوهرية في نماذجها التشغيلية والمؤسسية في أربعة مجالات رئيسية، وهي:
· إدارة المالية العامة. ان العجز المالي الكبير الذي سببته الأزمة وتداعياتها يتطلب إدارة أكثر فعالية لمالية الحكومة.
· إدارة الأصول والديون. ان عمليات الاستحواذ الضخمة التي قامت بها الحكومات واللازمة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، إلى جانب الكميات الضخمة من الديون التي تم تكبدها من خلال هذه العملية، ضاعفت التحدي المتمثل في إدارة الأصول والديون التابعة للدولة سواء القائمة منها أو الطويلة الأجل.
الإدارة الاقتصادية. ساهمت الأزمة المالية وتداعياتها في خلق تدخلات وبعض التضارب في الصلاحيات بين الجهات المولجة ادارة الاقتصاد الكلي، مما طرح أسئلة عدة متعلقة بدور وزارات المال في الإشراف على اقتصاداتها الوطنية خلال دورات الأعمال العادية وفي الازمات.
· المساءلة والشفافية. لم يعد كافيا ضمان المساءلة والشفافية بهدف الامتثال وحده. فضلاً عن ذلك، يترتب على وزارات المال حاليا ضمان المساءلة والشفافية لزيادة مصداقية إدارة الاقتصاد الكلي في البلاد.
إنطلاقاً من هذا الواقع الجديد، إذا كان على وزارات المال أن تكون رائدة في الإدارة الاقتصادية في حقبة ما بعد الأزمة، فذلك يحتم عليها ترتيب الأولويات وفق التحديات التي تواجهها الآن في مجالات مهماتها الرئيسية الأربعة كي تتمكن من التصدي لتلك التحديات على نحو شامل، بدلا من الاكتفاء بأجراء وتغييرات معزولة وخاصة بحالات معينة في مجال السياسة الاقتصادية.
يشار أيضاً بأنه على الرغم من أن المهمات أو الصلاحيات الأربع لوزارات وهي عامة وشاملة عالمياً، فإن نهج الإصلاح يختلف من بلد إلى آخر. ويقول بيتر بيرنز الشريك في يوز أند كومباني : " مع اختلاف مستويات الاستدانة، والاختلالات المالية، وتوقعات النمو بين البلدان،فأنه ليس هناك من حل ذي مقاس واحد يناسب الجميع. ولكن، من خلال مقاربة مجموعة بلدان تملك السمات الاقتصادية والتحديات نفسها، يمكن لوزارات المال في كل مجموعة تحديد أولويات الإصلاح".
سبع مجموعات مع مروحة واسعة من الأولويات
وضعت بوز أند كومباني عددا كبيرا من البلدان من ضمن مجموعات متقاربة اقتصادياً ومالياً على أساس عوامل عدة ومنها: توازن المالية العامة والدين الحكومي الإجمالي، حجم التدخل الحكومي في الاقتصاد خلال الأزمة، وهامش الحركة الذي تملكه الحكومات لتنفيذ تغييرات في السياسات المالية والاقتصادية. وقد تم التوصل إلى تحديد سبع مجموعات ذات خصائص اقتصادية متشابهة وأولويات إصلاح متقاربة عموما.
1. بلدان لا تملك مجالا كبيرا للمناورة: مثل النمسا، بلجيكا، اليونان، إيرلندا، إيطاليا، هولندا، البرتغال، إسبانيا.
تواجه الاقتصادات المتقدمة التي تشارك في هذه المجموعة عجزاً مالياً مرتفعاً، ديونا حكومية كبيرة، كما تملك سجلا من التدخل الفاعل خلال الأزمة المالية، ومرونة منخفضة نسبيا في ما يتعلق بالتدابير المالية والنقدية المتاحة في الوقت الراهن.
يتعين أولاً على وزارات المال في هذه المجموعة أن تعيد النظر بمنظومة شبكات الأمان الاجتماعي، مثل رواتب التقاعد وأنظمة الرعاية الصحية. ثانيا ، عليها إعادة النظر في معايير عمل الأنشطة
الحكومية استنادا إلى فرضية أن المؤسسات الخاصة يمكنها تنفيذ بعض الخدمات والمهمات بشكل أكثر كفاءة من الادارت الحكومية. وأخيرًا، عليها تحسين إدارتها لملف الدين العام، من خلال تطوير القدرات التي تسمح بالتعامل مع الدين الحكومي بالفعالية نفسها التي تؤمنها الشركات الخاصة في عملية ادارة الدين والاصول.
2. بلدان من الوزن الاقتصادي الثقيل والتي تواجه مشكلات من الوزن الثقيل: مثل فرنسا، ألمانيا، اليابان، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية.
تضم هذه المجموعة اقتصادات متقدمة تعاني من ديون مرتفعة وعجز هيكلي متفاقم، ومستويات عالية نسبياً من التحفيز المالي خلال الأزمة ، ودرجة من المرونة تتيح المزيد من التدخلات المالية والنقدية.
تشترك بلدان هذه المجموعة في أولويات الإصلاح مع بلدان المجموعة الأولى. ولكن بالإضافة إلى ذلك، يجب على وزارات المال في هذه المجموعة تعزيز التنظيم والإشراف على القطاع المالي، على سبيل المثال.
3. بلدان ذات ظروف اقتصادية مؤاتية: مثل اوستراليا وكندا وفنلندا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا والنروج وسنغافورة والسويد وسويسرا.
تتمتع هذه البلدان بوضع أكثر استقرارا من المجموعتين الأولى والثانية، وذلك بفضل حكومات صغيرة الحجم وانفاق منضبط بالاضافة الى انخفاض مستويات الدين العام. ولكن في حين تعتمد العديد من الادارات المالية في هذه البلدان نهج الميزانية العمومية المجمعة في ما يخص الأصول والديون العامة ، عليها أن ترفع مستوى إدارة المخاطر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الدول يجب ان تؤيّد إجراء حوار بين القطاعين العام والخاص حول تفعيل عملية النمو.
4. اقتصادات النمو: مثل البرازيل والصين والهند وروسيا.
تتكوّن هذه المجموعة من الدول الناشئة ذات العجز المالي بين المتوسط، وعلى الأخص اقتصادات دول BRIC أي البرازيل وروسيا والهند والصين. وقد انتعشت هذه الدول بشكل أسرع بعد الأزمة وعادت إلى النمو الاقتصادي السريع. غير أنها تفتقر إلى الأطر المناسبة لإدارة المخاطر والهيكليات المؤسسية اللازمة، مما يجعلها عرضة للصدمات الخارجية.
لدى وزارات المال في هذه الدول أولويات ثلاث في الإصلاح. أولا، يتعين عليها أن تحدد وتخفف الالتزامات الاضافية. ثانياً، ينبغي عليها جعل نظمها الاقتصادية أكثر شفافية. وأخيرا، يجب رفع مستوى التنسيق والتشاور بين السياسات المالية والنقدية.
وفي حال دامت مهمات الإدارة الاقتصادية في هذه البلدان غير منسّقة في إطار واسع وشامل، فإنها ستواصل المعاناة من هزات في الدورة الاقتصادية، تتطلب في غالب الأحيان تدابير تصحيحية مرتفعة التكاليف.
5. البلدان التي توفر فيها الاحطياطات المالية حماية للاقتصاد: مثل الكويت والمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة.
تضم المجموعة الخامسة الدول الناشئة التي لديها فوائض مالية كبيرة (إذا احتُسبت الايرادات الناتجة من النفط والغاز)، وخصوصا تلك الواقعة في الخليج العربي. وتجدر الإشارة الى أن هذه الاقتصادات تضم ادارات مالية ضعيفة نسبياً لا تمكنها من التعامل بفعالية مع التحديات الجديدة والأنماط الاقتصادية التي نشأت عن الأزمة.
على وزارات المال في هذه المجموعة التركيز على تحديد وتخفيف المخاطر والالتزامات الطارئة في الموازنات العامة، ولا سيما تلك الناجمة عن التعرض للمخاطر المالية في الأسواق الخارجية.
وعليها أيضا أن تبني إحصاءات اقتصادية دقيقة وشفافية على المستوى الوطني، مما يؤدي إلى تحسين كبير في عملية صنع السياسات الاقتصادية. وقد أدركت هذه الدول أن عائدات النفط والغاز لن تدوم الى الابد. ولذلك، يتعين على وزارات المال فيها العمل على احتواء أي عجز مالي محتمل في المستقبل وذلك من خلال تحسين كبير للإنتاجية في تقديم الخدمات العامة.
6. البلدان المتعطشة للعائدات: مثل مصر وماليزيا.
تشمل هذه المجموعة البلدان النامية التي تعاني عجزاً مالياً كبيرا مع قدرة محدودة على زيادة إيراداتها، مما يجعل المسألة المالية الأكثر إلحاحا.
وتكمن أولويات وزارات المال في هذه البلدان في بناء قدرات فاعلة في إدارة المالية العامة وإدارة الديون، دون تعريض النمو للخطر.
7. بلدان ألامركزية المفرطة في الادارات المالية: مثل الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا والمجر واندونيسيا والمكسيك وجنوب أفريقيا وتركيا
المجموعة السابعة والأخيرة تشمل البلدان الناشئة التي تعاني عجزا متوسطا وأعباء ديون منخفضة نسبيا (مع بعض الاستثناءات البارزة) ولكن سجلا سيئا في الإصلاحات المالية والنقدية. وتملك هذه الاقتصادات تاريخا من السياسات التوسعية التي يمكن أن تؤدي إلى التضخم الفائق.
وتتمحور الضرورات الملحة لوزارات المال فيها حول تعزيز القدرات المركزية مثل الإدارة المالية. أما مهمات إدارة الديون والسيولة فهي أولويات مكملة.
برنامج للتغيير مبني على القدرات
يترتب على وزارات المال خلال وضع برامجها الاصلاحية، ألا تنظر إلى البيئة الخارجية فحسب بل إلى مقوماتها الداخلية أيضاً. والواقع، فإن النجاح في حقبة ما بعد الأزمة يأتي من اتباع نهج اصلاحي شامل، قائم على تعزيز القدرات لتحويل الوسائل التي يمكن بواسطتها لهذه الوزارات أن تقوم بمهماتها الموسعة.
وهناك عنصران أساسيان في نهج الإصلاح هذا: الاختيار والتركيز. يقول نبيه مارون الشريك في بوز أند كومباني : " قبل الأزمة، كان متاحا لوزارات المال أن تكون قادرة على التركيز على بضع المبادرات في وقت واحد. ولكن في عصر ما بعد الأزمة، أجبرها حجم التحديات والتعقيدات الى العمل في المجالات الأربعة الرئيسية بشكل متوازيً". ولا يمكن لوزارات المال أن تختار مجموعة مسؤولياتها، ولا تستطيع اختيار الدورة الاقتصادية التي تجد أنفسها فيها، ولكن يمكنها أن تختار التركيز على القدرات التي تحدث الفرق الأكبر في طريقة إدارة تلك المسؤوليات. وهناك خمس مبادىء عملية تساعد وزارات المال في وضع صيغة واضحة لبرنامج تغييري قائم على القدرات. والمقصود على وجه التحديد :
اكتشفْ: تحدد وزارة المال وسيلة عملها الحالية، أي النهج الذي تعتمده في عملية الاشراف على الاقتصاد والتدخل فيه، على أن تدعمها في ذلك أدوات وتدابير وهيكليات مؤسسية.
قيّمْ: تقتضي الخطوة الثانية من وزارة المال النظر في الآثار المترتبة على مختلف الطرق المحتملة للعمل ومدى نجاحها، وهل تناسب القدرات الحالية للوزارة.
إخترْ: في هذه المرحلة تقرر وزارة المال طريقة عملها المستقبلية والقدرات المرافقة لها التي تدعمها. وسوف يرسم هذا الأمر آلية تحديد الوزارة لمعالم صلاحيتها ومهماتها من أجل الاستجابة للضرورات الملحة للإصلاح المالي والاقتصادي في البلاد.
غيّرْ: في هذه المرحلة توضع الأفكار حيز التنفيذ، وتحدد وزارة المال سياسات معيّنة وأدوات للتدخل تستعملها في مجالات أساسية أو فرعية تجد أن لها دورا قياديا فيها.
تطوّرْ: تواصل الوزارة وضع الأطر لسياسات وقرارات جديدة في ضوء طريقة العمل التي اختارتها، وتستمر في تحسين نظام قدراتها أو تغييره بغية الاستجابة لضرورات الإصلاح الاقتصادي الجديدة.
خاتمة
في ضوء العبء الثقيل للمسؤولية الناجمة عن الإدارة الاقتصادية والمالية الذي فرضته الأزمة على وزارات المال، سوف يسمح برنامج تغييري قائم على القدرات لهذه الوزارات بإعادة صياغة نظم عملها وأطرها المؤسسية بطريقة متماسكة وكفوءة،. والمقصود بذلك هو الآتي:
· المزيد من التدخل الحكومي ليس الحل: على وزارات المال أن تركز على المجالات التي اكتسبت فيها "حق الريادة"، وذلك بفضل نظام قدرات يعطيها ميزة أساسية في إدارة الدورة الاقتصادية.
· ترشيد القرارات لا يكون على أساس الأهداف المالية القريبة المدى فحسب: على وزارات المال اتخاذ قرارات خفض التكاليف وقرارات الاستثمارالعام على أساس مدى مساهمة هذه البرامج في الرفاه الوطني والاستجابة للضرورات الملحة في الإصلاح المالي والاقتصادي، مع الحفاظ على قدرات الحكومة الأكثر أهمية.
· القياس مقارنة بالنظراء الإقليميين ليس وحده كافيا لتحديد أولويات البلاد وطريق تقدمها: يتطلب تعريف القدرات الصحيحة فهما عميقا لظروف البلاد المالية والاقتصادية وسلسلة من الخيارات الصعبة حول بنود البرنامج.
وسوف يشمل وضع برنامج كهذا اعتماد تدابير وإصلاحات نفذت في أنحاء مختلفة من العالم، ولكن مع تعديلها وترتيب أولوياتها وفقا لضرورات الإصلاح الخاصة لدى الوزارة المعنية.
بوز أند كومباني
إضافة تعليق جديد